المقهى في زمن الانترنيت:
الوظيفة والدلالة
د. سالم لبيض المعهد العالي للعلوم الانسانية تونس
يكاد يحصل اتفاق على أن المقهى بوصفه مكانا قاسما مشتركا للاماكن التي نحيا فيها هو عبارة على نقطة ربط بين مختلف أماكن العيش الخاصة والعامة، بين أمكنة الترفيه وأمكنة العمل وأماكن الإقامة والاستقرار والسكن وهو يلعب دورًا حيويًا في إرساء التواصل بين الأفراد وجعلهم يخرجون من ملل الحياة اليومية. حيث بات المقهى مصطلحًا مألوفًا في الحياة اليومية. ولعل زمنية المقهى أصبحت تضاهي مختلف الأزمنة الأخرى مثل العمل والمنزل، فمواعيد المقهى لم تعد مواعيدَ ثانوية مقارنة بغيرها. والمقهى الذي تم اختزال اسمه في العودة إلى المصطلح التاريخي »القهوة لا يعتبر عنصرا هامشيا كما ينعت في الذاكرة على انه كثيرا ما يكون مكانا لتبديد الوقت وإنما هو عنصر رئيسي في البنية المعمارية للمدينة الحديثة، وعلينا ان نتخيل مدينة بدون مقاهٍ فتكون النتيجة هي نوع من الاختلال المعماري قبل ان نتحدث عن الوظائف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للظاهرة.
من الناحية التاريخية يعتبر بعض المؤرخين ان ظاهرة المقهى لم تحظ باهتمام المؤرخين وخاصة المؤرخين العرب لذلك يلاحظ ندرة الدراسات والأبحاث المخصصة لهذا الموضوع حتى انها بقيت ظاهرة مجهولة من طرفهم وربّما يعود ذلك إلى نظرة موروثة تنظر إلى الظاهرة على أنها ذات طبيعة هامشية وقد وقع فكّ الارتباط مع هذا المنظور من طرف الباحثين في مجالي علم الاجتماع والانثروبولوجيا قبل أن تحظى باهتمام المختصين في ميادين أخرى من ذلك علم الاقتصاد والهندسة والمعمار.
لقد كان المقهى في بدايات نشأته فضاء أرستقراطيا بورجوازيا لكنه تحوّل في ما بعد إلى ظاهرة شعبية انتشرت في المدن وفي الأحياء السكنية حتى ان القرن التاسع عشر أصبح قرن حضارة المقهى في أوروبا.
ظهور المقهى في تونس :
كما هو الشأن في أغلب أقطار الوطن العربي »العثمانية ظهر المقهى مع انتصاب الأتراك إذ تعتبر مدينة استنبول عاصمة الدولة العثمانية أولى الفضاءات التي عرفت هذه الظاهرة وهو نفس التاريخ الذي انتشرت فيه أولى المقاهي بالايالة التونسية بالرغم من ان تجارة القهوة تعود بافريقية إلى ما قبل ذلك التاريخ والتي يرجّح أنها وافدة من المشرق العربي وتحديدا من اليمن وقد انتشرت بعدّة مدن من ذلك عدن والقاهرة.
لقد تطورت تجارة القهوة وانتشرت المقاهي في تونس بداية من الأربعينات من القرن العشرين وأصبحت مادة كثيرة الاستهلاك مثلها في ذلك مثل الشاي بعد ان باتت تجلب من المستعمرات الفرنسية بإفريقيا وقد تم احتكار تجارتها من طرف الدولة في البداية قبل التفريط فيها بداية من سنة 1952 إلى ستة تجار، أربعة فرنسيين واثنين من التونسيين هما "بن يدر" و"بلحسن".
بالرغم من عراقة بعض المقاهي التقليدية بمدينة تونس العتيقة وبسيدي بوسعيد (المقهى العالية) وقهوة الناظور، فإن انتصاب الإدارة الاستعمارية بداية من سنة 1881 قد صاحبه ظهور مقهى جديد مختلف عن المقهى المحلي هو المقهى الأوروبي الذي يعود تأسيسه إلى ما قبل ذلك التاريخ وتحديدا إلى سنة 1870 تاريخ ظهور بعض المقاهي الإيطالية.
لقد تميز المقهى الأوروبي بتونس بالتنوع في المشروبات التي يقدّمها وبالجلوس على الكراسي الخشبية وبقراءة الصحف التي يوفرها المقهى للزائرين. وأصبح للمقهى دور في النشاط السياحي فقد وقع إحصاء حوالي 50 مقهى أوروبيا إبان بدايات الفترة الاستعماري سنة 1894. وتعهدت الدولة الاستعمارية هذه الظاهرة بالمراقبة عن طريق مجموعة من القوانين والتشريعات وكذلك الأجهزة البوليسية نظرا إلى انتشار بعض المواد المحظورة مثل المخدرات، والأنشطة السياسية المعادية للإدارة الاستعمارية.
وظائف المقهى وأنواعه :
لقد تعددت المقاهي وانتشرت بشكل واسع خلال القرن العشرين ومع بداية هذا القرن ولكنها تنوعت بتنوع الفئات والشرائح التي ترتادها وكثيرا ما يعبر شكل المقهى عن نوعية مرتاديه. فبالإضافة إلى دوره الترفيهي، لعب المقهى أدوارا ووظائف أخرى متعددة.
المقهى الأدبي والثقافي: يشير رشيد الذوادي في الكتاب الذي أصدره سنة 1975 تحت عنوان »جماعة تحت السور ان المقهى له وظائف عديدة لعلّ الوظيفة الأدبية والثقافية هي الأبرز. وفي هذا الصنف من المقاهي لا يقع الاكتفاء بشرب القهوة والشاي وغيرهما من المشروبات أو تدخين »النرجيلة الوافدة من تركيا مع أرستقراطيتها السياسية والعسكرية، وإنما يقع استهلاك الإنتاج الأدبي والثقافي حيث يتحوّل إلى منبر لذلك الإنتاج. ولعل مقهى جماعة تحت السور الذي كان في منطقة باب سويقة في حاضرة تونس مثال على ذلك حيث كان يلتقي الأدباء والكتّاب والصحفيون والممثلون والرسامون. ومن أبرز مرتادي هذا المقهى علي الدوعاجي. كما لعب الطاهر الحداد صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع "وكتاب "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" دورا كبيرًا في حلقات الحوار والنقاش التي كانت تدور بمقهى القصبة بجوار مقر الحكومة التونسية، كما لعبت عدة مقاهٍ أخرى أدوارا متفاوتة في هذا المجال أمثال مقهى القشاشين ومقهى الشواشين لقربهما من جامع الزيتونة ومن دار الكتب الوطنية بالعطارين. وقد تحولت هذه الظاهرة إلى شيء معتاد فكثيرا ما يلتقي أصحاب الاتجاه الأدبي أو التيار الثقافي في مقهى يتحول إلى منبر يجمعهم. وهي ظاهرة غير مقتصرة على تونس وإنما انتشرت في كثير من العواصم العربية فالمقاهي الأدبية في دمشق هي مقاهي "البرازيل" و"شارع بورسعيد" و"مقهى الهافانا" وهي مقاهٍ كان يرتادها أدباء ومثقفون أمثال احمد صافي النجفي وبديع حقي وأنور العطار وشاكر مصطفى.. الخ. اما في مصر فلم يكن الأمر مقتصرا على القاهرة وانما انتشرت المقاهي في اغلب المدن وان كانت مقاهي القاهرة الأدبية والفنية والثقافية هي الأشهر لعل ابرزها مقهى الفيشاوي ومقهى ريش الذي احتضن ادباء كثيرين من أهمهم نجيب سرور وامل دنقل وعبد الرحمان الابنودي وجمال الغيطاني ونجيب محفوظ الذي كان يعقد فيه ندوات ادبية صباح كل جمعة يحضرها عدد كبير من المثقفين.
المقهى السياسي: لا يقلّ هذا الصنف من المقاهي أهمية عن المقهى الأدبي نظرا لاحتضانه لأحداث سياسية على درجة كبرى من الأهمية في تشكيل الواقع المعيش. فقد كانت المقاهي مراكز دائمة في نشاط الحركات الوطنية اذ تشير بعض الدراسات التاريخية إلى ان أعضاء حركة الشباب التونسي كانوا يلتقون مع عبد العزيز الثعالبي بمقهى يعرف بـ "مقهى الحاج" بالحلفاوين أثناء الفترة الموالية لأحداث الجلاز والترامواي (1911 / 1912) وقد تميز هذا المقهى بسعته واحتوائه للعديد من الفضاءات التي كانت تحتضن لقاءات تلاميذ المدارس وطلبة الجامع الأعظم آنذاك ويروج للأفكار الوطنية التي تصدر عن الثعالبي وجماعته. ولم تقتصر اجتماعات جماعة الشباب التونسي على هذا المقهى وإنما شملت مقاهيٍ اخرى مثل مقهى الجلاز بنفس المكان ومقهى باب سويقة ومقهى الأحباس بباب منارة. حتى ان البوليس السياسي أحصى ما لا يقل عن تسعة مقاهٍ يجتمع فيها أفراد حركة الشباب التونسي سنة 1913. ورغم إدراك أعضاء هذه الحركة ان المقاهي تخضع لرقابة مشدّدة فإنهم يدركون أيضا أنها فضاءات ملائمة لنشر المعلومات والدعاية المضادة للإدارة الاستعمارية. ولم يقتصر الأمر على مقاهي الحاضرة وانما انتشر الأمر بمقاهٍ عديدة في مختلف المدن خاصة المدن الكبرى منها حيث اصبحت الادارة الاستعمارية تعتبرها مراكز حقيقية للدعاية المضادة للاستعمار خاصة وانها لعبت دورا في نشر افكار الحزب الحر الدستوري الذي اسسه عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 وكذلك مبادئ وأفكار جماعة الدستور الجديد المنبثق عن مؤتمر قصر هلال سنة 1934 ولعل اضراب 1949 الذي دعت اليه جماعة الدستور الجديد والمتمثل في اضراب كافة المحلات عن العمل وغلق أبوابها في ذلك اليوم، هو الابرز في الدور السياسي للمقهى ليس من حيث هي فضاء لترويج الأفكار ولكن من حيث مشاركة أصحاب المقاهي في هذا الحدث السياسي الكبير الذي عكس مدى قدرة الحركة الوطنية على التأطير والفعل السياسي في كافة الأوساط والشرائح لاسيما اصحاب المقاهي. وقد أشار المقيم العام الى ذلك خاصة وان هذا الحدث كان متوازيا مع يوم افتتاح المجلس الكبير. وقد لوحظ نجاح كبير لهذه الحركة الاضرابية في العديد من الأماكن وخاصة مناطق الجنوب وتبين انه من بين 72 مقهى اضربت عن العمل في هذا اليوم، ستّة من بين اصحابها كانوا من المحاربين القدامى في الجيش الفرنسي او في قوات المخزن والقومية وما يعكسه ذلك من قدرة الحركة الوطنية على الاختراق والانتشار هذا اضافة الى حجم الفعل النقابي.
لا شك ان ذلك يقودنا الى ان الدور السياسي والنقابي للمقهى لم يقتصر على الفترة الاستعمارية فالمقهى علامة بارزة في نشأة الكثير من الحركات والتنظيمات السياسية والتيارات الأيديولوجية، وتكفي الاشارة الى ان حزبا كبيرا مثل حزب "البعث العربي الاشتراكي" وقع تأسيسه في أحد مقاهي دمشق وكانت انطلاقة الحزب وانطلاقة منظريه من امثال صلاح البيطار وميشال عفلق من ذلك الفضاء.
لقد كانت المقاهي أمكنة مفضلة للقاء اعضاء الأحزاب السياسية والتنظيمات وخاصة المجموعات السرية التي لم تكتسب الشرعية القانونية، كما كانت المقاهي منابر حقيقية لنشر الافكار والمبادئ والايديولوجيات التي عرفتها تونس في ظل نشأة الدولة الوطنية الحديثة ولعلنا لا نبالغ بالقول إن التيارات السياسية والأيديولوجية كانت تنتشر بواسطة تجمعات المقهى اكثر من انتشارها بالطرق الدعائية الاخرى. وينسحب نفس الشيء على الحركة النقابية فالمقهى النقابي كان ينتشر ولا يزال في كل مكان يوجد فيه اتحاد جهوي او محلي للشغل بل ان الاتحاد اصبح يستثمر المقاهي ليس من ناحية الدعاية فقط وانما بواسطة الاستثمار المادي حيث احتوت مقراته الجديدة لفضاءات مهيأة تستخدم كمقاهٍ يقع تسويغها او استغلالها من طرف الاتحاد نفسه.
ان المقهى النقابي من ابرز اصناف المقهى اليوم وقد لعب هذا المقهى ادوارا هامّة في محطات تاريخية حاسمة من تاريخ الحركة النقابية عموما والحركة النقابية في تونس بوجه عام لعل ابرزها احداث الخميس الأسود لسنة 1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984 والأحداث النقابية لسنتي 1985 1986.
ولعل ما ساعد على انتشار الأفكار النقابية والسياسية عبر المقاهي هو وجود وانتشار الظاهرة في فضاءات العمل مما يسمح باعتمادها كمنبر في مناقشة مشاكل الشغل ومختلف المشاكل والقضايا المهنية التي لها أبعاد قطاعية مهنية واخرى سياسية فكثيرا ما يرتبط المقهى بشريحة مهنية ترتاده اكثر من غيره مثل مقهى البحارة او مقهى المعلمين او مقهى الاساتذة.. او مقهى السماسرة.
المقهى الجديد او مقهى الانترنيت: مقهى الانترنيت هو شكل جديد من المقهى، وهو تعبير عن قدرة المقهى باعتباره فضاء كثيرا ما يوصف بالهامشية على ان يخترق انظمة المجتمع الشكلية. هذا الاختراق يتم في مستويين اثنين، المستوى الأول هو طبيعة الفضاء فهذا الفضاء الجديد يأخذ في الحسبان الخصائص العامة لنوعية التواصل فهو تواصل غير تقيلدي على اعتبار ان التواصل التقليدي يتمّ بين مجموعة من الأفراد بطريقة مباشرة وجها لوجه ويكون ذلك عن طريق تبادل الحديث واثارة القضايا. اما التواصل غير التقليدي فركيزته الرئيسية هي جهاز الحاسوب الذي كثيرا ما يعتمد كأداة للتعامل مع نصوص منشورة على الشبكة او التعامل مع اشخاص لا تتوفر لهم حالة تواصل سابق في ما يتعلق ب »التشات، وهناك شكل اخر يكون التواصل فيه وجها لوجه في حال كان الجهاز على درجة عليا من التحديث التكنولوجي ويحتوي على كاميرا تصوير متبادلة، ولعله في هذه الحالة يشكل عنصر التشويق في العلاقة القائمة على عدم وجود معرفة سابقة. اما المستوى الثاني فهو ابتكار شكل جديد للتواصل يتناغم مع قيم الحداثة الجديدة التي تقوم بدورها على عنصرين رئيسيين، العنصر الأول هو اعطاء قيمة رئيسية للفردية التي تجذرت بنفس القدر الذي تجذر به النظام الرأسمالي وتحوله الى نظام كوني بعد سقوط النظام الاشتراكي الذي ساد لفترة 70 سنة في الاتحاد السوفياتي السابق وتخومه في الدول الموالية او التابعة له. اما العنصر الثاني فيتمثل في تلك الثورة التكنولوجية الهائلة التي صاحبت الحداثة بل كانت احدى ابرز علاماتها في الزمن المعاصر والتي شملت مختلف مستويات الحياة البشرية. ولعل قدرة مقهى الانترنات هي الملاءمة بين العنصرين. فهذا المقهى استطاع استيعاب وتوظيف اعلى درجات التحديث التكنولوجي وفي مقابل ذلك استقطب مختلف الشرائح الاجتماعية التي ابدت استعدادا للتعايش مع طبيعة هذا المقهى الذي لا يسمح بالتواصل بشكله التقليدي المباشر وانما يوفر فرصة للتخاطب مع آخر غير معروف مسبقا وغير محدد الهوية ولكنّه مستعد للتواصل على أرضية الحد من تأثيرات الفردية التي أفرزتها حداثة النظام الرأسمالي المعاصر. تلك الحداثة التي تبرز كذلك في مستوى المواد المستهلكة وكيفية تقديمها ونوعيتها.
فنحن لا نتعامل مع نادل تقليدي يمزح احيانا ويتعامل بجدية احيانا اخرى ولا نتعامل مع مشروبات تتطلب وقتا في اعدادها وانما نتعامل مع آلة سريعة التشغيل مبرمجة على قبول النقود وتوفير المشروبات التي تحتويها من »قهوة و»شاي انجليزي ومشروبات غازية فالتواصل مع البشر في هذه الحالة يكاد يكون معدوما وانما يقتصر الامر على منتوجات توفرها تكنولوجيا حديثة تنسجم انسجاما تاما مع طبيعة الفضاء والوظيفة التي تؤديها.
رمزية المقهى ودلالات التسمية:
المقاهي هي فضاءات للتلاقي والتواصل ولكن دراسة سريعة للجانب الرمزي تفضي بنا الى القول بأن المقهى يختزل الكثير من الرموز والدلالات، يبرز ذلك في مستويين اثنين:
المستوى الأول هو رمزية المكان : فالمقهى التقليدي ينقسم بدوره الى قسمين فمن ناحية نجد المقهى الذي يعمل اصحابه على تكريس نوع من الأصالة والتمسك بالتراث من حيث الطبيعة المعمارية التي كثيرا ما تأخذ شكل الأقواس والقباب انسجاما مع العمارة العربية الاسلامية، وتكون نوعية الخشب المستعمل وزوايا الجلوس والمقاعد متناغمة مع ذلك الفضاء. ويقع تأثيث المقهى بصور تاريخية تعبر عن مرحلة تاريخية من مراحل المدينة التي يوجد فيها المقهى أو عن مراحل عدة، كما تكون الأدوات المستعملة في تقديم المشروبات وخاصة الشاي والقهوة ذات طبيعة تقليدية صنعت لأداء هذا الدور ولا غنى عن تدخين الشيشة في مثل هذه المقاهي والتي لا يسمع فيها الا لأصوات فنانين امثال ام كلثوم وعبد الوهاب وفيروز. اما النوع الثاني من المقهى فهو المقهى الأوروبي الذي لا يهتم كثيرا بالجانب المعماري وان كان شكله ينسجم مع التحولات التي تعيشها المدن اليوم فهو خليط من العمارة العربية الاسلامية والعمارة الاوروبية وكل ما يحتويه ينسجم مع ذلك الخليط في ما يتعلق بنوعية المقاعد والتأثيث الداخلي والمشروبات المقدمة والموسيقى الصاخبة احيانا والهادئة احيانا اخرى وتقديم النرجيلة، والعنصر الرئيسي هو الربح ومزيد من الربح فهو مقهى برغماتي متماهٍ ومتجانس مع طبيعة عصره.
المستوى الثاني هو دلالة التسمية: فأسماء المقاهي يمكن تقسيما الى اصناف ثلاثة:
الصنف الأول: هو التسميات ذات الدلالة التاريخية التي ترتبط بأسماء اشخاص او احداث هامة في التراث القديم او الحديث أو فترة الحركة الوطنية او غيرها من الأحداث السياسية او اسماء مدن كبيرة او قيم ذات دلالة امثال تسمية "مقهى صلاح الدين" او "مقهى القدس" او"مقهى 20 مارس" او "مقهى القاهرة" او "مقهى السلام" او "مقهى الحرية" وهذه التسمية كثيرا ما تعكس رمزية انتماء الى رأسمال ثقافي يختزل هذه الاسماء ويطمح إما الى اعادة انتاجها او احيائها في الذاكرة الجماعية التي لم تعد تخصص مساحة محترمة لذلك.
الصنف الثاني: هو التسميات الغربية المتأوربة او المتأمركة امثال مقهى "باريس" او "الشانزيليزي "او "الكوليزي" او "مقهى بونابرت" او "مقهى ميامي" او "نيويورك" او "مقهى مايكل جكسون". وهي تسميات تعكس في الوعي أو اللاوعي التأثر العميق والشديد بالآخر وتنطبق عليها مقولة ابن خلدون في اقتداء المغلوب بالغالب والتشبه به.
الصنف الثالث: يعتمد هذا الصنف تسميات محلية سواء تعلّق الأمر بأسماء اشخاص او مدن وكثيرا ما لا تختفي وراء مثل هذه التسميات خلفيات عميقة او رمزيات تذكّر بالتمسك بإرث محلي عائلي او قبلي او مديني مثل مقهى الحاج فلان او مقهى أولاد فلان او مقهى مدينة كذا.. الخ.
هل المقهى ظاهرة هامشيّة؟
هل يمكن اعتبار المقهى إفرازا هامشيا لمجتمعنا الانساني المعاصر؟
لاشك ان المقهى بالرغم من انتمائه الى الفضاءات المخصصة لأوقات الفراغ وللمعاملات غير الرسمية والشكلية فإنه استطاع ان يلعب أدوارا كبرى وخطيرة في احداث سياسية ونقابية وفي الترويج للافكار والايديولوجيات والاداب والفنون وفي عقد الصفقات الهامة وفي ارتباطه باحداث وبشخصيات على درجة كبرى من الاهمية في تاريخ البشرية (مقهى جلس فيه ماركس أو سارتر). وقد بات يشكل موضوع ابداعات ادبية وفنية سينمائية ومسرحية وهو في واقع الامر نتاج لحراك اجتماعي وتاريخي عاشته البشرية في اطار اجابتها على الاسئلة والتي كثيرا ما ترتبط بالحاجات البشرية المادية والمعنوية المتجددة وهو يعيش التحولات التي يعيشها المجتمع بأكمله ويتأثّر بها ويؤثر فيها بشكل أو بآخر.
الوظيفة والدلالة
د. سالم لبيض المعهد العالي للعلوم الانسانية تونس
يكاد يحصل اتفاق على أن المقهى بوصفه مكانا قاسما مشتركا للاماكن التي نحيا فيها هو عبارة على نقطة ربط بين مختلف أماكن العيش الخاصة والعامة، بين أمكنة الترفيه وأمكنة العمل وأماكن الإقامة والاستقرار والسكن وهو يلعب دورًا حيويًا في إرساء التواصل بين الأفراد وجعلهم يخرجون من ملل الحياة اليومية. حيث بات المقهى مصطلحًا مألوفًا في الحياة اليومية. ولعل زمنية المقهى أصبحت تضاهي مختلف الأزمنة الأخرى مثل العمل والمنزل، فمواعيد المقهى لم تعد مواعيدَ ثانوية مقارنة بغيرها. والمقهى الذي تم اختزال اسمه في العودة إلى المصطلح التاريخي »القهوة لا يعتبر عنصرا هامشيا كما ينعت في الذاكرة على انه كثيرا ما يكون مكانا لتبديد الوقت وإنما هو عنصر رئيسي في البنية المعمارية للمدينة الحديثة، وعلينا ان نتخيل مدينة بدون مقاهٍ فتكون النتيجة هي نوع من الاختلال المعماري قبل ان نتحدث عن الوظائف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للظاهرة.
من الناحية التاريخية يعتبر بعض المؤرخين ان ظاهرة المقهى لم تحظ باهتمام المؤرخين وخاصة المؤرخين العرب لذلك يلاحظ ندرة الدراسات والأبحاث المخصصة لهذا الموضوع حتى انها بقيت ظاهرة مجهولة من طرفهم وربّما يعود ذلك إلى نظرة موروثة تنظر إلى الظاهرة على أنها ذات طبيعة هامشية وقد وقع فكّ الارتباط مع هذا المنظور من طرف الباحثين في مجالي علم الاجتماع والانثروبولوجيا قبل أن تحظى باهتمام المختصين في ميادين أخرى من ذلك علم الاقتصاد والهندسة والمعمار.
لقد كان المقهى في بدايات نشأته فضاء أرستقراطيا بورجوازيا لكنه تحوّل في ما بعد إلى ظاهرة شعبية انتشرت في المدن وفي الأحياء السكنية حتى ان القرن التاسع عشر أصبح قرن حضارة المقهى في أوروبا.
ظهور المقهى في تونس :
كما هو الشأن في أغلب أقطار الوطن العربي »العثمانية ظهر المقهى مع انتصاب الأتراك إذ تعتبر مدينة استنبول عاصمة الدولة العثمانية أولى الفضاءات التي عرفت هذه الظاهرة وهو نفس التاريخ الذي انتشرت فيه أولى المقاهي بالايالة التونسية بالرغم من ان تجارة القهوة تعود بافريقية إلى ما قبل ذلك التاريخ والتي يرجّح أنها وافدة من المشرق العربي وتحديدا من اليمن وقد انتشرت بعدّة مدن من ذلك عدن والقاهرة.
لقد تطورت تجارة القهوة وانتشرت المقاهي في تونس بداية من الأربعينات من القرن العشرين وأصبحت مادة كثيرة الاستهلاك مثلها في ذلك مثل الشاي بعد ان باتت تجلب من المستعمرات الفرنسية بإفريقيا وقد تم احتكار تجارتها من طرف الدولة في البداية قبل التفريط فيها بداية من سنة 1952 إلى ستة تجار، أربعة فرنسيين واثنين من التونسيين هما "بن يدر" و"بلحسن".
بالرغم من عراقة بعض المقاهي التقليدية بمدينة تونس العتيقة وبسيدي بوسعيد (المقهى العالية) وقهوة الناظور، فإن انتصاب الإدارة الاستعمارية بداية من سنة 1881 قد صاحبه ظهور مقهى جديد مختلف عن المقهى المحلي هو المقهى الأوروبي الذي يعود تأسيسه إلى ما قبل ذلك التاريخ وتحديدا إلى سنة 1870 تاريخ ظهور بعض المقاهي الإيطالية.
لقد تميز المقهى الأوروبي بتونس بالتنوع في المشروبات التي يقدّمها وبالجلوس على الكراسي الخشبية وبقراءة الصحف التي يوفرها المقهى للزائرين. وأصبح للمقهى دور في النشاط السياحي فقد وقع إحصاء حوالي 50 مقهى أوروبيا إبان بدايات الفترة الاستعماري سنة 1894. وتعهدت الدولة الاستعمارية هذه الظاهرة بالمراقبة عن طريق مجموعة من القوانين والتشريعات وكذلك الأجهزة البوليسية نظرا إلى انتشار بعض المواد المحظورة مثل المخدرات، والأنشطة السياسية المعادية للإدارة الاستعمارية.
وظائف المقهى وأنواعه :
لقد تعددت المقاهي وانتشرت بشكل واسع خلال القرن العشرين ومع بداية هذا القرن ولكنها تنوعت بتنوع الفئات والشرائح التي ترتادها وكثيرا ما يعبر شكل المقهى عن نوعية مرتاديه. فبالإضافة إلى دوره الترفيهي، لعب المقهى أدوارا ووظائف أخرى متعددة.
المقهى الأدبي والثقافي: يشير رشيد الذوادي في الكتاب الذي أصدره سنة 1975 تحت عنوان »جماعة تحت السور ان المقهى له وظائف عديدة لعلّ الوظيفة الأدبية والثقافية هي الأبرز. وفي هذا الصنف من المقاهي لا يقع الاكتفاء بشرب القهوة والشاي وغيرهما من المشروبات أو تدخين »النرجيلة الوافدة من تركيا مع أرستقراطيتها السياسية والعسكرية، وإنما يقع استهلاك الإنتاج الأدبي والثقافي حيث يتحوّل إلى منبر لذلك الإنتاج. ولعل مقهى جماعة تحت السور الذي كان في منطقة باب سويقة في حاضرة تونس مثال على ذلك حيث كان يلتقي الأدباء والكتّاب والصحفيون والممثلون والرسامون. ومن أبرز مرتادي هذا المقهى علي الدوعاجي. كما لعب الطاهر الحداد صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع "وكتاب "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" دورا كبيرًا في حلقات الحوار والنقاش التي كانت تدور بمقهى القصبة بجوار مقر الحكومة التونسية، كما لعبت عدة مقاهٍ أخرى أدوارا متفاوتة في هذا المجال أمثال مقهى القشاشين ومقهى الشواشين لقربهما من جامع الزيتونة ومن دار الكتب الوطنية بالعطارين. وقد تحولت هذه الظاهرة إلى شيء معتاد فكثيرا ما يلتقي أصحاب الاتجاه الأدبي أو التيار الثقافي في مقهى يتحول إلى منبر يجمعهم. وهي ظاهرة غير مقتصرة على تونس وإنما انتشرت في كثير من العواصم العربية فالمقاهي الأدبية في دمشق هي مقاهي "البرازيل" و"شارع بورسعيد" و"مقهى الهافانا" وهي مقاهٍ كان يرتادها أدباء ومثقفون أمثال احمد صافي النجفي وبديع حقي وأنور العطار وشاكر مصطفى.. الخ. اما في مصر فلم يكن الأمر مقتصرا على القاهرة وانما انتشرت المقاهي في اغلب المدن وان كانت مقاهي القاهرة الأدبية والفنية والثقافية هي الأشهر لعل ابرزها مقهى الفيشاوي ومقهى ريش الذي احتضن ادباء كثيرين من أهمهم نجيب سرور وامل دنقل وعبد الرحمان الابنودي وجمال الغيطاني ونجيب محفوظ الذي كان يعقد فيه ندوات ادبية صباح كل جمعة يحضرها عدد كبير من المثقفين.
المقهى السياسي: لا يقلّ هذا الصنف من المقاهي أهمية عن المقهى الأدبي نظرا لاحتضانه لأحداث سياسية على درجة كبرى من الأهمية في تشكيل الواقع المعيش. فقد كانت المقاهي مراكز دائمة في نشاط الحركات الوطنية اذ تشير بعض الدراسات التاريخية إلى ان أعضاء حركة الشباب التونسي كانوا يلتقون مع عبد العزيز الثعالبي بمقهى يعرف بـ "مقهى الحاج" بالحلفاوين أثناء الفترة الموالية لأحداث الجلاز والترامواي (1911 / 1912) وقد تميز هذا المقهى بسعته واحتوائه للعديد من الفضاءات التي كانت تحتضن لقاءات تلاميذ المدارس وطلبة الجامع الأعظم آنذاك ويروج للأفكار الوطنية التي تصدر عن الثعالبي وجماعته. ولم تقتصر اجتماعات جماعة الشباب التونسي على هذا المقهى وإنما شملت مقاهيٍ اخرى مثل مقهى الجلاز بنفس المكان ومقهى باب سويقة ومقهى الأحباس بباب منارة. حتى ان البوليس السياسي أحصى ما لا يقل عن تسعة مقاهٍ يجتمع فيها أفراد حركة الشباب التونسي سنة 1913. ورغم إدراك أعضاء هذه الحركة ان المقاهي تخضع لرقابة مشدّدة فإنهم يدركون أيضا أنها فضاءات ملائمة لنشر المعلومات والدعاية المضادة للإدارة الاستعمارية. ولم يقتصر الأمر على مقاهي الحاضرة وانما انتشر الأمر بمقاهٍ عديدة في مختلف المدن خاصة المدن الكبرى منها حيث اصبحت الادارة الاستعمارية تعتبرها مراكز حقيقية للدعاية المضادة للاستعمار خاصة وانها لعبت دورا في نشر افكار الحزب الحر الدستوري الذي اسسه عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 وكذلك مبادئ وأفكار جماعة الدستور الجديد المنبثق عن مؤتمر قصر هلال سنة 1934 ولعل اضراب 1949 الذي دعت اليه جماعة الدستور الجديد والمتمثل في اضراب كافة المحلات عن العمل وغلق أبوابها في ذلك اليوم، هو الابرز في الدور السياسي للمقهى ليس من حيث هي فضاء لترويج الأفكار ولكن من حيث مشاركة أصحاب المقاهي في هذا الحدث السياسي الكبير الذي عكس مدى قدرة الحركة الوطنية على التأطير والفعل السياسي في كافة الأوساط والشرائح لاسيما اصحاب المقاهي. وقد أشار المقيم العام الى ذلك خاصة وان هذا الحدث كان متوازيا مع يوم افتتاح المجلس الكبير. وقد لوحظ نجاح كبير لهذه الحركة الاضرابية في العديد من الأماكن وخاصة مناطق الجنوب وتبين انه من بين 72 مقهى اضربت عن العمل في هذا اليوم، ستّة من بين اصحابها كانوا من المحاربين القدامى في الجيش الفرنسي او في قوات المخزن والقومية وما يعكسه ذلك من قدرة الحركة الوطنية على الاختراق والانتشار هذا اضافة الى حجم الفعل النقابي.
لا شك ان ذلك يقودنا الى ان الدور السياسي والنقابي للمقهى لم يقتصر على الفترة الاستعمارية فالمقهى علامة بارزة في نشأة الكثير من الحركات والتنظيمات السياسية والتيارات الأيديولوجية، وتكفي الاشارة الى ان حزبا كبيرا مثل حزب "البعث العربي الاشتراكي" وقع تأسيسه في أحد مقاهي دمشق وكانت انطلاقة الحزب وانطلاقة منظريه من امثال صلاح البيطار وميشال عفلق من ذلك الفضاء.
لقد كانت المقاهي أمكنة مفضلة للقاء اعضاء الأحزاب السياسية والتنظيمات وخاصة المجموعات السرية التي لم تكتسب الشرعية القانونية، كما كانت المقاهي منابر حقيقية لنشر الافكار والمبادئ والايديولوجيات التي عرفتها تونس في ظل نشأة الدولة الوطنية الحديثة ولعلنا لا نبالغ بالقول إن التيارات السياسية والأيديولوجية كانت تنتشر بواسطة تجمعات المقهى اكثر من انتشارها بالطرق الدعائية الاخرى. وينسحب نفس الشيء على الحركة النقابية فالمقهى النقابي كان ينتشر ولا يزال في كل مكان يوجد فيه اتحاد جهوي او محلي للشغل بل ان الاتحاد اصبح يستثمر المقاهي ليس من ناحية الدعاية فقط وانما بواسطة الاستثمار المادي حيث احتوت مقراته الجديدة لفضاءات مهيأة تستخدم كمقاهٍ يقع تسويغها او استغلالها من طرف الاتحاد نفسه.
ان المقهى النقابي من ابرز اصناف المقهى اليوم وقد لعب هذا المقهى ادوارا هامّة في محطات تاريخية حاسمة من تاريخ الحركة النقابية عموما والحركة النقابية في تونس بوجه عام لعل ابرزها احداث الخميس الأسود لسنة 1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984 والأحداث النقابية لسنتي 1985 1986.
ولعل ما ساعد على انتشار الأفكار النقابية والسياسية عبر المقاهي هو وجود وانتشار الظاهرة في فضاءات العمل مما يسمح باعتمادها كمنبر في مناقشة مشاكل الشغل ومختلف المشاكل والقضايا المهنية التي لها أبعاد قطاعية مهنية واخرى سياسية فكثيرا ما يرتبط المقهى بشريحة مهنية ترتاده اكثر من غيره مثل مقهى البحارة او مقهى المعلمين او مقهى الاساتذة.. او مقهى السماسرة.
المقهى الجديد او مقهى الانترنيت: مقهى الانترنيت هو شكل جديد من المقهى، وهو تعبير عن قدرة المقهى باعتباره فضاء كثيرا ما يوصف بالهامشية على ان يخترق انظمة المجتمع الشكلية. هذا الاختراق يتم في مستويين اثنين، المستوى الأول هو طبيعة الفضاء فهذا الفضاء الجديد يأخذ في الحسبان الخصائص العامة لنوعية التواصل فهو تواصل غير تقيلدي على اعتبار ان التواصل التقليدي يتمّ بين مجموعة من الأفراد بطريقة مباشرة وجها لوجه ويكون ذلك عن طريق تبادل الحديث واثارة القضايا. اما التواصل غير التقليدي فركيزته الرئيسية هي جهاز الحاسوب الذي كثيرا ما يعتمد كأداة للتعامل مع نصوص منشورة على الشبكة او التعامل مع اشخاص لا تتوفر لهم حالة تواصل سابق في ما يتعلق ب »التشات، وهناك شكل اخر يكون التواصل فيه وجها لوجه في حال كان الجهاز على درجة عليا من التحديث التكنولوجي ويحتوي على كاميرا تصوير متبادلة، ولعله في هذه الحالة يشكل عنصر التشويق في العلاقة القائمة على عدم وجود معرفة سابقة. اما المستوى الثاني فهو ابتكار شكل جديد للتواصل يتناغم مع قيم الحداثة الجديدة التي تقوم بدورها على عنصرين رئيسيين، العنصر الأول هو اعطاء قيمة رئيسية للفردية التي تجذرت بنفس القدر الذي تجذر به النظام الرأسمالي وتحوله الى نظام كوني بعد سقوط النظام الاشتراكي الذي ساد لفترة 70 سنة في الاتحاد السوفياتي السابق وتخومه في الدول الموالية او التابعة له. اما العنصر الثاني فيتمثل في تلك الثورة التكنولوجية الهائلة التي صاحبت الحداثة بل كانت احدى ابرز علاماتها في الزمن المعاصر والتي شملت مختلف مستويات الحياة البشرية. ولعل قدرة مقهى الانترنات هي الملاءمة بين العنصرين. فهذا المقهى استطاع استيعاب وتوظيف اعلى درجات التحديث التكنولوجي وفي مقابل ذلك استقطب مختلف الشرائح الاجتماعية التي ابدت استعدادا للتعايش مع طبيعة هذا المقهى الذي لا يسمح بالتواصل بشكله التقليدي المباشر وانما يوفر فرصة للتخاطب مع آخر غير معروف مسبقا وغير محدد الهوية ولكنّه مستعد للتواصل على أرضية الحد من تأثيرات الفردية التي أفرزتها حداثة النظام الرأسمالي المعاصر. تلك الحداثة التي تبرز كذلك في مستوى المواد المستهلكة وكيفية تقديمها ونوعيتها.
فنحن لا نتعامل مع نادل تقليدي يمزح احيانا ويتعامل بجدية احيانا اخرى ولا نتعامل مع مشروبات تتطلب وقتا في اعدادها وانما نتعامل مع آلة سريعة التشغيل مبرمجة على قبول النقود وتوفير المشروبات التي تحتويها من »قهوة و»شاي انجليزي ومشروبات غازية فالتواصل مع البشر في هذه الحالة يكاد يكون معدوما وانما يقتصر الامر على منتوجات توفرها تكنولوجيا حديثة تنسجم انسجاما تاما مع طبيعة الفضاء والوظيفة التي تؤديها.
رمزية المقهى ودلالات التسمية:
المقاهي هي فضاءات للتلاقي والتواصل ولكن دراسة سريعة للجانب الرمزي تفضي بنا الى القول بأن المقهى يختزل الكثير من الرموز والدلالات، يبرز ذلك في مستويين اثنين:
المستوى الأول هو رمزية المكان : فالمقهى التقليدي ينقسم بدوره الى قسمين فمن ناحية نجد المقهى الذي يعمل اصحابه على تكريس نوع من الأصالة والتمسك بالتراث من حيث الطبيعة المعمارية التي كثيرا ما تأخذ شكل الأقواس والقباب انسجاما مع العمارة العربية الاسلامية، وتكون نوعية الخشب المستعمل وزوايا الجلوس والمقاعد متناغمة مع ذلك الفضاء. ويقع تأثيث المقهى بصور تاريخية تعبر عن مرحلة تاريخية من مراحل المدينة التي يوجد فيها المقهى أو عن مراحل عدة، كما تكون الأدوات المستعملة في تقديم المشروبات وخاصة الشاي والقهوة ذات طبيعة تقليدية صنعت لأداء هذا الدور ولا غنى عن تدخين الشيشة في مثل هذه المقاهي والتي لا يسمع فيها الا لأصوات فنانين امثال ام كلثوم وعبد الوهاب وفيروز. اما النوع الثاني من المقهى فهو المقهى الأوروبي الذي لا يهتم كثيرا بالجانب المعماري وان كان شكله ينسجم مع التحولات التي تعيشها المدن اليوم فهو خليط من العمارة العربية الاسلامية والعمارة الاوروبية وكل ما يحتويه ينسجم مع ذلك الخليط في ما يتعلق بنوعية المقاعد والتأثيث الداخلي والمشروبات المقدمة والموسيقى الصاخبة احيانا والهادئة احيانا اخرى وتقديم النرجيلة، والعنصر الرئيسي هو الربح ومزيد من الربح فهو مقهى برغماتي متماهٍ ومتجانس مع طبيعة عصره.
المستوى الثاني هو دلالة التسمية: فأسماء المقاهي يمكن تقسيما الى اصناف ثلاثة:
الصنف الأول: هو التسميات ذات الدلالة التاريخية التي ترتبط بأسماء اشخاص او احداث هامة في التراث القديم او الحديث أو فترة الحركة الوطنية او غيرها من الأحداث السياسية او اسماء مدن كبيرة او قيم ذات دلالة امثال تسمية "مقهى صلاح الدين" او "مقهى القدس" او"مقهى 20 مارس" او "مقهى القاهرة" او "مقهى السلام" او "مقهى الحرية" وهذه التسمية كثيرا ما تعكس رمزية انتماء الى رأسمال ثقافي يختزل هذه الاسماء ويطمح إما الى اعادة انتاجها او احيائها في الذاكرة الجماعية التي لم تعد تخصص مساحة محترمة لذلك.
الصنف الثاني: هو التسميات الغربية المتأوربة او المتأمركة امثال مقهى "باريس" او "الشانزيليزي "او "الكوليزي" او "مقهى بونابرت" او "مقهى ميامي" او "نيويورك" او "مقهى مايكل جكسون". وهي تسميات تعكس في الوعي أو اللاوعي التأثر العميق والشديد بالآخر وتنطبق عليها مقولة ابن خلدون في اقتداء المغلوب بالغالب والتشبه به.
الصنف الثالث: يعتمد هذا الصنف تسميات محلية سواء تعلّق الأمر بأسماء اشخاص او مدن وكثيرا ما لا تختفي وراء مثل هذه التسميات خلفيات عميقة او رمزيات تذكّر بالتمسك بإرث محلي عائلي او قبلي او مديني مثل مقهى الحاج فلان او مقهى أولاد فلان او مقهى مدينة كذا.. الخ.
هل المقهى ظاهرة هامشيّة؟
هل يمكن اعتبار المقهى إفرازا هامشيا لمجتمعنا الانساني المعاصر؟
لاشك ان المقهى بالرغم من انتمائه الى الفضاءات المخصصة لأوقات الفراغ وللمعاملات غير الرسمية والشكلية فإنه استطاع ان يلعب أدوارا كبرى وخطيرة في احداث سياسية ونقابية وفي الترويج للافكار والايديولوجيات والاداب والفنون وفي عقد الصفقات الهامة وفي ارتباطه باحداث وبشخصيات على درجة كبرى من الاهمية في تاريخ البشرية (مقهى جلس فيه ماركس أو سارتر). وقد بات يشكل موضوع ابداعات ادبية وفنية سينمائية ومسرحية وهو في واقع الامر نتاج لحراك اجتماعي وتاريخي عاشته البشرية في اطار اجابتها على الاسئلة والتي كثيرا ما ترتبط بالحاجات البشرية المادية والمعنوية المتجددة وهو يعيش التحولات التي يعيشها المجتمع بأكمله ويتأثّر بها ويؤثر فيها بشكل أو بآخر.