لنحذو حذو "فرنسا France 24 " أو التلوث اللغوي في تونس
سالم لبيض
أستاذ جامعي
لغة عربية أنيقة تحيل على مرجعية جاحظية ، خالية من الأخطاء كتابة ونطقا ، قواعدها مضبوطة تستجيب لجميع شروط الحداثة اللغوية ، دقة في الاستعمال ، لا تستثني مجالا من تدخلها . فهي لغة العلوم الصلبة والإنسانية والقانونية والاقتصادية والطبية والتكنولوجيا ناهيك عن أنها لغة أدب أو هكذا عرفت . فنّدت كافة الأطروحات القديمة التي أسهبت في الحديث عن عجز تلك اللغة ومحدوديتها. صرامة في الاستعمال لا تستثني برنامجا من برامجها . حرفية في نقل الخبر وتحليله وإعادة إنتاجه وتأويله . دقة في معالجة القضايا واشكالاتها دون إبراز لون الدم على أنه اللون الوحيد الذي يعرفه العرب . انفتاح على الإعلاميين العرب كما ساستهم لا تميز بينهم ألوان الطيف الأيديولوجي إلا ما قلّ . مهمة صعبة يتولاها مجموعة من الشباب العربي الذي تم انتقاؤهم على أساس الكفاءة لا غير فلا موقع لجميع الولاءات والزابونيات الموازية المنتشرة هنا وهناك . كفاءة تعكس تمكنا من العربية لفظا ومعنى . كل ذلك في قناة فرنسا France 24 التي اختارت عدم التعامل مع العرب دويلات وأقطار وقبائل وعشائر أو هكذا اقتضت مصالحها. وإلا كان البث متعدد اللهجات مستخدمة اللغة التي تفهمها كل دويلة وكل قبيلة على حده . إنها رسالة فرنسا 24 إلى العرب وحدة واحدة وليس وحدات مفتتة .
في مقابل ذلك حنين قديم من قبل بعض قنواتنا التلفزية وإذاعتانا الخاصة وحتى الوطنية والجهوية مستعملة لغة لا هي بالعربية ولا بالفرنسية ولا هي بالبربرية ولا العامية . إنها طبيخ من كل ذلك هي أقرب إلى المالطية . تتركب مصطلحاتها وبناءاتها من خليط لا رابط بينه سوى رحمة ربك . كان على تلك القنوات والإذاعات بمسمياتها الكثيرة "الفسيفساء"، "الهانيبال" ، "الجوهر" ، العرائس بأنواعها ومجالات انتشارها في الساحل والصحراء ، كان عليها أن تتعلم ممن تعلموا في مدارسهم بقية الدروس ، كان عليهم أن يقرؤا الدروس التي تلقن للناشئة أول مرة لاشيء يسبق تعلم اللغة الوطنية لا شيء يحول دون احترامها .كل الشعوب الحرة لا تحيد عن هذا المبدأ . كان عليهم أن يقتدوا بالأسياد القدامى في احترام لغاتهم الوطنية . بل كان عليهم أن يمتثلوا لإرادة الشهداء ، شهداء الحركة الوطنية وأن ينفذوا وصيتهم في احترام اللغة الوطنية طالما أنهم يبثون من فوق الأرض التي ارتوت بدمائهم الزكية . ألم يقرؤوا في سجلاتهم التي عرضت منذ سنة بمناسبة خمسينية الاستقلال كم كان حجم التضحية من أجل هذا البلد ، إن لسان حال أولئك الشهداء يذكر بأن النعم التي ينعم بها بعضهم اليوم مردها إلى تلك التضحية . كان عليهم أن يحترموا الدستور الذي نص على أن العربية هي اللغة الوطنية دون سواها أم أن الدستور لم يعد يشكل مفخرة وفقد بريقه على خلاف كل المرات السابقة التي تعودوا فيها استحضار كافة التجارب مع الدساتير حتى أحييت عظام دستور عهد الأمان وهي رميم . أم أن كل تلك السنين الطويلة لم تثن عن الولوع بالتشبه بالغالب القديم ؟
مفسدة كبيرة يتعرض لها مجتمعنا بسبب طمس لغته الوطنية من قبل بعض أدواته الإعلامية الممولة من عرق أبنائه . لقد لا حظ العالم بأكمله كم كان رد فعل الرئيس الفرنسي حادا لمجرد أن أحد رجال دولته تدخل في أحد المؤتمرات بغير لغته الوطنية . يعرف الدارسون كم كان عدد الشعوب التي استعمرتها فرنسا كبيرا وكم كان أكبر عدد الأفراد الذين نزحوا أو هاجروا أو هجّروا إلى فرنسا فهل أصبحت لغة واحدة من لغات أولئك جميعا لغة ثانية في مؤسسات الدولة الفرنسية وهل كان لدولة مثل فرنسا أن تسمح بمثل ذلك ؟ إن الأمر جد مختلف لدينا فالطبيخ اللغوي لا يخلو منه فضاء عام وخاص فهو ينتشر في البيوت والشوارع والمقاهي والمغازات تسمعه وتلحظه وتراه . والدولة في مقابل كل ذلك لا تحرك ساكنا للحد من ذلك الضجيج حتى تفاقم الأمر فصارت العربية غريبة في بلادها . إن اللغة العربية باتت ممنوعة من الاستعمال في كثير من الدروس في التعليم العالي وإن الطلبة الذين لا يتقنون إلا لغتهم الوطنية لا حظ لهم في كثير من الاختصاصات وقد تخيل لنا أن الأمر يقتصر على بعض الكليات العلمية والطبية والهندسية فإذا بالعدوى تستشري لتضرب العلوم الإنسانية والقانون والاقتصاد والتصرف ، حتى أن بعضهم منع من الكتابة بالعربية في امتحان يجرى في بلاد ينص دستورها على أن العربية هي لغتها. إن الدولة مدعوة للحفاظ على الأمن اللغوي للمجتمع وهي وظيفة لا تقل أهمية ونبل عن الحفاظ عن الأمن العام فما قيمة هذا الأخير في شخصية "وطنية" متهالكة معتلة لا مكان لديها للانتماء والمواطنة والوطن .
سالم لبيض
أستاذ جامعي
لغة عربية أنيقة تحيل على مرجعية جاحظية ، خالية من الأخطاء كتابة ونطقا ، قواعدها مضبوطة تستجيب لجميع شروط الحداثة اللغوية ، دقة في الاستعمال ، لا تستثني مجالا من تدخلها . فهي لغة العلوم الصلبة والإنسانية والقانونية والاقتصادية والطبية والتكنولوجيا ناهيك عن أنها لغة أدب أو هكذا عرفت . فنّدت كافة الأطروحات القديمة التي أسهبت في الحديث عن عجز تلك اللغة ومحدوديتها. صرامة في الاستعمال لا تستثني برنامجا من برامجها . حرفية في نقل الخبر وتحليله وإعادة إنتاجه وتأويله . دقة في معالجة القضايا واشكالاتها دون إبراز لون الدم على أنه اللون الوحيد الذي يعرفه العرب . انفتاح على الإعلاميين العرب كما ساستهم لا تميز بينهم ألوان الطيف الأيديولوجي إلا ما قلّ . مهمة صعبة يتولاها مجموعة من الشباب العربي الذي تم انتقاؤهم على أساس الكفاءة لا غير فلا موقع لجميع الولاءات والزابونيات الموازية المنتشرة هنا وهناك . كفاءة تعكس تمكنا من العربية لفظا ومعنى . كل ذلك في قناة فرنسا France 24 التي اختارت عدم التعامل مع العرب دويلات وأقطار وقبائل وعشائر أو هكذا اقتضت مصالحها. وإلا كان البث متعدد اللهجات مستخدمة اللغة التي تفهمها كل دويلة وكل قبيلة على حده . إنها رسالة فرنسا 24 إلى العرب وحدة واحدة وليس وحدات مفتتة .
في مقابل ذلك حنين قديم من قبل بعض قنواتنا التلفزية وإذاعتانا الخاصة وحتى الوطنية والجهوية مستعملة لغة لا هي بالعربية ولا بالفرنسية ولا هي بالبربرية ولا العامية . إنها طبيخ من كل ذلك هي أقرب إلى المالطية . تتركب مصطلحاتها وبناءاتها من خليط لا رابط بينه سوى رحمة ربك . كان على تلك القنوات والإذاعات بمسمياتها الكثيرة "الفسيفساء"، "الهانيبال" ، "الجوهر" ، العرائس بأنواعها ومجالات انتشارها في الساحل والصحراء ، كان عليها أن تتعلم ممن تعلموا في مدارسهم بقية الدروس ، كان عليهم أن يقرؤا الدروس التي تلقن للناشئة أول مرة لاشيء يسبق تعلم اللغة الوطنية لا شيء يحول دون احترامها .كل الشعوب الحرة لا تحيد عن هذا المبدأ . كان عليهم أن يقتدوا بالأسياد القدامى في احترام لغاتهم الوطنية . بل كان عليهم أن يمتثلوا لإرادة الشهداء ، شهداء الحركة الوطنية وأن ينفذوا وصيتهم في احترام اللغة الوطنية طالما أنهم يبثون من فوق الأرض التي ارتوت بدمائهم الزكية . ألم يقرؤوا في سجلاتهم التي عرضت منذ سنة بمناسبة خمسينية الاستقلال كم كان حجم التضحية من أجل هذا البلد ، إن لسان حال أولئك الشهداء يذكر بأن النعم التي ينعم بها بعضهم اليوم مردها إلى تلك التضحية . كان عليهم أن يحترموا الدستور الذي نص على أن العربية هي اللغة الوطنية دون سواها أم أن الدستور لم يعد يشكل مفخرة وفقد بريقه على خلاف كل المرات السابقة التي تعودوا فيها استحضار كافة التجارب مع الدساتير حتى أحييت عظام دستور عهد الأمان وهي رميم . أم أن كل تلك السنين الطويلة لم تثن عن الولوع بالتشبه بالغالب القديم ؟
مفسدة كبيرة يتعرض لها مجتمعنا بسبب طمس لغته الوطنية من قبل بعض أدواته الإعلامية الممولة من عرق أبنائه . لقد لا حظ العالم بأكمله كم كان رد فعل الرئيس الفرنسي حادا لمجرد أن أحد رجال دولته تدخل في أحد المؤتمرات بغير لغته الوطنية . يعرف الدارسون كم كان عدد الشعوب التي استعمرتها فرنسا كبيرا وكم كان أكبر عدد الأفراد الذين نزحوا أو هاجروا أو هجّروا إلى فرنسا فهل أصبحت لغة واحدة من لغات أولئك جميعا لغة ثانية في مؤسسات الدولة الفرنسية وهل كان لدولة مثل فرنسا أن تسمح بمثل ذلك ؟ إن الأمر جد مختلف لدينا فالطبيخ اللغوي لا يخلو منه فضاء عام وخاص فهو ينتشر في البيوت والشوارع والمقاهي والمغازات تسمعه وتلحظه وتراه . والدولة في مقابل كل ذلك لا تحرك ساكنا للحد من ذلك الضجيج حتى تفاقم الأمر فصارت العربية غريبة في بلادها . إن اللغة العربية باتت ممنوعة من الاستعمال في كثير من الدروس في التعليم العالي وإن الطلبة الذين لا يتقنون إلا لغتهم الوطنية لا حظ لهم في كثير من الاختصاصات وقد تخيل لنا أن الأمر يقتصر على بعض الكليات العلمية والطبية والهندسية فإذا بالعدوى تستشري لتضرب العلوم الإنسانية والقانون والاقتصاد والتصرف ، حتى أن بعضهم منع من الكتابة بالعربية في امتحان يجرى في بلاد ينص دستورها على أن العربية هي لغتها. إن الدولة مدعوة للحفاظ على الأمن اللغوي للمجتمع وهي وظيفة لا تقل أهمية ونبل عن الحفاظ عن الأمن العام فما قيمة هذا الأخير في شخصية "وطنية" متهالكة معتلة لا مكان لديها للانتماء والمواطنة والوطن .