التكنولوجيا أيديولوجيا العصر
د.سالم لبيض
قسم علم الإجتماع
المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس
مفارقة يعيشها الإنسان المعاصر الذي ينتج التكنولوجي كما الذي يستهلكه سواء بسواء . أساس تلك المفارقة هو الاعتقاد بأن التكنولوجي يرادف التقدمي والعصرني ، فهو حياة بكاملها لا يدرك معناها إلا من عاشها . وهو إنساني بمعنى الكونية لا يستطيع أن يفلت من قبضته من بني البشر إلا من تمت دعوتهم إلى عوالم أخرى غير مألوفة وحتى أولئك يجهزون إلى عوالمهم الجديدة بواسطته . إن قدرة التكنولوجي على اختراق الزمان والمكان وإعادة تنظيمهما بما يناسب منطقه الخاص أمر يعسر تجاهله . إن التكنولوجي اليوم يعيد تنظيم جميع العلاقات فلم يستثن الاقتصاد حيث تجاوز حجم المعاملات بواسطة التجارة الإلكترونية حديثة الظهور البليون دولار سنويا . ولم يعد المال ممثلا بالذهب أو المبالغ النقدية الملموسة فأصبح يخزن إلكترونيا في حواسيب البنوك العالمية وغدت قيمته تحدد بأسعار الصرف والأسهم المتداولة لحظة بلحظة . ومن جراء تزاوج بين الحواسيب وتقانة الاتصال الفضائية تحول تبادل العملات وصرفها إلى سوق عالمية تنشط دون توقف. ولم يستثن السياسة حيث بات فرز الأصوات في الانتخابات التي تجري في المجتمعات الكبرى كما في الصغرى يتم في ساعات إن لم يكن في دقائق بعد أن كان يستغرق أسابيع . هذا علاوة على الحظوظ الكبرى التي توفرها أدوات الدعاية لمن يمتلكها . وفي الميدان الطبي فقد المقدس قدسيته ونزعت عن الجسد حرمته بعد أن نشر التكنولوجي أدق خصوصياته وإلى غير رجعة كاشفا ستره ذلك الحصن الديني صعب الاختراق . فبات بالإمكان معرفة جنس الأجنة قبل ولادتها وفتحت أبواب التدخلات الطبية على مصراعيها ليس من أجل استئصال الأمراض فحسب وإنما بملامسة الجسد جراحة وتجميلا ، نظارة وتبجيلا ، مما يحفز على الحياة ويجدد معناها وفاء لطوبى قديمة تُدعى السعادة . ولم يستثن عالم الاتصال فعرف ثورة لا تضاهيها نظيراتها صاحبها اختراق لجميع أجهزة الرقابة السياسية والأمنية والأخلاقية والدينية وللحدود التقليدية التي لم تعد تحتفظ إلا بخيالات كاريكاتورية مخيفة وقديمة . مما جعل من إحدى ربيباتها أي سيادة الدولة بل الدولة نفسها كـ "جذع نخل خاو" فقد مقوماته القديمة . كيف لدولة أن تحتفظ بسيادتها على أرضها والحال أن خلاياها لا شيء يقيها أو يحميها من المخبرين الجدد تلك الأقمار الصناعية غزيرة الجاسوسية حتى لا تكاد تفلت من عدساتها أسراب النمل ودبيبه . ألم تعرض الصور الملتقطة عن طريق الأقمار الصناعية كيف تحول حي سكني بعاصمة زمبابوي إلى هباء منثور سرعان ما جعلت منه منظمة هيومن رايتز قضية من قضايا حقوق الإنسان ؟ لقد بدأ الأمر أول مرة مع ظهور التلفزيون ، بدأ تسلية وتحول عنفا تمارسه الدولة على رعاياها لينتهي اغتصابا للعقول . إن التلفاز على حد تعبير "بودريار" المفكر الفرنسي ما بعد الحداثي لا يعرض لنا العالم أو يعكسه أو يمثله وإنما أصبح بصورة متزايدة يحدد ويعيد تعريف ماهيته فهو ينقل " عالم الواقع المفرط " أما الواقع الحقيقي فلم يكن موجودا . في خضم ذلك التنامي للتكنولوجي صورة ودعاية وقهرا حتى أن البعض خال أن الصورة تربعت نهائيا على عرشه وأن الوسائل الأخرى لن تتجاوز أدوارها وصيفات الملكة المتوجة التي تأمر ولا تؤمر ، فتح الأبواب مجتمعة كائن تكنولوجي ليس بالجديد ولا هو بالقديم . إنه الهاتف الذي غير من أسمائه قبل تغيير أشكاله فهو الجوال والمنقول والمحمول والخلوي والموبايل . وهو الخفيف الذي لا يثقل والصغير الذي لا يكبر والمقرب الذي لا يبعد ولا ترهقه المسافات . تقول لنا الإحصائيات أن مستعمليه لم يتجاوزوا 11 مليونا سنة 1990 ليقفزوا إلى 400 مليون سنة 2000 ولا شك أن هذا الرقم قد تضاعف عدة مرات منذ ذلك التاريخ ولا يزال . لقد أعاد الجوال سلطة الكلمة وبريقها وانتصر لتلك المجتمعات التي كثيرا ما وصفتها علوم المجتمعات البيضاء فيما تطلق عليه أنثروبولوجيا بالبدائية والتخلف لأنها لم تتجاوز مرحلة المشافهة . فهاهي الشفهية تعود مرة أخرى بعد أن نزعت ثوبها القديم مخترقة أشد المجتمعات تصنيعا وبعد أن وجدت في التكنولوجي مقاسا على حجمها غير القابل للقياس . تكلم فتكلم ثم تكلم ، فأنت لا تتكلم بقدر ما تستعيد ثأرك القديم إنك تحافظ على لغتك ، إثنيتك ، وطنك ، هويتك ، تاريخك ، بعد أن علموك أنه بات أمرا مقضيا ولم يعد للتاريخ معنى في عالم اليوم أسياده من لا تاريخ لهم. فأنت لا تعيد الاعتبار لكل أولئك وإنما تنهي حقبة طال أمدها من دونية لغوية ومن تفاضلية ما كان لها لو لا بعض أبناء جلدتك الذين قبلوا وظيفة السائس ، والسائس كما وصفته معاجم اللغة هو الذي يقود حصان أو جمل سيده أو سيدته راجلا. إنه جهازك الذي يمكنك من قول ما تشاء ومتى تشاء ومع من تشاء وباللغة التي تشاء لا يحول دون ذلك سوى قوام الأعمال . إن الكلام على الكلام صعب وكأني بالجوال قد تفطن إلى تلك الحكمة القديمة فعاد إلى الصورة أو عادت إليه لا ندري من عاد إلى الآخر ولكننا نعلم أنه استطاب أنوثتها ليوشح بها صدره فهو قارئ أخبار ورسائل المحبين في كافة التي المجتمعات تختلف لغة وحضارة ولكنها تتفق على مكانة الأنثى وسلطانها الذي بفضله شيدت قصور وممالك ودول وبه تحطمت أخرى . لم تنته تجربة الهاتف عند حدود تلك النقلة النوعية وإنما استطاع بواسطة خيوطه وخطوطه ومسالكه القديمة التي تكاد تضيع في زحمة مواليد التكنولوجي المفرطة الدقة والحداثة رغم عسر المقارنة مع الحداثات التقليدية منذ الأنوار الأوروبية وإلى اليوم . في زحمة كل ذلك شبكة عنكبوتية عجيبة عرفت لاحقا بالإنترنت ولدت في المسارب القديمة ، ولدت ولادة عسيرة ، في أحضان العسكريتاريا الأمريكية ، عملت على احتكارها من أجل تيسير وظيفة جنودها وضباطها في الاتصال ، إن عصب المؤسسة العسكرية هو الاتصال . لكن ذلك لم يعمر طويلا فليس بالسهل العيش مع" العسكريتاريا "، مع مؤسسة نموذجها المثالي هو الطاعة والولاء لمن هو أعلى في سلم التراتب دون اعتبار لأي نوع من أنواع الإيطيقا . أو أن لتلك المؤسسة إيطيقاها الخاصة . وجد ذلك الوليد من يحتضنه فالأنترنت لم تنم نموا حقيقيا إلا في المدائن وحدائقها الجميلة المعلنة المفتوحة للجميع في مجتمع مدني إنساني تختفي فيه الألقاب والرتب لتحل محلها مقولة "الإنسان المناسب في المكان المناسب" . فما كان للإنترنت أن تبقى جامدة أسيرة لسرية ناتجة عن ظروف ولادتها، فبمجرد أن كشف عن ذلك المولود الجديد حتى تدافعت مؤسسات مجتمع المدينة من جامعات ومخابر وشركات كبرى على احتضانه وتنميته حتى تضمن له الاستمرارية والبقاء خدمة لمصالح يعكسها سمك نظارات كل طرف. وعلى المرء أن يطلق العنان لخياله إذا لم يكشف ذلك المولود فكيف سيكون مصير تلك الشبكة ومعنى الاتصال ؟ إن إثراء حقيقيا لمواقعها وأرصدتها المختلفة جاء هذه المرة ممن لا عنوان لهم بل ممن حرموا من حقهم في العناوين من أولئك الخارجين عن أنساق السياسة والدين والأيديولوجيا والأخلاق ، المحرومين من حقوق التعبير لهذا السبب أو ذاك إنهم المهمشون والمقصون من حضيرة النسق لعدم وجود تناغم في الألوان . إنهم الخارجون عن سلطان الذين لا سلطان لسواهم ومن يخرج عن ذلك السلطان فمصيره الإفساد والإذلال. ولإذلال أولئك الخارجين عن النسق وإفساد ما هم به يفكّرون شرّعت لتلك الشبكة قوانين خاصة بها وانتصبت محاكم الافتراضي إنتصابا ماديا لتلاحق كل منتهكي شرفها . وكانت أولى الضحايا طفولة هي للبراءة منسوبة تعاش على حد تعبير الشاعر صباحا مساء ويوم الأحد ، و"الشعراء يتبعهم الغاوون وفي كل واد يهيمون". والهيام من فعل هام بها هيما وهيوما وهياما وهيمانا وتهياما ، وهي جميعها حسب لسان العرب لا تحيل على العشق فقط وإنما تتعدد معانيها لتفيد الضياع والخبل والجنون . لقد ضاعت الطفولة في أروقة الشبكة العنكبوتية واستحال الضياع هياما ثم عشقا ثم جنونا في دهاليز تراءت أنها تخفي كنوزا فإذا بالشبكة تتحول في الوظيفة إلى "برّاءة" وهي عند إبن منظور " السكين التي تبرى بها القوس" ومن ثمة تسقط كافة الأمنيات بعد أن تهاوت أساساتها وتنتهي الأسطورة الجديدة التي باتت قديمة "لا سلطان لرقيب" . انكشف السر كشفته الطفولة وبات درسا يضاف إلى الدروس الأولى "لا شيء خارج النسق" ومن يريد غير ذلك فعليه أن يبحث خارج الشبكة كما اعتاد أن يفعل في البداية . ومع ذلك لم ينطفئ بريقها ولازالت الشبكة تشتبك أفكارا وأسرارا وصورا يلاحقها كلام وكلام تلاحقه صور ، نصوص مبثوثة تضمي العطشى، فكأني بها تتحلل من كل من هام بها فاستحال هيامه ضياعا . لقد تعددت مراسيلها بأسمائهم الأعجمية والعربية وحتى العبرية "قوقل" و"أين" و"يهو" وغير ذلك كثير ويكفي دعوة أحدهم حتى يأتيك بأخبار قدماء القوم كما محدثيهم فتجالس الموتى كما الأحياء وتستحضر بيانات الأولين والآخرين وحتى محاورتهم مباشرة إن كانوا على قيد الحياة . ما كان للشبكة أن تتولى كل تلك الوظائف لو لا ذلك الكائن الأكثر عجبا المدعو كمبيوترا أو حاسوبا أو دماغا آليا أو إنسانا آليا والتسمية تعكس في تعددها صدمة الحضارات مع الكائن الجديد . ميزته أنه غير وجه الحياة في كافة المجالات . إن إنسانية اليوم على اختلاف حضاراتها وقيمها ومصالحها تنظر إلى الكمبيوتر على أنه "الخلق الإنساني" الأهم في تاريخها حتى لا يكاد يضاهيه خلق في علم الإنسان الذي ما انفك يطوره إلى أن استوى على هيئته الحالية غير النهائية طالما أن ذلك المخلوق قابل لاستيفاء الخلق . لقد أطلق عليه مخترعوه صفات هي من صميم ذات الإنسان فحمل المسميات عينها من رأس وذراع ودماغ ووجه وانطبق الأمر على نسقه المنظم بتسميات مثل الشبكة العصبية ، الذكاء الاصطناعي ، النظام البصري ، لغة الحواسيب ، الوعي الحاسوبي، الاتصال الحاسوبي ، المنطق الحاسوبي ، العنوان الحاسوبي والتعلم الذاتي للحاسوب حتى راجت مصطلحات من قبل "انتظر فهو يقرأ" على ما للكلمة من قدسية وتم الإعتراف بذاكرته القصيرة والأخرى البعيدة المدى . كما أطلقت أوصاف أخرى يتماه فيها الجهاز الجديد مع الموروث الثقافي البشري وهويته الإنسانية فأصبحت للحواسيب أسرا وأجيالا وحياة اجتماعية وفكرية وإيطيقية وبات له تاريخ خاص ومتاحف تخرجه من دائرة من لا تاريخ لهم وتسربت الجريمة للعالم الإلكتروني والافتراضي فسنت القوانين التي تجعل من بعض الممارسات جرائم حاسوبية وإلكترونية ، ومن بعض المواد فواضل ونفايات قد تهدد وجوده كما تهدد مثيلاتها وجود الإنسان . ووجدت الفيروسات الوبائية ذات الطبيعة الإلكترونية حقولا ملائمة تعيش فيها وتنمو وتفنى . لقد وضع الإنسان ثقته في الحواسيب فآئتمنها على أمنه وعلى نفيس ما يملكه مثل منزله أو سيارته التي يؤدي مجرد الاقتراب منها إلى اشتغال تلك الأجهزة والتنبيه إلى الخطر المحدق . ويتجاوز الأمر إلى ما يشبه أشرطة الخيال العلمي عندما يعهد إلى الحواسيب بأمن مجتمعات بكاملها فتكون سياداتها رهينة لذلك، فيكفي أن ترسل الرادارات بإشاراتها حتى تلتقطها تلك الحواسيب وتحولها إلى بيانات تستحق المتابعة . إن ذلك الجهاز وبواسطة كل تلك الوظائف مكن الانسان من اكتساب صفة الخلق التي هي في الأصل صفة إلهية . فالإنسان كمخلوق متميز عن بقية الكائنات يتضمن شيئا من روح الله "فإذ سويته ونفخت فيه من روحي" . تحتوي الآية على أكثر من بعد ، ذكرت التسوية أي الانتهاء من الخلق على الصورة الموجودة ثم النفخ فيه من روح الله . وعلى الرغم من أن الروح بقيت أمرا إلهيا صرفا " قل الروح من أمر ربي" وعلى الرغم كذلك من أن نفس المصطلح ورد في سياقات أخرى وأكتسب دلالات قد تكون مغايرة "يوم يقوم الروح والملائكة صفا" ، "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا". فإن دلالة المصطلح نستخدمها على خلفية شرح آبن منظور من أن "المراد بالروح الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة" ، إن هذا التفسير قد ينسحب على كائنات حية أخرى ولكن الحياة الإنسانية ذات خصوصية لأن الإنسان ليس كائنا حيا فقط وإنما كائن ذكي . إن ثمرة الخلق الإلهي كانت "آدم" ، اكتملت تلك الثمرة نهائيا بعد أن نفخ الله فيه من روحه ، آدم يرمز إلى إنسان -بدون تعريف- اكتسب بعض صفات الله ، من ذلك القدرة على الخلق ، ترجمها الإنسان إلى أسماء متعددة مثل الابتكار والاختراع ولكنها في نهاية الأمر مجرد مسميات لملكة الخلق الذي يمكن تعريفه "بإيجاد شيء غير موجود سابقا" ويكون ذلك من العدم "من آياته خلق السماوات والأرض" أو بتحويل مواد معينة فينشأ شيء جديد يختلف نوعيا "وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا" و"خلق الإنسان من صلصال كالفخار". نفهم من تلك الآيات القرآنية الكريمة ومثلها كثير أن للخلق مستويين الأول هو الخلق من عدم وهي صفة إلهية محضة لا يشترك فيها مع الله أحد أما الثاني فهو الخلق عن طريق التحويل وهذه الصفة أكسبها الله الإنسان عن طريق الروح التي نفخها فيه . وعندما نتأمل التكنولوجيا التي ابتكرها الإنسان نلاحظ أنها تمثل أشكالا من الخلق الإنساني وأنها تحولت من مادة إلى أخرى تختلف عنها نوعيا . إن تلك المبتكرات لا يمكن أن تشتغل إلا إذا تولاها الإنسان . لكن الأمر سيختلف نوعيا عندما تتمكن تلك الابتكارات والآلات من العمل بواسطة ما يسمى "الوازع الذاتي" والعبارة خلدونية المنشأ ، أي من تلقاء أنفسها فنزع احتكار تلك الصفة على الذات الإنسانية بعد أن باتت تلك الآلات والأجهزة قابلة للبرمجة وذاتية الاشتغال عن طريق عقلها الإلكتروني المسمى الكمبيوتر الذي أصبح الدماغ المحرك لأغلب المبتكرات التقنية المعاصرة . لنفترض جدلا أن الإنسان استحال "خالقا" بالمعنى التحويلي للخلق وليس بمعنى القدرة على البعث من العدم ، لنتساءل والسؤال مشروع كيف انتقلت عملية الخلق بمعناها التحويلي من خالق مطلق في الزمان والمكان هو الله إلى خالق محدود بل لنقل مخلوقا هو الإنسان ؟ نجتهد في الإجابة فنقول لقد تحولت تلك الصفة إلى الإنسان عن طريق العلم الذي هو في الأصل وحسب التمشي الذي نعتمده هو صفة إلهية "وسع كل شيء علما أفلا تذكرون "، "وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة "، "وأتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما شاء" . كل تلك الآيات تفيد أن صفة العلم هي صفة إلهية أكسبها الله لمخلوقه المسمى إنسانا ولكنه ذكّره بأنه "وفوق كل ذي علم عليم" . بمعنى آخر فإن العلم الإنساني محدود ونسبي ضرورة . حقيقة أدركها الفلاسفة فترجمت قولا "إن تاريخ العلوم ليس سوى تاريخ القطائع الإبستيمولوجية " مما يعني أن ما كان بديهيا بالأمس هو محل جدل اليوم ، فلا إطلاقية في العلم رغم الثورات الكبرى التي عرفتها مسيرته إحدى أبرز تجلياتها هو الكمبيوتر نفسه . هذا الجهاز الذي يخزنه الإنسان بالمعلومات على الطريقة التي علم الله بها آدم الأسماء . ورغم الحجم الكبير للأسماء الكمبيوترية وما بات الكمبيوتر قادرا على تخزينه وحمله من تلك المعلومات المتكاثرة ضرورة فإنه يبقى كائنا محدودا في الزمان والمكان شأنه في ذلك شأن الإنسان . ويبرز التشابه في عدة مستويات أخرى مثل الحاجة إلى الطاقة ومصدرها الغذاء والأكسيجن لدى الإنسان والكهرباء لدى الكمبيوتر ، والاعتدال في درجة الحرارة لكليهما . ويفتقدان أيضا لصفة الخلود الذاتي مع الاستمرارية من جيل إلى جيل . يتفوق الإنسان على الكمبيوتر بالقدرة على التفاعل مع كافة الاحتمالات والوضعيات والتأقلم معها ومع ما تطرحه من مشكلات والقدرة على الحركة في الفضاء بالمقابل يتفوق الكمبيوتر بسرعة نقل المعلومة مهما كانت طبيعتها والمسافات الفاصلة . لكن يبقى الحاسوب محدود الاستجابة لما يطرح عليه من مسائل فلا يستجيب لها إلا في حدود ما يبرمجه له الإنسان الذي يمكن أن يتخطى كافة الحدود المعقولة ولا أدل على ذلك الاستخدام الحاسوبي في الحروب أو في مجال استكشاف الفضاء. إن ذلك الذكاء الكمبيوتري المتنامي قد أنشأ قيما إنسانية جديدة قوامها ترميز أو تشفير الذات الإنسانية . فالبشر تحولوا إلى أرقام ، علامات مسجلة لا فرق بينهم ، لأن الكمبيوترات لا تعرفهم إلا كأرقام أما ذواتهم وانتماءاتهم وهوياتهم وحتى إبداعاتهم فلا معنى لها اليوم . لقد كتب الفرابي منذ زمن بعيد "هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له كل واحد .وقولنا إنه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد الذي لا يقع فيه اشتراك " وتأكد ذلك القول حديثا من أن "مفهوم الهوية يدل على ما به الشيء هو هو بوصفه موجودا متفردا متميزا عن غيره". الهوية الكمبيوترية والافتراضية لا تقبل التفرد والخصوصية الجميع غير معروفين ومعروفين في نفس الوقت غير معروفين لأنه لا يوجد ما يميز ذاتا عن أخرى ومعروفين لأن الجميع مخزنين في حافظة الجهاز لهم أرقام وبصمات وأضيفت إليهم اليوم خصائص العين إذا دخلت البصمة حيز الشك وغدا لا أحد يفلت من الترقيم عندما يعمم كشف الأفراد عن طريق الحامض النووي. وبواسطة الحاسوبية الجديدة ملايين البشر يتحاورن ويتجادلون ويتخاصمون مع بعضهم البعض دون أن يعرف أحد آخر هو حلم قديم بل طوبى قديمة لبعض الفلاسفة بوجود مجتمع إنساني واحد موحد لا فوارق بين المنتمين إليه مهما كان نوعها وهو مطمح أصحاب الشركات الكبرى لتحقيق السوق العالمية الكبرى التي لا تعرف الحدود . ولكن الأمر ليس بهذه الطوباوية فالحكمة الإلهية القديمة من كون "الناس شعوبا وقبائل " يفسد على الجميع نبوءتهم . فالمجتمعات ليست متباينة ثقافة وحضارة ولغة وانتماء فحسب وإنما هي مختلفة استطاعة وقدرة على الحياة بأشكالها الأولية وغالبها لا يستجيب لدعوة الانخراط في المجتمع الإنساني بمقوماته الجديدة أي الدولة الليبرالية المطلقة وبلغة فوكوياما في نهاية التاريخ لقد إختارت أن تعيش رقصة الدم أي أن تبقى خارج التاريخ أو هي مجبرة على فعل ذلك . وأهمية كل ذلك أنها تلعب دورا لا وظيفيا وهذا الدور على ثانويته قد يعيد الإعتبار للقيم القديمة ويفند ما بات يعتقد أنه بديهيا من أن " التكنولوجيا هي أيديولوجيا هذا العصر".
المراجع
-القرآن الكريم
- أنطوني قيدنس علم الإجتماع منشورات المنظمة العربية للترجمة بيروت 2005
-علي محمد رحومة الإنترنت والمنظومة التكنو-إجتماعية سلسلة أطروحات الدكتوراه مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2005
- ابن منظور لسان العرب مؤسسة التاريخ العربي–دار إحياء التراث بيروت 1992
Mnakri Moufida, Metaphor in English-Arabic Telecommunication Terminology: A Cognitive View. Master in applied linguistics . Institut Superieur des Langues de Tunis. 2004-2005
د.سالم لبيض
قسم علم الإجتماع
المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس
مفارقة يعيشها الإنسان المعاصر الذي ينتج التكنولوجي كما الذي يستهلكه سواء بسواء . أساس تلك المفارقة هو الاعتقاد بأن التكنولوجي يرادف التقدمي والعصرني ، فهو حياة بكاملها لا يدرك معناها إلا من عاشها . وهو إنساني بمعنى الكونية لا يستطيع أن يفلت من قبضته من بني البشر إلا من تمت دعوتهم إلى عوالم أخرى غير مألوفة وحتى أولئك يجهزون إلى عوالمهم الجديدة بواسطته . إن قدرة التكنولوجي على اختراق الزمان والمكان وإعادة تنظيمهما بما يناسب منطقه الخاص أمر يعسر تجاهله . إن التكنولوجي اليوم يعيد تنظيم جميع العلاقات فلم يستثن الاقتصاد حيث تجاوز حجم المعاملات بواسطة التجارة الإلكترونية حديثة الظهور البليون دولار سنويا . ولم يعد المال ممثلا بالذهب أو المبالغ النقدية الملموسة فأصبح يخزن إلكترونيا في حواسيب البنوك العالمية وغدت قيمته تحدد بأسعار الصرف والأسهم المتداولة لحظة بلحظة . ومن جراء تزاوج بين الحواسيب وتقانة الاتصال الفضائية تحول تبادل العملات وصرفها إلى سوق عالمية تنشط دون توقف. ولم يستثن السياسة حيث بات فرز الأصوات في الانتخابات التي تجري في المجتمعات الكبرى كما في الصغرى يتم في ساعات إن لم يكن في دقائق بعد أن كان يستغرق أسابيع . هذا علاوة على الحظوظ الكبرى التي توفرها أدوات الدعاية لمن يمتلكها . وفي الميدان الطبي فقد المقدس قدسيته ونزعت عن الجسد حرمته بعد أن نشر التكنولوجي أدق خصوصياته وإلى غير رجعة كاشفا ستره ذلك الحصن الديني صعب الاختراق . فبات بالإمكان معرفة جنس الأجنة قبل ولادتها وفتحت أبواب التدخلات الطبية على مصراعيها ليس من أجل استئصال الأمراض فحسب وإنما بملامسة الجسد جراحة وتجميلا ، نظارة وتبجيلا ، مما يحفز على الحياة ويجدد معناها وفاء لطوبى قديمة تُدعى السعادة . ولم يستثن عالم الاتصال فعرف ثورة لا تضاهيها نظيراتها صاحبها اختراق لجميع أجهزة الرقابة السياسية والأمنية والأخلاقية والدينية وللحدود التقليدية التي لم تعد تحتفظ إلا بخيالات كاريكاتورية مخيفة وقديمة . مما جعل من إحدى ربيباتها أي سيادة الدولة بل الدولة نفسها كـ "جذع نخل خاو" فقد مقوماته القديمة . كيف لدولة أن تحتفظ بسيادتها على أرضها والحال أن خلاياها لا شيء يقيها أو يحميها من المخبرين الجدد تلك الأقمار الصناعية غزيرة الجاسوسية حتى لا تكاد تفلت من عدساتها أسراب النمل ودبيبه . ألم تعرض الصور الملتقطة عن طريق الأقمار الصناعية كيف تحول حي سكني بعاصمة زمبابوي إلى هباء منثور سرعان ما جعلت منه منظمة هيومن رايتز قضية من قضايا حقوق الإنسان ؟ لقد بدأ الأمر أول مرة مع ظهور التلفزيون ، بدأ تسلية وتحول عنفا تمارسه الدولة على رعاياها لينتهي اغتصابا للعقول . إن التلفاز على حد تعبير "بودريار" المفكر الفرنسي ما بعد الحداثي لا يعرض لنا العالم أو يعكسه أو يمثله وإنما أصبح بصورة متزايدة يحدد ويعيد تعريف ماهيته فهو ينقل " عالم الواقع المفرط " أما الواقع الحقيقي فلم يكن موجودا . في خضم ذلك التنامي للتكنولوجي صورة ودعاية وقهرا حتى أن البعض خال أن الصورة تربعت نهائيا على عرشه وأن الوسائل الأخرى لن تتجاوز أدوارها وصيفات الملكة المتوجة التي تأمر ولا تؤمر ، فتح الأبواب مجتمعة كائن تكنولوجي ليس بالجديد ولا هو بالقديم . إنه الهاتف الذي غير من أسمائه قبل تغيير أشكاله فهو الجوال والمنقول والمحمول والخلوي والموبايل . وهو الخفيف الذي لا يثقل والصغير الذي لا يكبر والمقرب الذي لا يبعد ولا ترهقه المسافات . تقول لنا الإحصائيات أن مستعمليه لم يتجاوزوا 11 مليونا سنة 1990 ليقفزوا إلى 400 مليون سنة 2000 ولا شك أن هذا الرقم قد تضاعف عدة مرات منذ ذلك التاريخ ولا يزال . لقد أعاد الجوال سلطة الكلمة وبريقها وانتصر لتلك المجتمعات التي كثيرا ما وصفتها علوم المجتمعات البيضاء فيما تطلق عليه أنثروبولوجيا بالبدائية والتخلف لأنها لم تتجاوز مرحلة المشافهة . فهاهي الشفهية تعود مرة أخرى بعد أن نزعت ثوبها القديم مخترقة أشد المجتمعات تصنيعا وبعد أن وجدت في التكنولوجي مقاسا على حجمها غير القابل للقياس . تكلم فتكلم ثم تكلم ، فأنت لا تتكلم بقدر ما تستعيد ثأرك القديم إنك تحافظ على لغتك ، إثنيتك ، وطنك ، هويتك ، تاريخك ، بعد أن علموك أنه بات أمرا مقضيا ولم يعد للتاريخ معنى في عالم اليوم أسياده من لا تاريخ لهم. فأنت لا تعيد الاعتبار لكل أولئك وإنما تنهي حقبة طال أمدها من دونية لغوية ومن تفاضلية ما كان لها لو لا بعض أبناء جلدتك الذين قبلوا وظيفة السائس ، والسائس كما وصفته معاجم اللغة هو الذي يقود حصان أو جمل سيده أو سيدته راجلا. إنه جهازك الذي يمكنك من قول ما تشاء ومتى تشاء ومع من تشاء وباللغة التي تشاء لا يحول دون ذلك سوى قوام الأعمال . إن الكلام على الكلام صعب وكأني بالجوال قد تفطن إلى تلك الحكمة القديمة فعاد إلى الصورة أو عادت إليه لا ندري من عاد إلى الآخر ولكننا نعلم أنه استطاب أنوثتها ليوشح بها صدره فهو قارئ أخبار ورسائل المحبين في كافة التي المجتمعات تختلف لغة وحضارة ولكنها تتفق على مكانة الأنثى وسلطانها الذي بفضله شيدت قصور وممالك ودول وبه تحطمت أخرى . لم تنته تجربة الهاتف عند حدود تلك النقلة النوعية وإنما استطاع بواسطة خيوطه وخطوطه ومسالكه القديمة التي تكاد تضيع في زحمة مواليد التكنولوجي المفرطة الدقة والحداثة رغم عسر المقارنة مع الحداثات التقليدية منذ الأنوار الأوروبية وإلى اليوم . في زحمة كل ذلك شبكة عنكبوتية عجيبة عرفت لاحقا بالإنترنت ولدت في المسارب القديمة ، ولدت ولادة عسيرة ، في أحضان العسكريتاريا الأمريكية ، عملت على احتكارها من أجل تيسير وظيفة جنودها وضباطها في الاتصال ، إن عصب المؤسسة العسكرية هو الاتصال . لكن ذلك لم يعمر طويلا فليس بالسهل العيش مع" العسكريتاريا "، مع مؤسسة نموذجها المثالي هو الطاعة والولاء لمن هو أعلى في سلم التراتب دون اعتبار لأي نوع من أنواع الإيطيقا . أو أن لتلك المؤسسة إيطيقاها الخاصة . وجد ذلك الوليد من يحتضنه فالأنترنت لم تنم نموا حقيقيا إلا في المدائن وحدائقها الجميلة المعلنة المفتوحة للجميع في مجتمع مدني إنساني تختفي فيه الألقاب والرتب لتحل محلها مقولة "الإنسان المناسب في المكان المناسب" . فما كان للإنترنت أن تبقى جامدة أسيرة لسرية ناتجة عن ظروف ولادتها، فبمجرد أن كشف عن ذلك المولود الجديد حتى تدافعت مؤسسات مجتمع المدينة من جامعات ومخابر وشركات كبرى على احتضانه وتنميته حتى تضمن له الاستمرارية والبقاء خدمة لمصالح يعكسها سمك نظارات كل طرف. وعلى المرء أن يطلق العنان لخياله إذا لم يكشف ذلك المولود فكيف سيكون مصير تلك الشبكة ومعنى الاتصال ؟ إن إثراء حقيقيا لمواقعها وأرصدتها المختلفة جاء هذه المرة ممن لا عنوان لهم بل ممن حرموا من حقهم في العناوين من أولئك الخارجين عن أنساق السياسة والدين والأيديولوجيا والأخلاق ، المحرومين من حقوق التعبير لهذا السبب أو ذاك إنهم المهمشون والمقصون من حضيرة النسق لعدم وجود تناغم في الألوان . إنهم الخارجون عن سلطان الذين لا سلطان لسواهم ومن يخرج عن ذلك السلطان فمصيره الإفساد والإذلال. ولإذلال أولئك الخارجين عن النسق وإفساد ما هم به يفكّرون شرّعت لتلك الشبكة قوانين خاصة بها وانتصبت محاكم الافتراضي إنتصابا ماديا لتلاحق كل منتهكي شرفها . وكانت أولى الضحايا طفولة هي للبراءة منسوبة تعاش على حد تعبير الشاعر صباحا مساء ويوم الأحد ، و"الشعراء يتبعهم الغاوون وفي كل واد يهيمون". والهيام من فعل هام بها هيما وهيوما وهياما وهيمانا وتهياما ، وهي جميعها حسب لسان العرب لا تحيل على العشق فقط وإنما تتعدد معانيها لتفيد الضياع والخبل والجنون . لقد ضاعت الطفولة في أروقة الشبكة العنكبوتية واستحال الضياع هياما ثم عشقا ثم جنونا في دهاليز تراءت أنها تخفي كنوزا فإذا بالشبكة تتحول في الوظيفة إلى "برّاءة" وهي عند إبن منظور " السكين التي تبرى بها القوس" ومن ثمة تسقط كافة الأمنيات بعد أن تهاوت أساساتها وتنتهي الأسطورة الجديدة التي باتت قديمة "لا سلطان لرقيب" . انكشف السر كشفته الطفولة وبات درسا يضاف إلى الدروس الأولى "لا شيء خارج النسق" ومن يريد غير ذلك فعليه أن يبحث خارج الشبكة كما اعتاد أن يفعل في البداية . ومع ذلك لم ينطفئ بريقها ولازالت الشبكة تشتبك أفكارا وأسرارا وصورا يلاحقها كلام وكلام تلاحقه صور ، نصوص مبثوثة تضمي العطشى، فكأني بها تتحلل من كل من هام بها فاستحال هيامه ضياعا . لقد تعددت مراسيلها بأسمائهم الأعجمية والعربية وحتى العبرية "قوقل" و"أين" و"يهو" وغير ذلك كثير ويكفي دعوة أحدهم حتى يأتيك بأخبار قدماء القوم كما محدثيهم فتجالس الموتى كما الأحياء وتستحضر بيانات الأولين والآخرين وحتى محاورتهم مباشرة إن كانوا على قيد الحياة . ما كان للشبكة أن تتولى كل تلك الوظائف لو لا ذلك الكائن الأكثر عجبا المدعو كمبيوترا أو حاسوبا أو دماغا آليا أو إنسانا آليا والتسمية تعكس في تعددها صدمة الحضارات مع الكائن الجديد . ميزته أنه غير وجه الحياة في كافة المجالات . إن إنسانية اليوم على اختلاف حضاراتها وقيمها ومصالحها تنظر إلى الكمبيوتر على أنه "الخلق الإنساني" الأهم في تاريخها حتى لا يكاد يضاهيه خلق في علم الإنسان الذي ما انفك يطوره إلى أن استوى على هيئته الحالية غير النهائية طالما أن ذلك المخلوق قابل لاستيفاء الخلق . لقد أطلق عليه مخترعوه صفات هي من صميم ذات الإنسان فحمل المسميات عينها من رأس وذراع ودماغ ووجه وانطبق الأمر على نسقه المنظم بتسميات مثل الشبكة العصبية ، الذكاء الاصطناعي ، النظام البصري ، لغة الحواسيب ، الوعي الحاسوبي، الاتصال الحاسوبي ، المنطق الحاسوبي ، العنوان الحاسوبي والتعلم الذاتي للحاسوب حتى راجت مصطلحات من قبل "انتظر فهو يقرأ" على ما للكلمة من قدسية وتم الإعتراف بذاكرته القصيرة والأخرى البعيدة المدى . كما أطلقت أوصاف أخرى يتماه فيها الجهاز الجديد مع الموروث الثقافي البشري وهويته الإنسانية فأصبحت للحواسيب أسرا وأجيالا وحياة اجتماعية وفكرية وإيطيقية وبات له تاريخ خاص ومتاحف تخرجه من دائرة من لا تاريخ لهم وتسربت الجريمة للعالم الإلكتروني والافتراضي فسنت القوانين التي تجعل من بعض الممارسات جرائم حاسوبية وإلكترونية ، ومن بعض المواد فواضل ونفايات قد تهدد وجوده كما تهدد مثيلاتها وجود الإنسان . ووجدت الفيروسات الوبائية ذات الطبيعة الإلكترونية حقولا ملائمة تعيش فيها وتنمو وتفنى . لقد وضع الإنسان ثقته في الحواسيب فآئتمنها على أمنه وعلى نفيس ما يملكه مثل منزله أو سيارته التي يؤدي مجرد الاقتراب منها إلى اشتغال تلك الأجهزة والتنبيه إلى الخطر المحدق . ويتجاوز الأمر إلى ما يشبه أشرطة الخيال العلمي عندما يعهد إلى الحواسيب بأمن مجتمعات بكاملها فتكون سياداتها رهينة لذلك، فيكفي أن ترسل الرادارات بإشاراتها حتى تلتقطها تلك الحواسيب وتحولها إلى بيانات تستحق المتابعة . إن ذلك الجهاز وبواسطة كل تلك الوظائف مكن الانسان من اكتساب صفة الخلق التي هي في الأصل صفة إلهية . فالإنسان كمخلوق متميز عن بقية الكائنات يتضمن شيئا من روح الله "فإذ سويته ونفخت فيه من روحي" . تحتوي الآية على أكثر من بعد ، ذكرت التسوية أي الانتهاء من الخلق على الصورة الموجودة ثم النفخ فيه من روح الله . وعلى الرغم من أن الروح بقيت أمرا إلهيا صرفا " قل الروح من أمر ربي" وعلى الرغم كذلك من أن نفس المصطلح ورد في سياقات أخرى وأكتسب دلالات قد تكون مغايرة "يوم يقوم الروح والملائكة صفا" ، "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا". فإن دلالة المصطلح نستخدمها على خلفية شرح آبن منظور من أن "المراد بالروح الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة" ، إن هذا التفسير قد ينسحب على كائنات حية أخرى ولكن الحياة الإنسانية ذات خصوصية لأن الإنسان ليس كائنا حيا فقط وإنما كائن ذكي . إن ثمرة الخلق الإلهي كانت "آدم" ، اكتملت تلك الثمرة نهائيا بعد أن نفخ الله فيه من روحه ، آدم يرمز إلى إنسان -بدون تعريف- اكتسب بعض صفات الله ، من ذلك القدرة على الخلق ، ترجمها الإنسان إلى أسماء متعددة مثل الابتكار والاختراع ولكنها في نهاية الأمر مجرد مسميات لملكة الخلق الذي يمكن تعريفه "بإيجاد شيء غير موجود سابقا" ويكون ذلك من العدم "من آياته خلق السماوات والأرض" أو بتحويل مواد معينة فينشأ شيء جديد يختلف نوعيا "وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا" و"خلق الإنسان من صلصال كالفخار". نفهم من تلك الآيات القرآنية الكريمة ومثلها كثير أن للخلق مستويين الأول هو الخلق من عدم وهي صفة إلهية محضة لا يشترك فيها مع الله أحد أما الثاني فهو الخلق عن طريق التحويل وهذه الصفة أكسبها الله الإنسان عن طريق الروح التي نفخها فيه . وعندما نتأمل التكنولوجيا التي ابتكرها الإنسان نلاحظ أنها تمثل أشكالا من الخلق الإنساني وأنها تحولت من مادة إلى أخرى تختلف عنها نوعيا . إن تلك المبتكرات لا يمكن أن تشتغل إلا إذا تولاها الإنسان . لكن الأمر سيختلف نوعيا عندما تتمكن تلك الابتكارات والآلات من العمل بواسطة ما يسمى "الوازع الذاتي" والعبارة خلدونية المنشأ ، أي من تلقاء أنفسها فنزع احتكار تلك الصفة على الذات الإنسانية بعد أن باتت تلك الآلات والأجهزة قابلة للبرمجة وذاتية الاشتغال عن طريق عقلها الإلكتروني المسمى الكمبيوتر الذي أصبح الدماغ المحرك لأغلب المبتكرات التقنية المعاصرة . لنفترض جدلا أن الإنسان استحال "خالقا" بالمعنى التحويلي للخلق وليس بمعنى القدرة على البعث من العدم ، لنتساءل والسؤال مشروع كيف انتقلت عملية الخلق بمعناها التحويلي من خالق مطلق في الزمان والمكان هو الله إلى خالق محدود بل لنقل مخلوقا هو الإنسان ؟ نجتهد في الإجابة فنقول لقد تحولت تلك الصفة إلى الإنسان عن طريق العلم الذي هو في الأصل وحسب التمشي الذي نعتمده هو صفة إلهية "وسع كل شيء علما أفلا تذكرون "، "وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة "، "وأتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما شاء" . كل تلك الآيات تفيد أن صفة العلم هي صفة إلهية أكسبها الله لمخلوقه المسمى إنسانا ولكنه ذكّره بأنه "وفوق كل ذي علم عليم" . بمعنى آخر فإن العلم الإنساني محدود ونسبي ضرورة . حقيقة أدركها الفلاسفة فترجمت قولا "إن تاريخ العلوم ليس سوى تاريخ القطائع الإبستيمولوجية " مما يعني أن ما كان بديهيا بالأمس هو محل جدل اليوم ، فلا إطلاقية في العلم رغم الثورات الكبرى التي عرفتها مسيرته إحدى أبرز تجلياتها هو الكمبيوتر نفسه . هذا الجهاز الذي يخزنه الإنسان بالمعلومات على الطريقة التي علم الله بها آدم الأسماء . ورغم الحجم الكبير للأسماء الكمبيوترية وما بات الكمبيوتر قادرا على تخزينه وحمله من تلك المعلومات المتكاثرة ضرورة فإنه يبقى كائنا محدودا في الزمان والمكان شأنه في ذلك شأن الإنسان . ويبرز التشابه في عدة مستويات أخرى مثل الحاجة إلى الطاقة ومصدرها الغذاء والأكسيجن لدى الإنسان والكهرباء لدى الكمبيوتر ، والاعتدال في درجة الحرارة لكليهما . ويفتقدان أيضا لصفة الخلود الذاتي مع الاستمرارية من جيل إلى جيل . يتفوق الإنسان على الكمبيوتر بالقدرة على التفاعل مع كافة الاحتمالات والوضعيات والتأقلم معها ومع ما تطرحه من مشكلات والقدرة على الحركة في الفضاء بالمقابل يتفوق الكمبيوتر بسرعة نقل المعلومة مهما كانت طبيعتها والمسافات الفاصلة . لكن يبقى الحاسوب محدود الاستجابة لما يطرح عليه من مسائل فلا يستجيب لها إلا في حدود ما يبرمجه له الإنسان الذي يمكن أن يتخطى كافة الحدود المعقولة ولا أدل على ذلك الاستخدام الحاسوبي في الحروب أو في مجال استكشاف الفضاء. إن ذلك الذكاء الكمبيوتري المتنامي قد أنشأ قيما إنسانية جديدة قوامها ترميز أو تشفير الذات الإنسانية . فالبشر تحولوا إلى أرقام ، علامات مسجلة لا فرق بينهم ، لأن الكمبيوترات لا تعرفهم إلا كأرقام أما ذواتهم وانتماءاتهم وهوياتهم وحتى إبداعاتهم فلا معنى لها اليوم . لقد كتب الفرابي منذ زمن بعيد "هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له كل واحد .وقولنا إنه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد الذي لا يقع فيه اشتراك " وتأكد ذلك القول حديثا من أن "مفهوم الهوية يدل على ما به الشيء هو هو بوصفه موجودا متفردا متميزا عن غيره". الهوية الكمبيوترية والافتراضية لا تقبل التفرد والخصوصية الجميع غير معروفين ومعروفين في نفس الوقت غير معروفين لأنه لا يوجد ما يميز ذاتا عن أخرى ومعروفين لأن الجميع مخزنين في حافظة الجهاز لهم أرقام وبصمات وأضيفت إليهم اليوم خصائص العين إذا دخلت البصمة حيز الشك وغدا لا أحد يفلت من الترقيم عندما يعمم كشف الأفراد عن طريق الحامض النووي. وبواسطة الحاسوبية الجديدة ملايين البشر يتحاورن ويتجادلون ويتخاصمون مع بعضهم البعض دون أن يعرف أحد آخر هو حلم قديم بل طوبى قديمة لبعض الفلاسفة بوجود مجتمع إنساني واحد موحد لا فوارق بين المنتمين إليه مهما كان نوعها وهو مطمح أصحاب الشركات الكبرى لتحقيق السوق العالمية الكبرى التي لا تعرف الحدود . ولكن الأمر ليس بهذه الطوباوية فالحكمة الإلهية القديمة من كون "الناس شعوبا وقبائل " يفسد على الجميع نبوءتهم . فالمجتمعات ليست متباينة ثقافة وحضارة ولغة وانتماء فحسب وإنما هي مختلفة استطاعة وقدرة على الحياة بأشكالها الأولية وغالبها لا يستجيب لدعوة الانخراط في المجتمع الإنساني بمقوماته الجديدة أي الدولة الليبرالية المطلقة وبلغة فوكوياما في نهاية التاريخ لقد إختارت أن تعيش رقصة الدم أي أن تبقى خارج التاريخ أو هي مجبرة على فعل ذلك . وأهمية كل ذلك أنها تلعب دورا لا وظيفيا وهذا الدور على ثانويته قد يعيد الإعتبار للقيم القديمة ويفند ما بات يعتقد أنه بديهيا من أن " التكنولوجيا هي أيديولوجيا هذا العصر".
المراجع
-القرآن الكريم
- أنطوني قيدنس علم الإجتماع منشورات المنظمة العربية للترجمة بيروت 2005
-علي محمد رحومة الإنترنت والمنظومة التكنو-إجتماعية سلسلة أطروحات الدكتوراه مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2005
- ابن منظور لسان العرب مؤسسة التاريخ العربي–دار إحياء التراث بيروت 1992
Mnakri Moufida, Metaphor in English-Arabic Telecommunication Terminology: A Cognitive View. Master in applied linguistics . Institut Superieur des Langues de Tunis. 2004-2005