مدرستنا ليست مخبر تجارب
د.سالم لبيض
أستاذ محاضر في علم الاجتماع
إن الإشكال لا يكمن في إلغاء ما بات يعرف بامتحان الرابعة "الكاتريام" ما دامت سلطة الإشراف التربوي قد ارتأت ذلك وهي التي لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها! فذلك حق قد عاد إلى أصحابه. وإنما يكمن في كيفية اتخاذ مثل ذلك القرار والهدف من ورائه ومكانته ضمن السياسة التربوية وانعكاساته على أبنائنا. لا شك في أن اتخاذ قرار إحداث ذلك الامتحان التقويمي الذي أعلن عنه رئيس الدولة منذ سنتين في يوم المؤسسة والذي بات معلوما في كافة تفاصيله لدى الأوساط التربوية مربين وأولياء، ثم اتخاذ قرار إلغائه هذه السنة من طرف وزير التربية والتكوين، إنما هو حجّة على مهندسي السياسة التربوية ببلادنا وليس حجّة لهم. ويبدو أن قرارا مصيريا مؤثرا بهذه الكيفية في مستقبل الكثيرين من النشء قد اتخذ دون دراسة وتقويم حقيقي للواقع التربوي لاسيما التعليم الأساسي موضوع التدخل. مما يطرح السؤال بل يجدده حول جدوى المؤسسات التربوية البحثية مع إشارة خاصة إلى المركز الوطني للتجديد البيداغوجي والبحوث التربوية والمعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر، وهما المؤسستان اللتان من المفترض أن تكلّفا باستباق ذلك الحدث الجلل الذي نزل صاعقا على الأولياء مما اضطرّ السلطة السياسية إلى القيام بحملة تحسيسية في مختلف الجهات والأوساط تخفيفا من وطأته وتفاديا لانعكاسات سلبية قد تحدث. ولكن لاشيء يحيل على أن مثل تلك المؤسسات قد لعبت دورا. كما أن لاشيء يشير إلى أن سلطة الإشراف التربوي تعتمد مرجعية لها أهل الذكر من مختصين وباحثين في علوم التربية وعلمي الاجتماع والنفس التربويين، تزخر الجامعة التونسية بهم وتؤثث المكتبات رفوفها ببحوثهم ورسائلهم. ولا شيء يدل على أن سلطة الإشراف قد اتخذت قرارها بعد الرجوع إلى تلك الشريحة الفاضلة من المربين المشتغلين بالتعليم الأساسي التي لولاه لما تمكّن أحد منا من خطّ حرف واحد ناهيك عن المراتب العلمية والمهنية العليا التي بلغها بعضنا. كان على سلطة الإشراف التربوي أن تعتمد تلك القاعدة البسيطة الغنية بالدلالة "أهل مكة أدرى بشعابها". كان عليها أن تستشير الباحثين في الاختصاصات التربوية المختلفة، والمربين رجال الميدان سادة فصولهم من ذوي الخبرة والدراية الواسعة بمجال عملهم وبما طرأ ويطرأ من تغيير على المدرسة وأجيالها المتعاقبة. ولو أن مهندسي السياسة التربوية ببلادنا احترموا تلك القاعدة البسيطة لوفروا على أنفسهم الجهد المضني في الإقناع بجدوى ذلك الامتحان، وما أنفقوه عليه من أموال دافعي الضرائب، ولحافظوا وهو الأهم على شيء من مصداقية النظام التربوي الذي بات يشهد التغيير تلو الآخر، كثيرا ما يكون مرتبطا بأشخاص من هم في هرم المؤسسة التربوية تخليدا لأسمائهم، والأمثلة كثيرة "مشروع المسعدي، مشروع مزالي، مشروع بن ضياء، مشروع الشرفي ...". لو أن سلطة الإشراف التربوي استعانت بأهل الذكر الحقيقيين لفهمت دون ضريبة تدفع من وقت التلاميذ، أو من مال أوليائهم لتوفير أسباب النجاح، أو بسبب تهافت بعض "المقاولين التربويين" الذين استفادوا من ذلك الوضع الذي خلقه الامتحان الجديد، أن الطفل في سن العشر سنوات لا يمكن أن يكون قابلا للاختبار بتلك الطريقة، ليس لأن عوده لم يشتدّ بعد بما يمكنه من إجراء مثل ذلك الاختبار فحسب، وإنما كذلك بسبب ذلك الاعتداء على طفولته التي من المفترض أن تتحقق كاملة بعيدا عن كل ارتجاج نفسي قد تكون له انعكاسات على شخصيته مما لا يحمد عقباه. لقد أدركت كثير من المجتمعات المعاصرة لنا المتضلّعة في المجال التربوي والتي نقتدي بها في أحيان كثيرة، تلك القاعدة التربوية بأن "التعلم في الصغر كالنقش على الحجر" ولكنها كانت تردفها دائما بالقاعدة الثانية "علّم الصبيان وهم يلعبون". إن التعليم ضروري للأطفال ضرورة الحياة نفسها، ولكنه لا بد أن يكون عامل نمو وليس عنصر إعاقة، ولاشك أن امتحان الرابعة "الكاتريام" كان عنصر إعاقة بالنسبة إلى كثير من الأطفال فهو الذي قد يسبب لهم عاهات مباشرة تنتج عن الرسوب، أو مغادرة مقاعد الدراسة مبكّرا، أو تبقى تلك العاهات كامنة في شخصية الطفل تترصد الوقت المناسب للظهور وكم من أموال ستنفق لمعالجة ما يترتب عن ذلك من "باتالوجيا". وهنا يطرح السؤال ما ذنب أولئك الأطفال الذين كانوا بمثابة "فئران" أجريت عليهم التجربة وهل لابد من ضحية للإقرار بفشل تصور تربوي يحمل منذ البداية أسباب فشله. ناهيك أن ذلك القرار لا يتوفر على أي خلفية قانونية بل هو مناقض للقوانين التربوية الصادرة منذ سنة 1991 مرورا بإصلاح 2002 وصولا إلى تحوير ذلك في 2008، وهي التي تضمن للطفل الحق في التعلم المجاني حتى سن السادسة عشر، بل وتعاقب الولي الذي ينقطع ابنه دون تلك السن. فما بال سلطة الإشراف تمارس ضد هذا الاتجاه التربوي، ومع ذلك يبقى المسئولين دون محاسبة وفي منأى عن أي تتبع قانوني وهم الذين ضحوا بأطفال السنوات الرابعة المنتشرين في ربوع مدارسنا مدة ثلاث سنوات متتالية ليظهروا على المسرح في نهاية المطاف ويهمسوا لأصحاب القرار أن لا جدوى من ذلك. وما هي الحقوق التي من المفترض أنها سلبت ولابد أن ترجع للأطفال وهل أن الصدمة التي تلقتها طفولة بعض الأطفال فأفسدتها بسبب ذلك الامتحان قابلة للإصلاح أصلا ؟
إن الصدمة الكبيرة تتلقاها في واقع الأمر مدرستنا العمومية، مصدر فخرنا واعتزازنا، وبسبب مثل تلك السياسات تصبح محلّ تشكيك في جدواها ونجاعتها وهو ما ساعد على انتشار واستفادة "التعليم الطفيلي" الذي يبتزّ الأموال دون أن يوفر تكوينا محترما وآفاقا ممكنة، والهجرة التعليمية وما تسببه من استنزاف لمواردنا من العملة الأجنبية ولعقولنا المفكرة لاحقا، والتعليم الموازي الذي توفره بعض البعثات الدبلوماسية، لاسيما الفرنسية منها، وهو تعليم على درجة عالية من التكوين والنجاعة وهو منافس حقيقي لمدرستنا لكن ميزته الرئيسية هو صنع هوية موازية بل مغايرة تنسجم وخيارات دول ومجتمعات وأوطان تلك البعثات ودياناتهم ولغاتهم، فيتحول البعض من أبنائنا إلى احتياطي إستراتيجي أو إلى طابور خامس لتلك المجتمعات واستراتيجياتها السياسية. لقد آن الأوان للتذكير بأن نهضة مدرستنا من نهضة مجتمعنا وأن التعليم هو الذي يصنع المجتمع، فدرجة تقدم أو تخلف مجتمع ما رهينة بمستوى تعليم أبنائه. كل ذلك يقتضي ضرورة إيقاف النزيف المتأتي من إجراء التجارب تلو التجارب على مدرستنا ونظامنا التربوي، فهي ليست مخبرا للتجارب بأي حال من الأحوال.
د.سالم لبيض
أستاذ محاضر في علم الاجتماع
إن الإشكال لا يكمن في إلغاء ما بات يعرف بامتحان الرابعة "الكاتريام" ما دامت سلطة الإشراف التربوي قد ارتأت ذلك وهي التي لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها! فذلك حق قد عاد إلى أصحابه. وإنما يكمن في كيفية اتخاذ مثل ذلك القرار والهدف من ورائه ومكانته ضمن السياسة التربوية وانعكاساته على أبنائنا. لا شك في أن اتخاذ قرار إحداث ذلك الامتحان التقويمي الذي أعلن عنه رئيس الدولة منذ سنتين في يوم المؤسسة والذي بات معلوما في كافة تفاصيله لدى الأوساط التربوية مربين وأولياء، ثم اتخاذ قرار إلغائه هذه السنة من طرف وزير التربية والتكوين، إنما هو حجّة على مهندسي السياسة التربوية ببلادنا وليس حجّة لهم. ويبدو أن قرارا مصيريا مؤثرا بهذه الكيفية في مستقبل الكثيرين من النشء قد اتخذ دون دراسة وتقويم حقيقي للواقع التربوي لاسيما التعليم الأساسي موضوع التدخل. مما يطرح السؤال بل يجدده حول جدوى المؤسسات التربوية البحثية مع إشارة خاصة إلى المركز الوطني للتجديد البيداغوجي والبحوث التربوية والمعهد الأعلى للتربية والتكوين المستمر، وهما المؤسستان اللتان من المفترض أن تكلّفا باستباق ذلك الحدث الجلل الذي نزل صاعقا على الأولياء مما اضطرّ السلطة السياسية إلى القيام بحملة تحسيسية في مختلف الجهات والأوساط تخفيفا من وطأته وتفاديا لانعكاسات سلبية قد تحدث. ولكن لاشيء يحيل على أن مثل تلك المؤسسات قد لعبت دورا. كما أن لاشيء يشير إلى أن سلطة الإشراف التربوي تعتمد مرجعية لها أهل الذكر من مختصين وباحثين في علوم التربية وعلمي الاجتماع والنفس التربويين، تزخر الجامعة التونسية بهم وتؤثث المكتبات رفوفها ببحوثهم ورسائلهم. ولا شيء يدل على أن سلطة الإشراف قد اتخذت قرارها بعد الرجوع إلى تلك الشريحة الفاضلة من المربين المشتغلين بالتعليم الأساسي التي لولاه لما تمكّن أحد منا من خطّ حرف واحد ناهيك عن المراتب العلمية والمهنية العليا التي بلغها بعضنا. كان على سلطة الإشراف التربوي أن تعتمد تلك القاعدة البسيطة الغنية بالدلالة "أهل مكة أدرى بشعابها". كان عليها أن تستشير الباحثين في الاختصاصات التربوية المختلفة، والمربين رجال الميدان سادة فصولهم من ذوي الخبرة والدراية الواسعة بمجال عملهم وبما طرأ ويطرأ من تغيير على المدرسة وأجيالها المتعاقبة. ولو أن مهندسي السياسة التربوية ببلادنا احترموا تلك القاعدة البسيطة لوفروا على أنفسهم الجهد المضني في الإقناع بجدوى ذلك الامتحان، وما أنفقوه عليه من أموال دافعي الضرائب، ولحافظوا وهو الأهم على شيء من مصداقية النظام التربوي الذي بات يشهد التغيير تلو الآخر، كثيرا ما يكون مرتبطا بأشخاص من هم في هرم المؤسسة التربوية تخليدا لأسمائهم، والأمثلة كثيرة "مشروع المسعدي، مشروع مزالي، مشروع بن ضياء، مشروع الشرفي ...". لو أن سلطة الإشراف التربوي استعانت بأهل الذكر الحقيقيين لفهمت دون ضريبة تدفع من وقت التلاميذ، أو من مال أوليائهم لتوفير أسباب النجاح، أو بسبب تهافت بعض "المقاولين التربويين" الذين استفادوا من ذلك الوضع الذي خلقه الامتحان الجديد، أن الطفل في سن العشر سنوات لا يمكن أن يكون قابلا للاختبار بتلك الطريقة، ليس لأن عوده لم يشتدّ بعد بما يمكنه من إجراء مثل ذلك الاختبار فحسب، وإنما كذلك بسبب ذلك الاعتداء على طفولته التي من المفترض أن تتحقق كاملة بعيدا عن كل ارتجاج نفسي قد تكون له انعكاسات على شخصيته مما لا يحمد عقباه. لقد أدركت كثير من المجتمعات المعاصرة لنا المتضلّعة في المجال التربوي والتي نقتدي بها في أحيان كثيرة، تلك القاعدة التربوية بأن "التعلم في الصغر كالنقش على الحجر" ولكنها كانت تردفها دائما بالقاعدة الثانية "علّم الصبيان وهم يلعبون". إن التعليم ضروري للأطفال ضرورة الحياة نفسها، ولكنه لا بد أن يكون عامل نمو وليس عنصر إعاقة، ولاشك أن امتحان الرابعة "الكاتريام" كان عنصر إعاقة بالنسبة إلى كثير من الأطفال فهو الذي قد يسبب لهم عاهات مباشرة تنتج عن الرسوب، أو مغادرة مقاعد الدراسة مبكّرا، أو تبقى تلك العاهات كامنة في شخصية الطفل تترصد الوقت المناسب للظهور وكم من أموال ستنفق لمعالجة ما يترتب عن ذلك من "باتالوجيا". وهنا يطرح السؤال ما ذنب أولئك الأطفال الذين كانوا بمثابة "فئران" أجريت عليهم التجربة وهل لابد من ضحية للإقرار بفشل تصور تربوي يحمل منذ البداية أسباب فشله. ناهيك أن ذلك القرار لا يتوفر على أي خلفية قانونية بل هو مناقض للقوانين التربوية الصادرة منذ سنة 1991 مرورا بإصلاح 2002 وصولا إلى تحوير ذلك في 2008، وهي التي تضمن للطفل الحق في التعلم المجاني حتى سن السادسة عشر، بل وتعاقب الولي الذي ينقطع ابنه دون تلك السن. فما بال سلطة الإشراف تمارس ضد هذا الاتجاه التربوي، ومع ذلك يبقى المسئولين دون محاسبة وفي منأى عن أي تتبع قانوني وهم الذين ضحوا بأطفال السنوات الرابعة المنتشرين في ربوع مدارسنا مدة ثلاث سنوات متتالية ليظهروا على المسرح في نهاية المطاف ويهمسوا لأصحاب القرار أن لا جدوى من ذلك. وما هي الحقوق التي من المفترض أنها سلبت ولابد أن ترجع للأطفال وهل أن الصدمة التي تلقتها طفولة بعض الأطفال فأفسدتها بسبب ذلك الامتحان قابلة للإصلاح أصلا ؟
إن الصدمة الكبيرة تتلقاها في واقع الأمر مدرستنا العمومية، مصدر فخرنا واعتزازنا، وبسبب مثل تلك السياسات تصبح محلّ تشكيك في جدواها ونجاعتها وهو ما ساعد على انتشار واستفادة "التعليم الطفيلي" الذي يبتزّ الأموال دون أن يوفر تكوينا محترما وآفاقا ممكنة، والهجرة التعليمية وما تسببه من استنزاف لمواردنا من العملة الأجنبية ولعقولنا المفكرة لاحقا، والتعليم الموازي الذي توفره بعض البعثات الدبلوماسية، لاسيما الفرنسية منها، وهو تعليم على درجة عالية من التكوين والنجاعة وهو منافس حقيقي لمدرستنا لكن ميزته الرئيسية هو صنع هوية موازية بل مغايرة تنسجم وخيارات دول ومجتمعات وأوطان تلك البعثات ودياناتهم ولغاتهم، فيتحول البعض من أبنائنا إلى احتياطي إستراتيجي أو إلى طابور خامس لتلك المجتمعات واستراتيجياتها السياسية. لقد آن الأوان للتذكير بأن نهضة مدرستنا من نهضة مجتمعنا وأن التعليم هو الذي يصنع المجتمع، فدرجة تقدم أو تخلف مجتمع ما رهينة بمستوى تعليم أبنائه. كل ذلك يقتضي ضرورة إيقاف النزيف المتأتي من إجراء التجارب تلو التجارب على مدرستنا ونظامنا التربوي، فهي ليست مخبرا للتجارب بأي حال من الأحوال.