السبت، 4 أبريل 2009

الأزمات الاجتماعية والسياسية ، إدارتها وآثارها مثال تونس 1957 - 1987 دراسة منشورة في تونس البورقيبية والبلاد العربية مؤسسة التميمي للبحث العلمي 2004

الأزمات الاجتماعية والسياسية
إدارتها و آثارها : مثال تونس 1957 – 1987
د. سالم لبيض

La Tunisie a connu, à l'instar de beaucoup d'autre pays, des crises sociales et politiques, dont les plus importantes semblent être, selon notre vision : la crise youssefiste des années 50 et 60 qui s'est soldé par la tentative du coup d'Etat de 1962, l'opération armée de Gafsa de 1980, les émeutes syndicales de 1978 connues sous le nom de "jeudi noir" et le "soulèvement du pain" relatif aux évènements de janvier 1984.
Ces crises majeures, qui s'étalaient sur une période de 30 ans de 1957 à 1987, et qui ont enregistré des évènements sanglants tels que l'assassinat du leader politique salah Ben Youssef en 1961, l'emprisonnement du leader syndical Habib Achour en 1978 et le jugement des pauvres et des marginaux qui ont participé au "soulèvement du pain" en 1984, reflètent l'importance des mutations et des contradictions sociales qui ont traversé la société tunisienne durant cette période de son histoire ; elles démontrent aussi la vitalité et la dynamique de la société en général et de la société politique, en particulier ; une société qui a produit des forces socio-politiques qui ont pu formuler des mouvements contestataires hostiles aux choix et aux politiques des gouvernements au pouvoir et à la politique générale de l"Etat.
En effet, ces mouvements de contestation, n'étaient rien d'autres, qu'une expression de la volonté du changement et de la détermination à construire une société démocratique fondée sur les principes du pluralisme politique et de la répartition égalitaire des richesses.
En contre partie, l'Etat national -mis en place à partir de 1956 et dont la fondation et la conception de ses options et de ses orientations incombaient principalement à son premier président Habib Bourguiba- a mal évalué ces mouvements socio-politiques dans la mesure où il a évacué toute interprétation qui mettait en cause sa politique et ses choix fondamentaux et qui envisageait une éventuelle discordance avec les orientations de la société.
L'Etat privilégiait une vision plus simpliste qui mystifiait les enjeux réels et contournait les vrais problèmes ; il voyait dans ces crises fondamentales des crises passagères voire des accidents de parcours qui ne nécessitaient pas une redéfinition de sa politique mais juste une gestion plus efficace en éliminant les membres qualifiés d'agitateurs et de fouteurs de troubles dans le discours officiel de l'Etat.
Ainsi, dès lors que la piste policière et judiciaire constituait la seule piste envisageable face aux mouvements politiques qui cherchaient plus d'expression, et du moment où l'Etat ne semblait pas être prêt à faire des concessions significatives, le recours à l'alternative armée dans l'action politique trouvait alors des adeptes dans les groupes nationalistes arabes soutenus par la Libye.
Bref, Bourguiba, principal acteur politique de l'Etat de 1956-1987, qui refusait tout dialogue avec les mouvements de contestation de la société était en train de bâtir un modèle hégémonique et autoritaire qui repose sur une négation de principe de l'autre.

إن تناول الأزمات الاجتماعية والسياسية والحركات الاحتجاجية، يندرج ضمن محاولات الباحث السوسيولوجي والإناسي كسر تابوهات "السياسي"، الذي جعل من هذه الأزمات موضوعات محرمة وغير خاضعة للدرس لارتباطها بسيادة الدولة وأمنها أحيانا وبمؤسساتها وسياساتها أحيانا أخرى. هذه المؤسسات والسياسات التي قلما تقع في هامش الخطإ حسب رؤية أصحابها الذين يصنفون احتجاجات المجتمع والمجتمع السياسي على أنها أعمال تخريبية ضارة بمصلحة الوطن والمواطن، وهذا على عكس هذا الأخير الذي يرى فيها محرارا يمكن أن يعدل السياسة العامة للدولة بما ينسجم مع مصلحة المجتمع ككل.
أولا : في معنى الأزمة وإدارتها :
– مفهوم الأزمة :
يقصد بالأزم في لسان العرب شدة العض بالفم كله، والأزم هي الأنياب والأزم هو الجدب والأزمة الشدة والقحط. وفي الحديث "اشتدي أزمة تنفرجي"، ويقال أزم عليهم العام والدهر يأزم أزما وأزوما اشتد قحطه ([1]). فالأزمة في الفكر العربي ترتبط بالشدة والقحط، أما في الفكر اليوناني القديم يطلق مصطلح الأزمة على نقطة التحول في الأمراض الخطيرة والقاتلة التي تؤدي عادة إلى موت محقق أو الشفاء التام ([2]). لقد تطور المفهوم وتعددت دلالاته وشملت عدة مجالات من ذلك مجال الطب حيث يقصد بالأزمة التغيرات السريعة التي تحول المريض من حالة الهدوء إلى الاضطراب الشديد الناتج عن الآلام الحادة أو النوبات العصبية ([3]). ومن ذلك مجال العلاقات الدولية حيث ينظر إلى الأزمة على أنها ذلك التكثيف الشديد لطاقات الاختلال وعدم الاستقرار داخل النظام الدولي، وتشتمل على قدر من الخطورة والمفاجئة([4]). عموما فإن الأزمة هي بمثابة الحالة العصبية المفزعة والمؤلمة التي تضغط على الأعصاب وتشل الفكر وتحجب الرؤيا، تتضارب فيها عوامل متعارضة وتتداعى فيها الأحداث وتتشابك فيها الأسباب بالنتائج وتتداخل الخيوط ويخشى من فقد السيطرة على الموقف وتداعياته، فهي خلل يؤثر تأثيرا حيويا يعرض المتعرض لها سواء كان فردا أو كيانا أو دولة لحالة من الشتات والضياع تهدد الثوابت التي يقوم عليها ([5]). وتبرز الأزمات عندما يكون النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي مريضا ويستوجب عليه تحت تهديد الموت أن يتقبل تغييرات تسمح له بدورة جديدة من الحياة. وكثيرا ما ترتبط الأزمات بممارسة العنف إذا كانت ذات طابع اجتماعي أو سياسي أو تعلقت بالعلاقات الدولية.
– أصنافها :
- الأزمة الاجتماعية : هي حالة من الفوضى تنتج عن تفكك العلاقات والضوابط الاجتماعية بسبب تفاقم ظواهر الفقر والبطالة والانحراف والبؤس وما ينتج عن ذلك من تدني في مستوى المعيشة وارتفاع للأسعار وانهيار للقيم وانحلال أسري وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية الذي يؤدي تراكمها إلى تهديد النظام الاجتماعي بأكمله.
- الأزمة السياسية : كثيرا ما تساهم الأزمات السياسية في زعزعة الاستقرار في بلد من البلدان بهدف إحداث تغيير معين وتبرز الأزمة السياسية في شكل تمرد أو عصيان مدني أو انتفاضة شعبية أو عمل مسلح وقد تكون هذه الأزمة نتيجة لعوامل سياسية مثل الاستبداد وغياب الديمقراطية كما يمكن أن تكون نتاج لاختلال في النظام الاجتماعي أو في منظومة القيم الاجتماعية.
- الأزمة في العلاقات الدولية : يحدث هذا النوع من الأزمات بسبب التوتر في العلاقات الدولية بين دولتين أو أكثر ومن مظاهر ذلك التوتر في العلاقات ومختلف أشكال الصراع السياسي والدبلوماسي والعسكري، ومن أسباب ذلك وجود بؤر خلاف وتعارض المصالح وتنامي الإشاعات واستعراض القوة بين الدول أو خرق الاتفاقات القائمة بينها ([6]).
- طرق إدارة الأزمات : كثيرا ما تتسم الأزمات بمختلف أصنافها بالتعقيد والتشابك في عناصرها وأسبابها، وتستقطب الاهتمام هذا علاوة على ما تثيره من مخاوف، وهو ما يتطلب بذل جهد كبير في مجابهتها، بل تضع أصحاب النفوذ أمام مسؤولية اتخاذ قرارات سريعة وناجعة للدفاع عن المصالح والمحافظة على الوضع القائم ولإنجاح ذلك لابد من دراسة الأزمة في ضوء عناصرها الموضوعية وأسبابها الحقيقية وتوفر المعلومات الضرورية وعدم الاكتفاء بإلقاء المسؤولية على عاتق الخصم وتنزيه الذات عبر مرونة القرار السياسي ([7]). لقد دأبت دول كثيرة على إحداث هيئة مؤقتة ومصغرة تطلق عليها تسمية "خلية الأزمة" تتولى الإدارة المباشرة والمتابعة المستمرة لأحداث الأزمة، كما اعتادت هذه الدول على التعامل الأمني مع مختلف الأزمات.
ثانيا : الأزمات الاجتماعية :
1 – الأزمة النقابية لسنة 1978 : جذور الأزمة وأسبابها: لا شك أن الأزمة النقابية لسنة 1978، هي نتاج لسياسة اقتصادية – اجتماعية برزت مع مطلع عشرية السبعينات على أنقاض سياسة التعاضد ودولنة الاقتصاد التي ميزت عشرية الستينات من القرن الماضي. لقد ارتكز توجه السبعينات على الحد من تدخل الدولة في المجال الاقتصادي وتشجيع المبادرة الخاصة وفتح المجال أمام الرأسمال المحلي (الوطني) والأجنبي للاستثمار، وذلك في إطار قوانين أفريل 1972 وأوت 1974. ورغم تبني شعار الاشتراكية الدستورية من طرف الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في مؤتمره الثامن المنعقد بمدينة المنستير سنة 1971، والذي جاء في أحد لوائحه "إن الاشتراكية الدستورية تهدف إلى الاستفادة من الرأسمالية في مستوى تطوير الإنتاج والاستفادة من الاشتراكية في مستوى التوزيع العادل للثورة "، فإن مقولتي الاشتراكية والعدالة الاجتماعية لم تكن سوى مقولات للاستهلاك السياسي المرحلي خاصة وأن تجربة الاشتراكية الدستورية انتهت إلى "التفويت في قسم كبير من أراضي الدولة ونزع احتكار التجارة الخارجية والإشراف المباشر على التجارة الداخلية وتوسيع مصادر القرض ومساعدة الرأسمال الخاص واستغلال صفقات الدولة ومراكز النفوذ ونمو أنشطة المضاربة وتوجيه استثمارات أكبر إلى الأنشطة ذات المردود المرتفع إلى جانب إخراج الثروات المجمدة خلال الستينات من أجل استثمارها واللجوء إلى التحايل الجبائي وغيرها من المظاهر التي سمحت بنمو سريع لمدخيل الملكية والمفاوتة ووسعت صنوف رجال الأعمال والباعثين والسماسرة والمضاربين وعمقت الفوارق الاجتماعية" ([8]). وبالتوازي مع هذه السياسات والاختيارات الاقتصادية بدأت تبرز مع انشقاق مجموعة من الدستوريين عن الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم وطردهم من مؤتمره المنعقد سنة 1974 يقودهم أحمد المستيري وإصدار بيانات باسم التحرريين قبل إصدار جريدة الرأي التي ساعد ظهورها على بعث حركة سياسية معارضة أطلقت عليها تسمية "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين". إن بروز مناخ سياسي ليبرالي ولو بصفة جنينية سيدعم العمل النقابي الذي بدأ يتنامى بالتوازي مع تنامي شريحة العمال الأجراء الذين وصل عددهم إلى 500 ألف مع بداية السبعينات بعد كان هذا العدد لا يتجاوز 150 ألف سنة 1956، هذا علاوة على تنامي عدد منخرطي الاتحاد العام التونسي للشغل الذين تجاوز عددهم 550 ألف منخرط سنة 1977، بعد أن كان هذا العدد في حدود 40 ألف سنة 1970 . فقد شهدت البلاد حركة إضرابية عرفت شكلا تصاعديا إذ كانت في حدود 150 إضراب سنة 1972، 301 سنة 1975، 372 سنة 1976، و قد كانت هذه الإضرابات ذات صبغة عفوية ولم تحظ بموافقة المركزية النقابية في كثير من الأحيان([9]). وهي تعبير عن ردود فعل متفاوتة التأثير تجاه الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة التي عرفت ارتفاعا مجحفا للأسعار في شهر رمضان من سنة 1977 بالرغم من الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل من ذلك ما يعرف بالعقد الإطاري المشترك والميثاق الاجتماعي الذي تم توقيعه في شهر جانفي من سنة 1977 والذي ينص على الحفاظ على السلم الاجتماعي وعلى مراجعة الأجور كلما ارتفعت الأسعار بنسبة تزيد عن 5 بالمائة ([10]).
- أحداث الأزمة النقابية :
لقد بدأت أحداث الأزمة في البروز مع مطلع شهر جانفي من سنة 1978، عندما قرر أعوان وزارة الفلاحة الدخول في إضراب بسبب فشل المفاوضات وتلا ذلك إصدار المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل، بيانا يندد فيه بما سماه "الاستفزاز البوليسي المبيت الذي يمس من حصانة دار الاتحاد "ويطالب فيه بإطلاق سراح المعتقلين، ولم يتوان الاتحاد عن التدخل في المسائل السياسية عندما طالب بإلغاء قانون الجمعيات وتحوير المجلة الانتخابية وإجراء انتخابات حرة وديمقراطية وذلك أثناء انعقاد مجلسه الوطني أيام 8 – 9 – 10 جانفي، وهي نفس الفترة التي قرر فيها أمينة العام الاستقالة من الديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، معتبرا أن "وجوده في الديوان السياسي أصبح متناقضا مع مسؤوليته النقابية "، كما أن استقالة أحد أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد وهو "خير الدين الصالحي "من عضوية اللجنة المركزية للحزب الحاكم، كل ذلك يأتي كرد فعل عن محاولة اغتيال الأمين العام للاتحاد من طرف "ميليشيا الحزب الحاكم". وفي مقابل ذلك بدأت ردود فعل السلطة في التصعيد فقد خطب الرئيس بورقيبة يوم 18 جانفي قائلا : "إن المتطرفين يرمون إلى القضاء على الدولة لتنفيذ مراميهم... "، ثم أضاف في خطاب ثان يوم 21 جانفي بمناسبة اختتام أعمال اللجنة المركزية " أنا مستعد أن أقف في وجه المخربين بعد وسائل التفاهم التي توخيناها وبعد المحاولات التي بذلناها بدون طائل... "، وأكد هذا الموقف اللائحة الصادرة عن اللجنة المركزية للحزب التي جاء فيها " إن مناورات قيادة المنظمة تندرج في خطة مبيتة بالتحالف مع عناصر هدفها النيل من أنموذج المجتمع وجر البلاد إلى التبعية... ". لقد شكلت الهيئة الإدارية للاتحاد المنعقدة بتاريخ 22 جانفي 1978 نقطة تحول في مسار الأزمة النقابية، إذ تقرر أثناءها الدخول في إضراب عام أقر المكتب التنفيذي للاتحاد أن يكون يوم 26 جانفي ووجد كل التأييد من الأمين العام للجامعة العالمية للنقابات الحرة السيد "أوتو كريسان"الذي كان يزور تونس أثناء تلك الفترة، وبالمقابل أعلن الرئيس بورقيبة حالة الطوارئ في البلاد ومنع المظاهرات والجولان في تونس العاصمة و ضواحيها، وقد أيد هذا الموقف الديوان السياسي للحزب الذي دعا إلى نبذ الدعوة للإضراب والإقبال عن العمل... وعلى العمال أن يفسدوا هذه الخطة لأن الإضراب العام له مفهوم سياسي([11]) ". يمثل يوم 26 جانفي من سنة 1978 ذروة التحركات أو ما يعرف بالأزمة النقابية وقد تجسد ذلك في إعلان الإضراب العام الذي تحول إلى تجمعات عمالية في المناطق الصناعية بضواحي العاصمة والمدن الكبرى وإلى مظاهرات صاخبة ومصادمات دامية انضم إليها الشباب الطلابي والتلمذي خاصة بعد محاصرة دار الاتحاد العام التونسي للشغل من طرف قوات النظام العام وبعض فرق الجيش التي ساهم انتشارها في شوارع العاصمة في ازدياد حدة المصادمات بين هذه الأخيرة التي استخدمت القنابل المسيلة للدموع والذخيرة الحية والمتظاهرين وقد انتهى يوم 26 جانفي وهو اليوم المعروف بالخميس الأسود باحتلال مقرات الاتحاد ومن ذلك مقره الرئيسي بالعاصمة من طرف قوات النظام العام وفرق الجيش بعد إخلائها من المعتصمين بها من النقابيين.
– نتائج الأزمة النقابية : من أبرز النتائج التي انتهت إليها الأزمة النقابية لسنة 1978 إضافة إلى مئات الشهداء والجرحى الذين غصت بهم المستشفيات، إلقاء القبض على قيادة الاتحاد بما في ذلك أمينة العام السيد "الحبيب عاشور" وإيداعهم السجن بل ومحاكمتهم. ووصل عدد الذين تعرضوا للمحاكمة أمام محاكم الحق العام إلى 700 من النقابيين، أما الذين حوكموا أمام محكمة أمن الدولة فيقدر عددهم ب 130 ووصفت المحاكمات بالصورية وبأنها المسرحية. كما عرفت تلك الفترة سن قانون الخدمة المدنية الذي مكن السلطة من إنشاء المحتشدات الطلابية وإجبار الطلبة على العمل في المشاريع الصحراوية بصفة إجبارية. كما كان من نتائج الخميس الأسود القضاء على استقلالية الحركة النقابية التونسية وجعل الاتحاد مجرد أداة من أدوات الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم عبر تكوين مكتب تنفيذي جديد من طرف بعض النقابيين المنتمين للحزب الحاكم وإضفاء الشرعية على ذلك من خلال انعقاد مؤتمر خارق للعادة للاتحاد افتتحه الوزير الأول نفسه ولكنه كان يفتقد إلى أية مصداقية أو شرعية قاعدية ([12]).
– انتفاضة الخبز لسنة 1984 :
– في معنى الانتفاضة : انتفاضة الخبز لسنة 1984 هي مجموعة من الأحداث التي عاشتها البلاد التونسية في بداية شهر جانفي من سنة 1984. وهي عبارة عن حركة احتجاجية شملت مختلف المناطق كنتيجة مباشرة للقرار الذي اتخذته الحكومة التونسية والمتمثل في رفع الدعم على العجين ومشتقاته ومن ذلك الخبز الذي يمثل مادة غذائية أساسية بالنسبة لقطاعات واسعة من الفئات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة. تجسدت هذه الحركة الاحتجاجية في مجموعة من المظاهرات انطلقت من جنوب البلاد وتحديدا من منطقة نفزاوة (ولاية قبلي) في نهاية شهر ديسمبر من سنة 1983 لتمتد إلى منطقتي الجنوب والوسط الغربيين قبل أن تتوسع لتشمل مختلف جهات البلاد. لقد أسفرت هذه الحركة الاحتجاجية التي استمرت لفترة لا تقل عن العشرة أيام عن سقوط ضحايا من القتلى والجرحى، هذا علاوة عن مئات المعتقلين والسجناء ولم تتوقف هذه الحركة إلا بعد أن اتخذ الرئيس بورقيبة قرارا يتم بموجبه إرجاع الأسعار إلى ما كانت عليه مبررا هذا الموقف بقوله "ليكن في علم الشعب أني لم أوافق إدخال شيء من الترفيع إلا عندما قيل لي أن الخبز أضحى يعطى للبقر ويلقى في المزابل".
– أسباب الانتفاضة : لا شك أن السبب المباشر لهذه الانتفاضة هو القرار الذي اتخذته الحكومة التونسية والمتمثل في رفع الدعم عن العجين ومشتقاته بعد أن تم إلغاء صندوق التعويض وما لذلك من أثر على المستوى الغذائي للشرائح الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة.
إن الحركة الاحتجاجية المعروفة بانتفاضة الخبز هي نتيجة لجملة من الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها البلاد مع نشأة الدولة الحديثة بداية من سنة 1957.
- المستوى السياسي : عرفت تونس نظاما سياسيا قائما على مبدأ الحزب الواحد وعلى الاندماج الكلي بين مؤسسة الدولة والحزب واختزال كل ذلك في شخصية الرئيس بورقيبة الذي هيمن بصفة مطلقة على الحزب ومؤسسات الدولة ورفض أي تعدد فكري أو سياسي حقيقي أو شكلي طيلة الفترة الممتدة من سنة 1963 تاريخ حضر نشاط الحزب الشيوعي إلى سنة 1981 تاريخ السماح بالنشاط المقيد لمجموعة من الأحزاب -(الحزب الشيوعي، حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحزب الوحدة الشعبية)- التي بقي نشاطها محدودا وضعيفا في ظل الخيار الأمني للسلطة تحت تأثير أحداث 26 جانفي 1978 وحركة قفصة المسلحة لسنة 1980 ([13]).
- المستوى الاقتصادي : تجدر الإشارة إلى أن الاقتصاد التونسي وبالرغم من انطلاقته شبه الليبرالية نشأ في أحضان الدولة. تدعم هذا التوجه منذ بداية الستينات عندما أخذت الدولة على عاتقها إنشاء المؤسسات العمومية وتأميم أراضي المعمرين وحل الأحباس. جاء هذا التوجه رغم إقرار الدولة باحترام القطاع الخاص و الإبقاء عليه مع إلزامه بالعمل ضمن السياسة العامة للدولة ودعوته إلى التحول من التجارة والمضاربة العقارية إلى الأنشطة المنتجة وهو ما أطلق عليه البعض تجديد القطاع الخاص([14]). لقد أدى هذا التوجه إلى بروز مركزية دور الدولة وتحولت إلى ما أصبح يعرف فيما بعد برأسمالية الدولة القائمة على مبدأ التخطيط الاقتصادي أو سياسة التعاضد التي ارتبطت باسم "أحمد بن صالح". إلا أن خيار الاقتصاد الموجه لم يدم طويلا فمع بداية عشرية السبعينات أقرت الدولة مبدأ الليبرالية الاقتصادية على أرضية نتائج مؤتمر المنستير للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم الذي أقر ما يلي :
- حل العديد من التعاضديات التجارية
- التفويت في بعض الأراضي المؤممة
- بروز شعار تطهير المؤسسات الصناعية وتحويلها من القطاع العام إلى القطاع الخاص.
أدى كل ذلك إلى إصدار جملة من التشريعات والقوانين، مثلت إطارا قانونيا ساعد على التحول نحو الليبرالية الاقتصادية، من أبرزها قوانين أفريل لسنة 1972 وقوانين أوت لسنة 1974 التي تفسح مجال حرية الاستثمار أمام الرأسمال المحلي والأجنبي. كما تم إصدار قانون ديسمبر لسنة 1973 المتعلق بخلق صندوق للتنمية واللامركزية الصناعية وما تلا ذلك من إحداث وكالة النهوض بالاستثمارات والوكالة العقارية الصناعية ومركز النهوض بالتصدير. ساعدت هذه الإحداثات على إنشاء 800 مؤسسة وفرت 100 ألف موطن شغل([15])، مما دعم مسار التخصيص الاقتصادي الذي سيتحول لاحقا إلى سياسة إصلاح هيكلي يتم بموجبها تفريط الدولة في مؤسستها العمومية لفائدة القطاع الخاص.
- المستوى الاجتماعي : أفضى مجموع الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية إلى تفقير وتهميش العديد من الشرائح الاجتماعية بعد أن تدعم ذلك بسياسة عدم التوازن الجهوي، فقد توزعت الاستثمارات الاقتصادية كما يلي :
- تحوز منطقة تونس 39 % من نسبة الاستثمارات و34% من التشغيل
- تحوز مناطق سوسة، المنستير، نابل وبنزرت على 44 بالمائة من الاستثمارات وعلى 52 بالمائة من نسب التشغيل
- تتوزع نسبة 17 بالمائة من الاستثمارات و14 بالمائة من نسب التشغيل على بقية المناطق. لا شك أن هذه السياسة سيكون لها كبير الأثر على مستويات عديدة من ذلك تنامي ظاهرتي البطالة والنزوح وبروز الأحياء القصديرية والأحزمة الحمراء المحيطة بالعاصمة والمدن الكبرى وهي الفضاءات التي شهدت تراكم ظواهر التهميش والمهمشين الذين سيشكلون وقودا لاشتعال الأزمات الاجتماعية وظواهر الاحتجاج الشعبي من ذلك انتفاضة الخبز لسنة 1984.
– مظاهر الانتفاضة : انطلقت أحداث انتفاضة الخبز لسنة 1984 من مدينة دوز بالجنوب التونسي بمناسبة السوق الأسبوعية في 29 ديسمبر 1983 في شكل مظاهرات أدت إلى المواجهة بين المتظاهرين وقوات النظام العام. انتشرت الظاهرة لتشمل مدينة قبلي المجاورة في اليوم الموالي متخذة طابعا عنيفا بعد أن اتسعت لتشمل مدينة الحامة. ومع دخول مشروع الزيادة في أسعار العجين ومشتقاته حيز التنفيذ يوم 1 جانفي 1984 شملت الحركة الاحتجاجية مناطق الشمال والوسط الغربي في الكاف والقصرين وتالة وبقية مناطق الجنوب في قفصة وقابس ومدنين، مما استدعى دخول الجيش لهذه المناطق بعد أن سجل عجز قوات النظام العام في الحد من توسع الانتفاضة. ومع إعلان وزارة الداخلية يوم 2 جانفي عن سقوط قتلى وجرحى في مناطق قبلي والحامة والقصرين وقفصة، دخلت المنطقة الصناعية بقابس في إضراب شامل ومسيرات كبرى شارك في تنظيمها كل من العمال والطلاب. كما التحق طلبة الجامعات والمدارس الثانوية في مدن تونس وصفاقس بالشوارع معبرين عن رفضهم إلغاء الدعم عن العجين ومشتقاته. في يوم 3 جانفي بلغت الانتفاضة أوج أحداثها وباتت المواجهة مفتوحة بين المتظاهرين من ناحية وقوات النظام العام والجيش من ناحية أخرى، وأصبح العنف سيد الموقف فأحرقت المحلات والسيارات والمؤسسات والحافلات في شوارع العاصمة وضواحيها وفي كثير من المدن في الساحل وفي الدواخل. لقد نجم عن ذلك إطلاق الرصاص وسقوط مزيد من القتلى والجرحى في صفوف المتظاهرين، قبل أن يقرر رئيس الدولة احتلال شوارع العاصمة بواسطة الجيش وإعلان حالة الطوارئ ومنع كل تجمع بالطريق العام والساحات العامة يفوق ثلاثة أشخاص هذا علاوة على منع جولان الأشخاص والعربات من الخامسة مساء إلى السادسة صباحا. ورغم إقرار الوزير الأول السيد "محمد مزالي" بأن تلك الإجراءات نهائية وغير قابلة للتراجع و المراجعة فإن المظاهرات المعادية للحكومة ولاختياراتها قد تواصلت في اليوم التالي أي يوم 4 جانفي 1984 في كثير من مناطق البلاد وفي العاصمة وضواحيها. كما أن العطلة القسرية التي منحت للجامعات ومختلف المؤسسات التربوية أيام 4 – 7 جانفي 1984 وما صاحب ذلك من إعتقالات في صفوف من تطلق عليهم الحكومة صفة "المجرمين والمخربين" لم يحل دون تواصل الحركة الاحتجاجية التي لم تتوقف إلا مع إعلان رئيس الدولة التراجع عن تلك الإجراءات وإعادة النظر في الميزانية الجديدة في فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية المنهارة وعدم تحميل المواطن أعباء هذا التدهور.
- نتائجها :
تشير الأرقام المتوفرة إلى أن عدد ضحايا حركة جانفي الاحتجاجية بلغ 143 قتيل ([16]) و400 جريح و100 حالة إيقاف و100 مليون من الخسائر المادية ([17]). إن الخسائر البشرية والمادية وما صاحبها من حركة احتجاجية تعكس عمق درجة الرفض التي وصل إليها الشارع لخيارات الحكومة وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بإملاءات صناديق التمويل الدولية. إن هذه الخيارات لم تكن وليدة سياسات نابعة من واقع المجتمع وديناميته الاقتصادية والاجتماعية. مما أحدث أزمة في أوساط الحكومة فأقيل وزير الداخلية "إدريس قيقة" ووجهت الاتهامات إلى البعض من أعوانه مثل كاتب الدولة والمسؤول عن ولاية الشرطة نظرا إلى الإخلال بواجباتهما كما عين بورقيبة فريقا أمنيا جديدا سيكون له دور إنهاء الفترة البورقيبية لاحقا .
ثالثا : الأزمات السياسية :
– الأزمة اليوسفية والمحاولة الانقلابية لسنة 1962 :
اليوسفية : ترمز هذه الكلمة إلى ظاهرة سياسية –اجتماعية تبلور ظهورها قبل أن يلتحق بها "صالح بن يوسف" نفسه، إذ يعود ظهورها إلى سنة 1952 تاريخ بروز المجموعات المسلحة التي ترى في العمل المسلح الأسلوب الأسلم لمقاومة الاستعمار الفرنسي. تجسد هذا الموقف في تجربة "جيش التحرير الشعبي" الذي أسسه "الطاهر لسود" والذي تبلور بصورة أوضح مع توقيع اتفاقيات الاستقلال الداخلي سنة 1955. برزت اليوسفية كحركة تحررية أثناء الفترة الاستعمارية مشكلة رد فعل مسلح على وجود الاستعمار في تونس والمغرب العربي، واليوسفيون هم أنصار الزعيم "صالح بن يوسف" الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد. عرفت اليوسفية تأييد تيارات فكرية وأحزاب سياسية ومنظمات نقابية وعناصر وطنية وأخرى ثورية آمنت بالكفاح المسلح([18]). واستطاعت أن تكسب تأييد الغالبية العظمى من الشعب التونسي، ثبت ذلك من خلال إحصاء الشعب الدستورية المنتمية إلى الحركة اليوسفية التي قدر عددها في حدود 747 شعبة([19]). واليوسفية ليست أيديولوجيا وليست نظرية في كيفية التحرر من الاستعمار، وإنما هي حركة سياسية ذات هوية مغاربية وذات عمق عربي إسلامي، وهي نتيجة لعوامل ذاتية وأخرى موضوعية، تجسدت الأولى في قدرة الأستاذ "صالح بن يوسف" على تجديد شخصيته السياسية بصورة جذرية بعد أن برزت الظروف الموضوعية المساعدة على ذلك مجسدة في بروز مصر كقاعدة خلفية للحركات الاستقلالية في الوطن العربي بعد قيام ثورة الضباط الأحرار سنة 1952، هذا علاوة على انعقاد مؤتمر باندونغ بأندونيسيا الذي حضره "بن يوسف" وهو المؤتمر الذي أرسى مبادئ عدم الانحياز([20]). لقد خاضت اليوسفية معركتين متوازيتين، الأولى ضد الدولة الاستعمارية والثانية ضد الجماعة البورقيبية أو ما يسمى بجماعة الديوان السياسي التي حسم الصراع لصالحها بفضل دعم الإدارة الاستعمارية، وما انفك الصراع أن تحول بين حزب الأمانة العامة و الدولة الناشئة التي أصبح بورقيبة رئيسها بعد وضع حد لنظام البايات وإعلان الجمهورية سنة 1957 والتي تمكنت من تصفية المجموعات اليوسفية المعارضة بفضل الدور الذي قامت به "لجان اليقضة " البورقيبية وما تبعه من محاكمات صورية وعمليات إعدام وتصفية كان آخرها اغتيال "صالح بن يوسف " نفسه يوم 11 أوت 1961 بمدينة فرنكفورت الألمانية ([21]).
- المحاولة الانقلابية : توصف بأنها محاولة لتغيير نظام الحكم في تونس، اشترك في القيام بها مجموعة من العسكريين والمدنيين([22]).
- أسباب المحاولة الانقلابية : تنقسم هذه الأسباب إلى قسمين، داخلية وخارجية :
- الأسباب الداخلية : تتعلق باستغلال بورقيبة للشرعية النضالية ليتحول إلى "حاكم مستبد سخر الدولة وأجهزتها لبناء شخصية أسطورية ملهمة مستخفا بالشعب وقدراته وقيمه مشككا في إمكانياته فهو بالنسبة له غبار من البشر"([23]). وهو ما شكل مقدمة للقضاء على مكونات المجتمع المدني جنينية التشكل، وتدجين اتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين والمنظمات الشبابية. كما تم استئصال كل معارضة لعل أبرزها المعارضة اليوسفية وما يعنيه ذلك من تهميش للمقاومين واصفا إياهم بأنهم "... أشخاص بسطاء، فبعد مرحلة الجبال شهدوا كيف أن الجبش الفرنسي ينسحب بين عشية وضحاها وكيف أصبحت الوزارات بين أيدي تونسيين فأصيبوا بنوع من النشوة وصورت لهم عقولهم البسيطة أنهم انتصروا على فرنسا واحتفلوا بذلك، وكان لزاما علينا أن لا نتركهم يفقدون الصواب... "([24])، وهي الأرضية التي تساعد على بلورة دور الحزب الواحد والزعيم الأوحد كطريقة في الحكم. بالتوازي مع ذلك سن بورقيبة مجموعة من القوانين الاستثنائية ما بين 1957 و1959 قدرت ب375 قانونا، لعل أكثرها إثارة قانون الفصل 13 الذي يسحب حق المواطنة على المواطن التونسي وقانون 59 الذي يسمح بانتزاع الممتلكات ([25])، وأحدث محكمة أمن الدولة التي تصدر أحكاما نافذة غير قابلة للاستئناف لتولي المحاكمات السياسية، وخطة المدعي العام. وسمح بورقيبة لنفسه أن يعبث بالمؤسسة الدينية من خلال غلق الجامعة الزيتونية وحل جمعية الأحباس والاستخفاف بالقيم الإسلامية([26]). لقد دعمت هذه العوامل الأزمة الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد نتيجة فشل التوجه الليبرالي لفترة الخمسينات، والشروع في تطبيق سياسة الاقتصاد المخطط، وتدعيم التفاوت الجهوي بين الساحل والشمال الشرقي وبقية مناطق البلاد في الشمال الغربي والجنوب ([27]).
- الأسباب الخارجية : يقصد بذلك أساسا ما يعرف في تاريخ تونس المعاصر بمعركة بنزرت التي يرى فيها منظمو المحاولة الانقلابية عملية فاقدة للمبررات الموضوعية وللحسابات السياسية الدقيقة خاصة وأن الرئيس الفرنسي "ديغول" كان قد وعد بالجلاء عن بنزرت بمجرد الانتهاء من مشكلة الجزائر ([28]). إلا أن بورقيبة اختار الزج بآلاف العسكريين والمتطوعين في معركة غير معدة سلفا وغير متكافئة عسكريا انتهت بسقوط ما بين 5000 و6000 من الشهداء([29]). وبذلك استطاع كسب تعاطف العالم الثالث وبلدان عدم الانحياز وتأييد الزعيم المصري "جمال عبد الناصر" الذي سيزور تونس لاحقا بعد أن كان أكبر خصم ل "بورقيبة" بسبب تأييده واحتضانه ل"صالح بن يوسف". بالتوازي مع ذلك تمكن "بورقيبة" من التخلص من كثير من معارضيه من الثوار اليوسفيين الذين رفضوا تسليم أسلحتهم ولكنهم كانوا ضحية للخدعة البورقيبية.
- أطراف المحاولة الانقلابية : إذا صح القول بوجود أطراف وراء المحاولة الانقلابية لسنة 1962، فيمكن الإشارة إلى طرفين رئيسيين هما العسكريين والمدنيين. أما العسكريون فعددهم سبعة كما يبرزهم الجدول التالي([30]):

الاسم واللقب
الصفة
محمد الحبيب بركية
خريج مدرسة سانسير العسكرية الفرنسية
محمد قيزة
"
المنصف الماطري
"
عمر البنبلي
ضابط سابق بالجيش المصري والجيش السوري
عبد الصادق بن سعيد
ضابط بالجيش الفرنسي أو بحرس الباي أثناء فترة الاستعمار الفرنسي
كبير المحرزي
نقيب مكلف بحراسة القصر الرئاسي
صالح الحشاني
ملازم مشرف على حامية قفصة
أما المجموعة المدنية، فقد قدر عددهم بعشرين شخصا من بينهم عشرة ذوي أهمية كما يبرزهم الجدول التالي([31]):
الاسم واللقب
الصفة
الهادي القفصي
أصيل منزل جميل – قفصة
الحبيب حنيني
المندوب المساعد للحزب الدستوري ببنزرت
لزهر الشرايطي
مقاوم قديم وأصيل مدينة قفصة
عبد العزيز العكرمي
أستاذ عربية، ناشط يوسفي، أصيل قفصة
أحمد الرحموني
خريج الجامع الأعظم، أصيل تالة، أستاذ بالشعبة العصرية بمعهد ابن شرف، يوسفي الانتماء
المسطاردي بن بوبكر بن سعيد
لاجئ بالجزائر، ناشط يوسفي
الساسي بويحي
مقاوم قديم، أصيل قفصة
محمد صالح البراطلي
مقاوم قديم، أصيل بنزرت، ناشط يوسفي
أحمد التيجاني
يشتغل بالقضاء قبل أن يقال ليمتهن الفلاحة بجهة الكاف
عز الدين الشريف
معلم، أصيل قفصة، ناشط يوسفي
يشير أحد المشاركين في المحاولة الانقلابية إلى أن انقسام عملهم إلى قسمين يعكس وجود مرحلتين تولت العناصر المدنية الإعداد لها عبر تمرد مدينة قفصة بقيادة "عبد العزيز العكرمي" و"أحمد الرحموني" و"الزموري" و"الشرايطي"، على أن تدوم فترة التمرد بين يومين وأسبوع حتى تصلهم التعزيزات والدعم من الجزائر التي تولى التنسيق معها "إبراهيم طوبال" و"المسطاردي بن سعيد" كما هو الشأن بالنسبة للتنسيق مع مصر ([32]). وتولت العناصر العسكرية إعداد خطة للقيام بانقلاب عسكري بعد أن تبين استعداد عدد كبير من الضباط للمشاركة في ذلك وقد تولى "عمر البنبلي" عملية التنسيق بين الطرفين العسكري والمدني نظرا لقيامه بنفس الدور في انقلاب عسكري في دمشق. إلا أن المحاولة فشلت بسبب الرغبة التي أبداها العسكريون في الانفراد بالعملية الانقلابية وبالتالي تأجيلها وما صاحب ذلك من وشاية أحد الضباط الصغار([33]).
-نتائج المحاولة الانقلابية : إذا أمكن الحديث عن نتائج هذه المحاولة فلابد من الإشارة إلى الفشل التام في تحقيق هدفها الرئيسي المتمثل في إزاحة "بورقيبة" من هرم السلطة. بل إن نتائجها كانت وخيمة على القائمين بها في مستوى أولى ظروف الاعتقال- التي تصفها إحدى الشهادات بأنها "كانت مرعبة ولا يستطيع أحدا أن يتصور كيف يتواصل بقاء إنسان على قيد الحياة وهو مغلول في سلسلة مشدودة إلى حائط وطولها 80 صم فقط لمدة 7 سنوات كاملة بـ37 درجة في دهليز مظلم، وقد أذاقنا مدير السجن... الأمرين فلم يمكننا من الأحذية رغم قسوة البرد في الدهليز، ثيابنا رثة ممزقة وسخة يرعى فيها القمل ويتغذى من أجسادنا الهزيلة... إلخ"([34])- وفي مستوى الأحكام الصادرة في حق "الانقلابيين" التي تراوحت بين الإعدام والأشغال الشاقة والسجن. فقد "حكمت المحكمة بإعدام "عمر البنبلي" و"كبير المحرزي" و"صالح الحشاني "وعبد الصادق بن سالم" و"المنصف الماطري" و"حمادي قيزة" و"الحبيب بركية"وكلهم من العسكريين و"الحبيب حنيني" و"الهادي القفصي" و"الأزهر الشرايطي" و"عبد العزيز العكرمي" و"أحمد الرحموني" و"المسطاردي بن سعيد" (في حالة فرار) وكلهم من المدنيين، وبالأشغال الشاقة المؤبدة على "محمد الصالح البراطلي" و"الساسي بويحي"، وبعشرين عاما أشغالا شاقة على "العربي العكرمي" و"علي كشك" و"عبد القادر بن يشطر" و"أحمد التيجاني" و"تميم بن كامل التونسي "وعشر سنوات أشغال شاقة على "علي القفصي" و"عز الدين الشريف"، وخمسة أعوام أشغالا شاقة على "علي الكفلي الشواشي"، وعامين سجنا على "محمد العربي المثناني" و"حسن مرزوق"، وعام سجنا على العربي الصامت. وقد نفذت أحكام الإعدام في المحكوم عليهم بتاريخ 24 جانفي 1963، مع استثناء "المنصف الماطري" و"محمد قيزة" الذين أبدل الحكم في شأنهما إلى الأشغال الشاقة المؤبدة([35]).
2 – عملية قفصة المسلحة لسنة 1980 :
- كرونولوجيا الأحداث : عملية قفصة هي عملية مسلحة جرت في الليلة الفاصلة ما بين 26 و27 جانفي 1980، تولت القيام بها مجموعة من الأشخاص قدر عددهم بحوالي 60 مسلح هاجموا مراكز الشرطة والحرس وثكنتين بالمدينة قبل أن يوجهوا دعواتهم إلى الأهالي للانضمام إلى "الثورة المسلحة "والإطاحة "بالنظام البورقيبي" ([36]). وقد وزعت المهام على خمس مجموعات هي على التوالي :
- مجموعة "أحمد المرغني "، تتكون من 23 شخصا وستتولى مهاجمة ثكنة "أحمد التليلي"
- مجموعة "بلقاسم كريمي" و"عبد المجيد الساكري"، مهمتها مهاجمة مركز الشرطة بالمدينة
- مجموعة "حسين نصر العبيدي" و"عبد الرزاق نصيب" تهاجم مركز الحرس
- مجموعتا كل من "العربي الورغمي" و"نور الدين الدريدي" من جهة و"عز الدين الشريف" من جهة ثانية تتوليان مهاجمة ثكنة الجيش داخل المدينة ([37]).
بدأت الأحداث بإطلاق قذيفة بازوكا كإشارة انطلاق، ونجحت بعض المجموعات في الاستيلاء على بعض المراكز الأمنية قبل أن تلتحق بمهاجمي الثكنة العسكرية بالمدينة. وتمكن "أحمد المرغني" من السيطرة على الثكنة العسكرية الخارجية بعد أن أسر من فيها. في مقابل ذلك أبدت الثكنة الداخلية مقاومة حالت دون الاستيلاء عليها([38]). تمكن المهاجمون في صبيحة يوم 27 جانفي من السيطرة على المدينة بعد أن سقطت المراكز الأمنية وثكنة الجيش الخارجية في أيديهم ولم يبق إلا جيب مقاوم بالثكنة الداخلية. لكن ذلك لن يستمر طويلا بسبب عدم استجابة سكان مدينة قفصة للنداءات المتكررة لحمل السلاح والالتحاق بـ"الثورة "، وبسبب غياب التنسيق بين مختلف المجموعات مما أدى إلى فشل قياداتها في تشكيل "حكومة مدنية". تدعم هذا الفشل بدخول قوات الجيش المدينة وإعلان السيطرة عليها. وبالتوازي مع سير العملية المسلحة يمكن الإشارة إلى بعض الأحداث التي من أبرزها :
- قتل رجل شرطة وأسر أعوان آخرين عند الاستيلاء على مركز الشرطة
- تعطيل حافلة جزائرية واستخدامها كحاجز من طرف "الثوار" بعد أن تم إيقاف ركابها في شكل رهائن
- قتل شخصين في سيارة رفضت الامتثال
- قتل عضو لجنة التنسيق الحزبي الذي جاء يستفسر عما يحدث باعتباره مسؤولا حزبيا
- رفع النداءات عبر مضخم الصوت للالتحاق بالثورة و"الإطاحة بحكم بورقيبة الطاغية وحزبه ووزرائه السراق"
- محاولة "الشريف " التنسيق مع بعض الوجوه النقابية والمعارضين لكن بدون جدوى
- أسر ثلاثة أعوان شرطة من طرف مجموعة يقودها متطوع من الداخل
- احتجاز 300 جندي كأسرى بقاعة رياضية بالمعهد الثانوي
- رصاصة طائشة تصيب "محمد صالح المرزوقي" أحد قادة العملية، ينقل على إثرها إلى المستشفى
- المهاجمون ينسحبون وينتهي الأمر بإلقاء القبض على "أحمد المرغني" القائد العسكري للعملية بضواحي حامة قابس يوم 6 فيفري واستسلام "عز الدين الشريف" قائدها السياسي ([39]).
- عوامل اختيار قفصة :
لقد ساعدت عدة عوامل على اختيار مدينة قفصة مكانا وزمانا، ولم يكن ذلك وليد الصدفة. فقفصة التي تبعد عن الحدود الجزائرية حوالي 100 كلم وعن الحدود الليبية قرابة 700 كلم، شكلت مركز استقطاب تاريخي لأغلب الحركات الرافضة للسلطة الحاكمة سواء كان ذلك أثناء الفترة الاستعمارية أو إبان فترة الحكم البورقيبي. فالمعروف لدينا أن قفصة بفضل مناجمها وما نشأ بالتوازي مع ذلك من حركة عمالية كانت من الفضاءات المبجلة للحركة النقابية المعروفة باسم "جامعة عموم العملة التونسيين" التي أسسها الزعيم النقابي "محمد علي الحامي". وهي إحدى ملا ذات الحركة اليوسفية وجيش التحرير الشعبي الذي أسسه "الطاهر لسود" أو ما كان يطلق عليه "بورقيبة" تسمية "الفلاقة" الذين رفضوا تسليم أسلحتهم بعد توقيع اتفاقية الاستقلال الداخلي سنة 1955، وبرتوكول الاستقلال سنة 1956. كما كانت قفصة مركز دعم وتمويل وتسليح للثورة الجزائرية، قبل أن تكون المكان الذي اختارته مجموعة من العسكريين والمدنيين اليوسفيين للتخطيط وانطلاق "حركتهم الانقلابية" لسنة 1962. وهي بالإضافة إلى ذلك موطن "عز الدين الشريف " القائد السياسي لعملية قفصة وأحد أبرز وجوه المحاولة الانقلابية السالفة الذكر. كل هذه العوامل جعلت من قفصة موطنا لعدم الاستقرار السياسي فحضيت باختيار منفذي العملية المسلحة([40]). تدعم ذلك ببعض المعطيات الأخرى لعل أبرزها قرب الحدود الجزائرية مما سهل توفير الأسلحة والقدرة على التسلل والانسحاب، وانتماء "عز الدين الشريف" القائد السياسي للعملية لجهة قفصة ساعد على إعطاء دور للعامل القبلي خاصة وأن عرش "أولاد عبد الكريم" الذي ينتمي إليه "الشريف" عرف عنه تمرده على السلطة المركزية أثناء حكم البايات بل وافتكاك المجبى من المحلة.
بالتوازي مع كل ذلك شكلت قفصة مركزا للتأزم الاجتماعي بعد أن انعكست عليها نتائج الاختيارات التنموية الفاشلة لفترة السبعينات من القرن العشرين ([41]). إن ظاهرة البطالة المتنامية في قفصة ستدفع إلى بروز وعي عمالي ونقابي في الفضاءات المنجمية وإلى تنامي حركة الهجرة إلى ليبيا التي قدرت في حدود 51 بالمائة ([42]).
لقد وجد منفذو العملية في هذه العوامل مجتمعة الأرضية المناسبة للاختيار المكاني والزماني، إن عملية قفصة في رأي منفذيها هي امتداد لرد فعل شعبي ساخط على الاختيارات الاقتصادية التي عمقت الفروق الاجتماعية وكرست الاستبداد السياسي، فهي في نهاية الأمر امتداد للانتفاضة العمالية التي عرفتها البلاد سنة 1978 إذا لم تكن إحياء لذكراها بالطريقة المناسبة.

– من يقف وراء عملية قفصة ؟
- منفذو العملية : بالرغم من انتماء منفذو العملية للجبهة القومية التقدمية ([43]) ذات التوجه العروبي – اليوسفي، فإنه لم يتم التركيز على تلك الخلفية السياسية والاكتفاء بالنظر إلى تلك الأحداث على أنها من فعل "مكتب الاتصال الخارجي" أحد مؤسسات جهاز الاستخبارات الليبي الذي يحتل مكانة مرموقة لدى القيادة الليبية ([44]).
- بعض الخصائص العامة : ينتمي ما يزيد عن 68 % من المشاركين في عملية قفصة إلى الفئة العمرية ما بين 20 و 30 سنة أما النسبة المتبقية فتتراوح أعمارهم ما بين 31 و 60 سنة. وتقدر نسبة العزاب ب65 % وهي النسبة التي يحتلها من لهم سوابق من بينهم 14 % ذوي سوابق سياسية وحوالي 86 % ذوي سوابق مدنية. يشتغل 81 % من منفذي العملية في أشغال يدوية (البناء، الدهن، النجارة، التجارة والعمل الفلاحي) ولا يشتغل بالعمل الفكري سوى شخص واحد هو "الشريف" الذي كان يعمل بالتعليم وله تكوين زيتوني. وتقدر نسبة العاطلين بحـوالي 10 %. فيما يتعلق بالانتماء الجغرافي فغالبية منفذي العملية ينتمون إلى الولايات الداخلية حيث تصل نسبتهم إلى أكثر من 78 % وتتوزع النسبة المتبقية بين الولايات الساحلية ب حوالي 10 % والعاصمة بحوالي 13 % ([45]).
تبين لنا النسب المعتمدة أن أغلبية أفراد الكمندوس المسلح هم من الشباب غير المرتبطين بعلاقات زوجية، وهو ما ساعد على تجنيدهم في حقل "العمل المسلح" في ظروف اتسمت بالهجرة إلى ليبيا بحثا عن شغل يوفر دخلا قارا بعد أن تعذر عليهم الحصول على ذلك في موطنهم الأصلي، هذا الموطن الذي لم ينل حظه بدوره من المشاريع التنموية. إن النسب المعتمدة تشير بوضوح إلى أن الغالبية العظمى من منفذي العملية هم أصيلي الولايات الداخلية التي ينتمي إليها أغلب المهاجرين إلى ليبيا.
- قيادة العملية : تمركزت قيادة عملية قفصة المسلحة في أيدي شخصين اثنين هما "عز الدين الشريف" القائد السياسي و"أحمد المرغني " القائد العسكري ([46]).
- "عز الدين الشريف" : أصيل مدينة قفصة، درس لمدة سنتين بالمدرسة الفرنسية العربية قبل أن يلتحق بفرع جامع الزيتونة بقفصة سنة 1948 أين أحرز على الشهادة الأهلية، ثم واصل دراسته بالجامع الأعظم حيث أحرز على شهادة التحصيل قبل أن ينتمي إلى شعبة الآداب و اللغة العربية. في سنة 1957 عمل في سلك التعليم الابتدائي بعد مشاركته في مناظرة في الغرض. شارك سنة 1962 في المحاولة الانقلابية للإطاحة بنظام الحكم مما أدى إلى سجنه 10 سنوات مع الأشغال. بعد انقضاء العقوبة بما في ذلك الفترة التكميلية عاد "الشريف" إلى سالف نشاطه المعارض فالتحق بليبيا ليجد بعض رفاقه القدامى الذين مهدوا له الطريق عبر ربطه "بمكتب الاتصال العربي"، فتوسعت دائرة نشاطه لتشمل الجزائر والبوليزاريو أين تمرس على ممارسة تهريب الأسلحة. بداية من سنة 1978 بدأ "الشريف" الإعداد لعملية قفصة صحبة رفيقه "أحمد المرغني "عبر تسريب الأسلحة إلى قفصة والإعداد البشري والمادي للعملية التي تحدد تاريخها في يوم 27 جانفي1980 ([47]).
- "أحمد المرغني" : من مواليد جرجيس بالجنوب التونسي سنة 1941، زاول تعليما ابتدائيا متقلبا انتهى به إلى الانقطاع عن الدراسة والدخول في الحياة العامة بصفة مبكرة. بدأ أولى تجاربه في الهجرة سنة 1962 عندما انتقل إلى الجزائر للعمل قبل أن يتحول إلى ليبيا سنة 1971 لنفس الغرض. وقد تغير مسار حياته بعد أن احتك ببعض وجوه المعارضة وبسبب انتمائه "للجبهة القومية للقوى التقدمية التونسية ". كلف "المرغني" في أول اختبار له بتفجير مقر الحزب الحاكم في تونس والمركز الثقافي الأمريكي وذلك في شهر جوان من سنة 1972. وقد ألقي عليه القبض قبل تنفيذ العملية وحكم عليه بخمس سنوات سجنا، قضى منها أربع سنوات فقط بسبب العفو الرآسي بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال سنة 1976. عاد بعد ذلك إلى ليبيا ليمارس نشاطه مجددا في صفوف الجبهة القومية التقدمية. ثم التحق بعد ذلك بجبهة البوليزاريو لقضاء خمسة أشهر في التدرب على الأسلحة الخفيفة، ثم انتقل إلى لبنان لتجنيد بعض التونسيين في صفوف الجبهة القومية التقدمية ([48]).
– الدور الليبي :
لقد نفت السلطات الليبية أي علاقة لها بعملية قفصة عند انطلاقتها حسب تصريح وزير خارجيتها الذي جاء فيه "الجماهيرية الليبية غير متورطة بصفة مباشرة أو غير مباشرة بالأحداث الجارية بمدينة قفصة "([49]). إلا أن ذلك مجرد موقف سياسي فرضته "العلاقات الدولية والقانون الدولي " الذي يمنع التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ثانية وتغيير نظام الحكم فيها بالقوة. إن جذور التوتر بين الجماهيرية والحكومة التونسية تعود إلى سنة 1974 تاريخ إلغاء "بورقيبة" "المعاهدة الوحدوية " بين تونس وليبيا الموقعة في 12 جانفي 1974. فقد تبنت الجماهيرية الليبية خلال تلك الفترة خطا وحدويا يقوم على خيار تحقيق فكرة الوحدة العربية بالقوة مما وضعها في موقع العداء لكثير من الأنظمة العربية التي لابد من الإطاحة بها بواسطة "لجان شعبية ثورية" تتولى مهمة إنجاز "الثورة " وتحقيق الوحدة العربية ([50]).
لا شك أن عملية قفصة لسنة 1980 كانت إحدى مخططات الجماهيرية الليبية التي لا تحتاج إلى إثبات دورها في تنظيمها عن طريق ما يعرف ب"المكتب العربي للاتصال" الذي وفر الدعم المادي والمعنوي واللوجستي والتغطية الإعلامية لعملية قفصة ([51])، التي لم تكن سوى نتيجة لالتقاء مصلحة النظام الليبي ومنفذي العملية الذين ينتمون إلى "الجبهة القومية التقدمية" ذات الانتماء العروبي. وهو التنظيم الذي له حسابات قديمة مع النظام البورقيبي في تونس ترجع إلى فترة تصفية الحركة اليوسفية والقضاء على المحاولة الانقلابية لسنة 1962. وهذه المصلحة ربما تكون محكومة بوحدة الخطاب الأيديولوجي القومي العربي، ذلك أن الجماهيرية الليبية كثيرا ما ادعت أنها وريثة النظام الناصري في مصر الذي يجمع على الانتماء إليه غالبية فصائل الحركة القومية العربية. فهل تحتاج ليبيا إلى تبرير موقفها في تبني هذه العملية وتوفير الدعم الكامل لمنفذيها ؟
- الدور الجزائري :
أصدرت السلطات الجزائرية شأنها في ذلك شأن السلطات الليبية، بيانا أكدت فيه أن حرس مراقبة الحدود لم يسجل أي تسرب لأشخاص أو لحركة مشبوهة. إلا أن "الهادي نويرة" الوزير الأول التونسي شكك في هذا الموقف معتبرا أن الحكومة الجزائرية ضالعة في أحداث قفصة. فقد استند في ذلك إلى اعترافات "عز الدين الشريف " الذي أقر بوجود علاقة تربطه بالسلطات الجزائرية وبجهاز مخابراتها، وهي العلاقة التي نسجت أثناء اشتغال "الشريف " لصالح جبهة البوليزاريو الصحراوية. يرجع هذا الموقف الجزائري المؤيد لعملية قفصة المسلحة إلى وجود جناحين داخل حزب جبهة التحرير الحاكم أحدهما ذو خلفية عروبية – إسلامية تربطه علاقات تحالف مع ليبيا([52]).
- الدور الغربي :
إذا ما استثنينا تصريحات مسؤولي بعض الدول الغربية المؤيدة لموقف الحكومة التونسية والمدينة لما أطلقت عليه "الاعتداء الليبي على تونس "، فإن الدور الحقيقي والحاسم قد تولته فرنسا. لقد صرح الرئيس "بورقيبة " "بأن فرنسا لم تتأخر عندما شعرت بأن تونس ومنطقة المتوسط في خطر بسبب عملية قفصة "([53]). وبناءا على ذلك فإن من واجب فرنسا التدخل عسكريا دون تأخر مستخدمة الطائرات والطائرات المروحية حسب تصريحات أحد مسؤوليها للشؤون الخارجية ([54]). لاشك أن هذا الموقف الفرنسي لا ينبع فقط من اعتبار فرنسا أن تونس هي مجالا حيويا من مجالاتها الاقتصادية، وإنما ينبع بالإضافة إلى ذلك من موقف أخلاقي يفرض على فرنسا حماية مستعمراتها القديمة خاصة وأن الرئيس بورقيبة قد حافظ على ولائه "للأمة الحامية " القديمة التي لاتزال ترى في وريثها أحسن مثال على تطبيق مبادئ "التحررية الغربية"، بل إنجاز ما لم تستطع فرنسا نفسها إنجازه أثناء احتلالها لتونس. إن التدخل الفرنسي الداعم لحكم الرئيس بورقيبة لإحباط عملية قفصة قد وجد معارضة من طرف تشكيلات المجتمع السياسي التي كانت أدانت هذه العملية ومنفذيها واصفة هذا التدخل بالجريمة لأنه يتنافى مع مبادئ القانون الدولي ([55]).
رابعا : إدارة الأزمات، موقف السلطة والمجتمع السياسي :
- الأزمات الاجتماعية والسياسية من منظور السلطة : يلاحظ من خلال التأمل في الأزمات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها تونس ما بين 1955 و1987 أن الذين يقفون وراء أحداثها باعتبارها حركات احتجاجية ينقسمون إلى قسمين : فمن جهة نجد فصائل الحركة القومية العربية التي نشأت مع اليوسفية وتبلورت في عدة تنظيمات (الجبهة القومية التقدمية، حركة الوحدويين الأحرار) عبرت عن معارضتها للنظام السياسي الذي وضع أسسه "الحبيب بورقيبة" في مناسبات مختلفة بدأت بمعارضة اتفاقيات الاستقلال الداخلي وانتهت بالعملية المسلحة بقفصة سنة 1980، هدفها من وراء ذلك إثبات هوية تونس العربية الإسلامية واعتبار ذلك مصدرا لشرعية مختلف أنشطتها. ومن جهة أخرى نجد شرائح الشغالين والعمال الذين أدت حركتهم الإضرابية إلى ما يعرف بـ "الخميس الأسود" في 26 جانفي 1978 بسبب الرفع في الأسعار وعدم الزيادة في الأجور، وانتهى عملهم الاحتجاجي سنة 1984 إلى ما يعرف بثورة الخبز يدعمهم في ذلك طلبة الجامعات والثانويات وشرائح اجتماعية أخرى، ويرجع ذلك إلى قرار الحكومة رفع الدعم على المواد الأساسية وخاصة العجين ومشتقاته.
في مقابل ذلك كانت الحكومة تتعامل مع هذه الحركات الاحتجاجية ومن يقومون بها على أنهم مارقون وخارجون عن القانون([56]) ولابد من التصدي لهم بواسطة الوسائل الأمنية –العسكرية وبالاعتماد على جهاز القضاء بدل من الخيار السياسي.
- الخيار الأمني العسكري : في تصفيتها للحركة اليوسفية والمحاولة الانقلابية لسنة 1962 اعتمد "بورقيبة" على "لجان اليقضة" وعلى الميلشيات التابعة "لجماعة الديوان السياسي" في البداية قبل أن يقوم بتوظيف مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، فكان "صالح بن يوسف" ضحية الأسلوب الأول وكان أنصاره ومن ذلك المجموعة التي توصف بالانقلابية ضحية الأسلوب الثاني. وقد استمرت المعالجة الأمنية للحركات الاحتجاجية المدنية والمسلحة. إذ اعتبرت السلطة السياسية قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء أحداث 26 جانفي 1978 بأنها "أشبه ما تكون بسفينة ظلت طريقها فغدت تتقاذفها أشد النزعات محافظة وتزمتا من ناحية واليسارية الممعنة في المغامرة من ناحية أخرى "و" أن كل تحركاتها وتصريحاتها تمثل أرضية للمؤامرة والتخريب"([57]). ووصف قرار الاتهام العناصر المنفذة لعملية قفصة بأنهم "حثالة الشعب". وجاء في نص التصريح بالحكم بأنهم "رهط من الشبان رسخت لهم أقدام في الشر والفساد وامتدت لهم جذور في المكر والتآمر على أمن تونس ونظام الحكم القائم فيها، وهؤلاء الأشخاص جلهم تطاردهم العدالة ويلاحقهم القانون... باعوا ضمائرهم وشرفهم فاستبدالوا الخير بالشر والرشد بالغي والهداية بالظلال وآثروا الردة القومية على سلامة الوطن الذي حبه من الإيمان "([58]).
ويكاد نفس الموقف يتكرر مع أحداث "انتفاضة الخبز" حيث وصف منفذوها بأنهم "مجرمون في حق الشعب "و"بيادق تحركها عناصر تخاف من الديمقراطية"و"بأنها نفوس مريضة وحقودة. تفتقد إلى الشجاعة والرجولة" وهي "عصابات من السفلة واللصوص عملت على تدمير تونس بأسرها "وقد وصلت الأوصاف التي أطلقت على الشرائح المشاركة في أحداث جانفي 1984 إلى نعتهم بأنهم "أعداء الشعب المجرمين والوندال الجدد وجيوب الإرهاب والسلب والحرق التي أعدت خطة جهنمية للإطاحة بالجمهورية والديمقراطية "([59]). لم تكن هذه النعوت والأوصاف التي تطلقها الحملات الصحفية للحزب الحاكم سوى مقدمات ضرورية لتبرير إعلان حالة الطوارئ وإطلاق النار على المتظاهرين والقيام بحملات اعتقال في صفوفهم مع ممارسة كل أشكال العنف ضدهم قبل تقديمهم لمحاكمات صورية أما إذا تعلق الأمر بتمرد مسلح كما هو الشأن بالنسبة لأحداث قفصة فلا بد من تدخل الجيش ونصب المحاكم الاستثنائية.
- دور القضاء : عرفت المؤسسة القضائية في تونس تحولا عميقا بداية من سنة 1956 تاريخ استلام "بورقيبة" للسلطة الذي اتخذ عدة قرارات في هذا المجال لعل أبرزها وضع حد لازدواجية القضاء وبعث قضاء موحد مشابه للقضاء الفرنسي بعد إعادة تنظيم وزارة العدل وبعث محكمة تعقيب وثلاثة محاكم استئناف وإحدى عشر محكمة ابتدائية وسبع وثلاثون محكمة ناحية([60]). بالتوازي مع تحديث جهاز القضاء العادي الذي يمكن أن يساعد على تدعيم قوة الدولة وتنظيم المجتمع على أساس القانون، أسس "بورقيبة " باعتباره رئيس الجمهورية الذي يرأس كذلك المؤسسة القضائية لظاهرة القضاء الاستثنائي مثل "محكمة القضاء العليا"التي أسندت إليها مهمة تفكيك الحركة اليوسفية والقضاء عليها. والقضاء العسكري الذي أنيطت بعهدته مهمة محاكمة مجموعة المحاولة الانقلابية لسنة 1962 وعناصر الكمندوس المسلح الذي نظم عملية قفصة سنة 1980. وتولت محكمة أمن الدولة محاكمة النقابيين سنة 1978 والمنتمين لانتفاضة الخبز سنة 1984، هذا علاوة على تولي النظر في قضايا مختلف التنظيمات السياسية السرية منها والعلنية. إن المتتبع للأحكام الصادرة عن القضاء الاستثنائي سيدرك أن هذه الأحكام كانت معدة سلفا بما تمليه الحكومة. وهو ما يعكس وجود علاقة غير سوية بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية جعل هذه الأخيرة في موقع التبعية للأولى رغم تبني شعار استقلالية القضاء والفصل بين السلطات. لقد أدى كل ذلك إلى فقدان المؤسسة القضائية أثناء الفترة البورقيبية لمصداقيتها وجعل شرائح اجتماعية واسعة وتنظيمات سياسية عديدة يشعرون بقهر السلطة وظلمها([61])، ويفتقدون إلى مؤسسة قضائية قادرة على حماية المجتمع بصورة عامة والمجتمع السياسي بصورة خاصة باعتباره يسعى إلى إرساء قواعد التعدد والتداول على السلطة واحترام القانون بدل الحكم الكلياني الذي أرساه "بورقيبة" وساهم في إجهاض مقاومته جهاز القضاء.
- موقف المجتمع السياسي : لقد كان موقف المجتمع السياسي في تونس من الأزمات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها البلاد ما بين 1957 و1987 والحركات الاحتجاجية التي وقفت وراءها محكوما بخلفيات أيديولوجية – سياسية. ففي حين عرفت أحداث 26 جانفي 1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984 ما يقرب عن الإجماع حول شرعيتها من طرف المشتغلين بالحقل السياسي خارج دائرة السلطة، فإن الأمر كان مختلفا بالنسبة للمحاولة الانقلابية سنة 1962 وعملية قفصة سنة 1980. وسنكتفي في هذه الدراسة بالتعرض لموقف المجتمع السياسي لنموذجين اثنين هما عملية قفصة وانتفاضة الخبز.
- عملية قفصة : تميز موقف غالبية أطراف المجتمع السياسي التونسي من عملية قفصة بنوع من الازدواجية القائمة على إدانة العملية والقائمين بها والواقفين ورائها، وفي الوقت نفسه مطالبة النظام بإصلاحات ديمقراطية. فقد أرسلت المجموعة الملتفة حول جريدة الرأي وأصبحت تعرف فيما بعد بحركة الديمقراطيين الاشتراكيين برقية إلى رئيس الدولة جاء فيها أن البلاد تجتاز ظرفا خطيرا مستنكرة اللجوء إلى العنف لحل المشاكل الوطنية وداعية إلى إنشاء مجلس وطني يضم رجالا من مختلف الاتجاهات. وحملت هذه المجموعة "العقيد القذافي" مسؤولية تلك الأحداث. كما اعتبر وفد حركة الديمقراطيين الاشتراكيين في مقابلة مع الرئيس "بورقيبة "أن " خير سبيل لصيانة البلاد وتدعيم الدولة هو تجسيم العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي "([62]). وندد "احمد بن صالح" مؤسس "حركة الوحدة الشعبية" بالتدخل الأجنبي في تونس – دون أن يكون ذلك مقتصرا على التدخل الليبي – معتبرا أن "البلاد تعيش أزمة تقارب اليأس نتيجة وضع سياسي واقتصادي واجتماعي... وأن الحل يتمثل في احترام الحريات العامة وإقامة عدالة اجتماعية حقيقية والممارسة الفعلية للسلطة من طرف الشعب "([63]). واستغل الحزب الشيوعي التونسي هذه المناسبة للتنديد بالتدخل الليبي في الشؤون التونسية وبالمغامرة المسلحة التي تنطلق من مفاهيم مبسطة ومخطئة بالنسبة للواقع التونسي، معتبرا أن الظرف الراهن يقتضي العفو العام عن المساجين السياسيين والنقابيين وإطلاق الحريات الديمقراطية([64]). أما منظمة العامل التونسي فقد أصدرت بيانا جاء فيه "أن منظمتنا تدين هذه العملية في شكلها ومضمونها وترى فيها اعتداءا سافرا على استقلالنا وترى أن النظام الليبي هو الذي يتحمل المسؤولية الرئيسية فيها وقد اجتاز بها مرحلة جديدة وخطيرة في سلسلة تدخلاته في شؤون بلادنا الداخلية... ([65])". ولا يختلف الموقف الذي عبرت عنه "حركة الاتجاه الإسلامي " عن ذلك بكثير. فقد نددت هذه الحركة بعملية قفصة وبمن دبر لها ووقف وراءها وساندها وروج لها، وأدانت كل تدخل خارجي معتبرة أنه ليس لليبيا أو فرنسا أو أمريكا أو غيرها أن تتدخل في شؤوننا " مع إدانة كل حركة أو حزب يعتمد على قوى خارجية لتحقيق أغراض سياسية ([66]). إن الطرف الوحيد الذي أيد عملية قفصة المسلحة واعتبرها عملا مشروعا في مواجهة نظام الحكم في تونس هو التيار القومي العربي الناصري مجسدا في "الطلبة القوميون الوحدويون " الذين لم يكتفوا بإبراز مواقفهم المؤيدة لهذه العملية في ملصقاتهم الحائطية التي كانوا يصدرونها بالمنابر الطلابية وإنما عملوا على تنظيم بعض المصاهرات المؤيدة لما أطلقوا عليه تسمية "ثورة قفصة "([67]).
لقد شكلت هذه العملية على اختلاف المواقف المتعلقة بها عاملا حاسما في الصراع السياسي في تونس، ومدخلا لوضع سياسي جديد يتسم بالانفتاح. أبرز خصائصه السماح بنشاط الأحزاب والتنظيمات الوطنية شرط أن تلتزم بالدستور بما في ذلك الإقرار بشرعية حكم "بورقيبة " مدى الحياة، وعدم الولاء للخارج. إطلاق سراح مساجين الرأي والطلبة والنقابيين باستثناء مساجين 1962 وأحداث قفصة. الانفتاح على التيار الإسلامي ومنح التأشيرة لبعض الأحزاب السياسية. وبالرغم من أن هذه الإجراءات تعد محدودة مقارنة بحجم التضحيات التي قدمتها قوى المجتمع السياسي وخاصة في 1978 و1980 وأن المستفيدين منها هم من ندد بعملية قفصة، فإن هذه العملية كان لها كبير الأثر في كل تلك الإجراءات حسب ما اعترفت بذلك "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين " في جريدة المستقبل الناطقة باسمها ([68]).
-انتفاضة الخبز :
تلتقي اغلب أحزاب وتنظيمات المجتمع السياسي في تحميل مسؤولية أحداث انتفاضة الخبز للحكومة، معتبرة أنه رد فعل عفوي وشرعي، لكنها لم تتوان في إدانة عمليات التخريب والنهب. فقد اتفقت القوى السياسية ذات المنشأ الدستوري مثل "حركة الوحدة الشعبية" بشقيها على أن هذه الأحداث هي رد فعل شرعي ومنطقي على الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية المعادية للجماهير مستنكرة الإعتقالات وسياسة العصا الغليضة التي انتهجتها السلطة في مواجهة هذه الأحداث. وأدانت "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين "إطلاق النار على المواطنين وإعلان حالة الطوارئ ولكنها في نفس الوقت أدانت أعمال العنف التي ارتكبها المتظاهرون. وحمل "الحزب الشيوعي " المسؤولية الكاملة للحكومة بسبب قرارها رفع الدعم عن الحبوب وندد بيان اللجنة المركزية للحزب باستعمال القمع والعنف وتدخل الجيش ضد المتظاهرين. كما استنكرت "منظمة العامل التونسي" المحاكمات التي يتعرض لها معتقلي انتفاضة الخبز والمطالبة بوقفها وإلغاء الأحكام الصادرة عنها وخاصة أحكام الإعدام. ورأى "التجمع الاشتراكي التقدمي "- وهو يساري الاتجاه- في الأحداث نتيجة طبيعية لحرمان الشعب من حقه في التعبير المنظم وأدان اللجوء للسلاح في مواجهة الغضب الشعبي مطالبا برفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين. في نفس الاتجاه تقريبا يمكن إدراج موقف "التيار القومي العربي "من أحداث الخبز الذي رأى فيها انتفاضة شعبية جاءت للرد على الاختيارات الفاشلة للنظام الإقليمي. وأدانت "حركة التجمع القومي العربي " المغالطات الرامية إلى محاولة تفسير الأحداث بأنها أعمال شغب وتخريب وحرق وعنف صادرة عن لصوص وقطاع طرق لأنها في واقع الأمر تحركات ذات طابع شعبي قام بها أبناء تونس المضطهدين والمحرومين من العدل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وعبر عن موقف التيار الإسلامي من أحداث الخبز "حركة الاتجاه الإسلامي" التي أبدت استعدادها للوقوف إلى جانب الجماهير المستضعفة وتبني مطالبها العادلة رافضة الترفيع في أسعار الحبوب ومشتقاتها، معتبرة أن أعمال العنف غير مسؤولة وهي نتيجة لسياسة تربوية واجتماعية واقتصادية فاشلة. وتولت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والقيام بإحصاء أعداد القتلى والجرحى وذكر أسمائهم وجهاتهم واعتبار أن السبب الرئيسي للمظاهرات هو الزيادة في أسعار الحبوب ومشتقاتها، وأن القتلى والجرحى هم ضحايا أزمة اجتماعية ومن العدل سن قانون لجبر الأضرار للضحايا وعائلاتهم ([69]).
خاتمة :
خلاصة هذه الدراسة هو أن الأزمات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها تونس تقف ورائها حركات احتجاجية وقوى سياسية واجتماعية، رفضت الدولة الحديثة التعايش معها واحترام حقها في الانتماء للمجتمع وما يمنحه لها ذلك من حقوق المشاركة السياسية والتداول على السلطة والعدل الاجتماعي، فكانت ردود فعلها عنيفة ومتطرفة أحيانا وسلمية أحيانا أخرى. إنها استجابة طبيعية لخطاب يقوم على إقصاء الآخر ورفضه على أرضية ما كان يردده "بورقيبة "من "أن هذا الشعب الذي التف حولي مدة أربعين سنة (الخطاب سنة 1971) وانتصر وكون دولة مازال لم يكتمل إن لم أقل كله فجانبا عظيما منه "ومن" أن هذا الحزب (الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم) يجمع كل الذين يريدون أن يخدموا وطنهم وهو مستعد للمناقشة وتبادل الرأي وقابل للمعارضة ما دامت في دائرة مصلحة الوطن ولهذا فإن كل من ينعزل عن هذا الحزب يكون قد انعزل عن الوطن ([70])".
الهوامش والمراجع:
([1]) ابن منظور، لسان العرب، دار إحياء التراث بيروت 1992 ج 1 ص 135 – 136.
([2]) لكربني، إدريس، "إدارة الأزمات الدولية في عالم متحول" المستقبل العربي، عدد 287 /1/2003، ص 30.
(Encyclopedia universalis, Paris, 1985 pp. 706 - 707. ([3]
([4]) لكريني، إدارة... نفس المرجع، ص 30.
([5]) نقلا عن المرجع السابق ص 31 الشافعي (محمد) إدارة الأزمات مركز المحروسة للبحوث والنشر القاهرة 1995، ص 55.
([6]) لكريني، إدارة الأزمات... مرجع سابق، ص 32.
([7]) نفس المرجع، ص 32 – 33.
([8]) الهرماسي، عبد اللطيف، الدولة والتنمية في المغرب العربي تونس أنموذجا، دار سراس للنشر 1993 ص 89.
([9]Kraiem, Mustafa, "Etat, syndicats et mouvement social lors des évènements du 26 (janvier 1978", in, Les Mouvements sociaux en Tunisie et dans l'immigration, cahiers du C. E. R. E. S série histoire n° 6 Tunis 1996, pp. 213 - 214.
([10]) انظر دراستنا "الحركة النقابية في تونس : أزمة 1978 وموقف السلطة منها"، في، بورقيبة والبورقيبيون وبناء الدولة الوطنية، مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، سبتمبر 2001، ص 152.
([11]) انظر كرونولوجيا الأزمة ضمن مقالنا السالف الذكر، ص 147 – 148.
([12]) نفس المرجع، ص 152 – 153.

([14]) الهرماسي، الدولة والتنمية... مرجع سابق، ص 61.
([15]) Signoles (P), "Industrialisation urbanisation et mutation de l'espace", in, Annuaire de l'Afrique du Nord, CNRS, 1983, pp. 294 – 295.
([16]) في تقرير نشرته جريدة الرأي عدد 27 وصلت نسبة الضحايا من القتلى 84 شخصا يتوزعون كما يلي : تونس 29، صفاقس 11، الكاف 10، المتلوي 6، قابس 6، القصرين 6، مدنين 5، المنستير 4، جندوبة 3، توزر 2، قبلي 2، قفصة 2، القيروان 2، قصيبة المديوني 1، طبرقة 1 وسيدي بوزيد 1.
(Zamiti, khelil, "L'état, l'argent et l'insurrection", le Maghreb n° 88, 4 février 1984. ([17]
([18]) التركي، عروسية، "الحركة اليوسفية في الجنوب التونسي 1955 – 195"، مجلة روافد عدد 3 بتونس 1997 ص 42.
([19]) واردة منجي، "جذور اليوسفية"، في، المجلة التاريخية المغاربية عدد71 – 72 مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ماي 1993، ص 502.
([20]) انظر مقالنا وثيقة عن الحركة الاستقلالية في المغرب العربي "اليوسفية"، في، المجلة التاريخية المغاربية عدد 97 – 98 ماي 2000 ص 312.
([21]) طوبال، إبراهيم، البديل الثوري بتونس، دار الكلمة بيروت 1979 ص 48.
([22]) أصدرت الحكومة التونسية بلاغا رسميا نشر بجريدة الصباح بتاريخ 24 ديسمبر 1962 كشفت فيه عن "مؤامرة ضد رئيس الجمهورية تورط فيها مدنيون وعسكريون ". وجاء في أحد خطابات الرئيس بورقيبة "... اجتمع في صعيد واحد الرجعيون الذين ران على قلوبهم شعور بالخيبة والتأخر عن ركب الزمن، والشيوعيون الذين أعجزهم بث التفرقة وبسطاء المقاومين الذين خاب أملهم من الإمكانيات سوى محاولة التخريب من الخارج وقد فتح رئيس الدولة الجزائرية أبواب بلاده ليتآمروا منها على وطنهم وبعض رجال الجيش الذين خانوا الأمانة ولكنهم قلة... "بورقيبة (الحبيب) حياته تونس 1964 ص 218 نقلا بوقرة (عبد الجليل) مقاربة تاريخية حول "المحاولة الانقلابية " لسنة 1962 وتداعياتها المجلة التاريخية المغاربيةعدد ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍102 -103 مؤسسة التميمي للبحث العلمي و المعلومات ص 69
([23]) الحداد، سالم، خفايا المحاولة الانقلابية لسنة 1962 يكشف عنها مدبروها في مؤسسة التميمي للبحث العلمي جريدة الشعب عدد 682 - 9 نوفمبر 2002، انظر شهادة تميم الحمادي
([24]) نقلا عن بوقرة، نفس المرجع، ص 70، إحدى تصريحات الرئيس بورقيبة.
([25]) الحداد، نفس المرجع، نفس الشهادة
([26]) بوقرة، نفس المرجع، ص 71، الحداد، خفايا المحاولة، نفس المرجع، ص23، انظر كذلك مقالنا "بورقيبة وإشكالية الهوية في تونس"، في، السلطة وآليات الحكم في عصر بورقيبة بتونس والبلاد العربية، مؤسسة التميمي للبحث العلمي فيفري 2003.
([27]) بوقرة، نفس المرجع، ص 71.
([28]) الحداد، خفايا مرجع سابق ص23.
([29]) نفس المرجع والصفحة.
([30]) تمت صياغة هذا الجدول بالاعتماد على المعطيات الواردة في دراسة بوقرة، مرجع سابق ص 67 – 68.
([31]) نفس المرجع ص 68.
([32]) انظر شهادة "تميم الحمادي"، في، المجلة التاريخية المغاربية عدد 114، ص 163-191.
([33]) المرجع نفسه.
([34]) انظر شهادة علي بن سالم، في، المجلة التاريخية المغاربية عدد 114، ص 163-191.
([35]) نقلا عن بوقرة... نفس مرجع ص 72، جريدة الصباح بتاريخ 24 جانفي 1963.
Belaid Sadok, «L'opération de Gafsa de janvier 1980 et ses enseignements" in, ([36]) revue Tunisienne de droit 1979 II p. 13.
([37]) العلوي، نور الدين، عملية قفصة 1980 شهادة الكفاءة في البحث كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس 1989 – 1990 ص36.
([38]) المرجع نفسه، ص 37 – 38.
([39]) المرجع نفسه.
([40])Belaid, l'opération …op. cit, p. 14.
Lagmani, Slim, Aspects internationaux de l'affaire de Gafsa DEA Faculté de ([41]) Droit et des Sciences Politiques et Economiques de Tunis, 1981, p. 13.
Baduel, Pierre-Robert, Gafsa comme enjeu Annuaire de l'Afrique du Nord ([42]) CNRS1980 نقلا عن العلوي... مرجع سابق ص 81
([43]) ظهرت هذه الجبهة كحركة سياسية ذات توجه قومي عربي سنة 1972 وأعلن عن ظهورها بجريدة المساء البيروتية. تعمل الجبهة على تحقيق الوحدة العربية بحد السيف أي عن طريق القوة. حافظت الجبهة على علاقات تعاون مع حركات التحرير والحركات القومية والناصرية والحركات الفلسطينية وحركة تحرير ظفار العمانية وجبهة البوليزاريو. انظر في هذا الشأن سارة (فايز) الأحزاب والحركات السياسية في تونس 1932 – 1984، ب م ط 1984 ص 288 – 291.
(Lagmani, Aspects …op. cit, p. 23. ([44]
([45]) تتكون العينة المدروسة من 32 شخصا تراوحت الأحكام التي تعرضوا لها ما بين الإعدام والأشغال الشاقة والسجن بنسب متفاوتة، أنظر في هذا الشأن العلوي، عملية قفصة... نفس المرجع، ص 51 – 52.
([46]) يشار إلى الدور المركزي الذي تولاه "عمارة ضو النايل " في قيادة العملية دون أن تكون له مشاركة ميدانية، أنظر سارة... نفس المرجع، ص 288-291
([47]) العلوي، عملية قفصة... نفس المرجع، ص 57 – 60.
- يشير نفس المرجع ص 60 – 62 إلى أن "عز الدين الشريف" يحمل في الأوساط الشعبية بقفصة صورة المناضل الصلب والبطل الشعبي الذي رسم لنفسه خطا نضاليا لم يتراجع عنه طيلة حياته حتى انتهى به إلى الشهادة حسب تعبير أحد أصدقائه، ولم يتوان في دعوة رفاقه القدامى وخاصة رفيقه "العربي العكرمي" لإعادة تنظيم الصفوف ومواصلة النضال ضد بورقيبة "عدو العروبة والعرب". وفي المستوى الشخصي كان الشريف طيلة حياته يتحلى بأخلاقه العالية، خجولا، دمثا وغير معاد لأحد فهل يمكن أن يكون الشريف مجرد مجرم عادي ؟
([48]) المرجع نفسه، ص 63 – 64.
([49]) تصريح رسمي لوزير خارجية ليبيا بتاريخ 1/2/1980 نقلا عن Agmani, Aspects op. cit, p. 22'L
([50]) إحدى تصريحات العقيد القذافي نقلا عن Belaid, l'opération... op. cit, pp. 22-23
([51]) البوبكري، مصطفى، نشرات أخبار إذاعتي تونس وليبيا إثر أحداث قفصة، رسالة ختم الدروس الجامعية معهد الصحافة وعلوم الأخبار تونس 1980 ص 55.
- أنشأت السلطات الليبية في تلك الفترة محطة إذاعية تحمل اسم "هنا قفصة صوت الثورة الشعبية لتحرير تونس" وكانت هذه المحطة تبث بيانات فحواها أن ما يجري في قفصة هو "ثورة شعبية" هدفها تحرير تونس من نظام بورقيبة "عميل الاستعمار وأحد أذنابه".
([52]). Lagmani, Aspects op.cit p.20 -21
([53]) انظر جريدة l'action بتاريخ 12/2/1980.
- في تصريح ثان نشرتهle nouvel observateur بتاريخ 11/2/1980 قال بورقيبة "أنا أعتمد على حلفاء حقيقيين وجديين مثل فرنسا، بريطانيا العظمى، الولايات المتحدة والمغرب الذي قدم مساعدة أيضا فالغرب الديمقراطي معنا وهذا هو المهم. إني ألعب باستمرار ورقة الغرب...
(Laghmani, Aspects .. op.cit, p.106. ([54]
([55]) المرجع نفسه، ص 107 – 108.
([56]) يوجد "قاموس" خاص من الأوصاف والنعوت التي كان يصف بها "بورقيبة" معارضيه وكل من يختلف معه في الآراء والأفكار فهم "هدامين"، "يزرعون بذور الحقد والكراهية"، "يشتتون شمل الأمة"، "يقوضون أسس الدولة"، "متآمرون لهم نعرة بني هلال في التخريب"، "رائد المعارضين الجشع والهيمنة"، "ذوي غايات خبيثة وخسيسة"، "المعارضون عملاء للخارج تحركهم أيادي خارجية"، "جراثيم"، "أدمغة وقلوب مريضة بكراهية هذا النظام"، "منافقون"، "خبثاء"، "سمتهم الغدر وسوء النية"، "حيوانات ضارية"، "أخلاقهم متدهورة"، "مفسدين"، "ناقصي تعليم"و"متخاذلون أيام الكفاح"... إلخ وهي عبارات مستخرجة من خطب وتصريحات "بورقيبة "أنظر في هذا الشأن علية الصغير(عميرة) "صورة المعارض في الخطاب البورقيبي"، في، السلطة وآليات الحكم في عصر بورقيبة في تونس والبلاد العربية مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات فيفري 2003 ص 159.
([57]) انظر مقالنا الحركة النقابية في تونس... نفس المرجع، ص 146.
([58]) جريدة العمل لسان الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم بتاريخ 11 و22 مارس 1980.
([59]) انظر افتتاحيات جريدة العمل بداية من‍‍1- 1‍/11984 إلى 14-1 /1984.
Helin, Elise, "La magistrature de marginalisation a la restructuration", in, ([60]) Maghreb Machrek juillet – septembre 1997, p. 42.
([61]) المنصر، عدنان، "رجل السياسة ورجل القضاء، النفوذ الشخصي والقضاء الاستثنائي في تونس ما بعد الاستعمار"، في، المجلة التاريخية المغاربية عدد 91-92 ماي 1998 ص 728 – 729.
([62]) العلوي، عملية قفصة... نفس المرجع، ص 74.
([63]) المرجع نفسه.
([64]) المرجع نفسه.
([65]) انظر بيان هذه المنظمة بمناسبة عملية قفصة ضمن Laghmani, op. cit p. 140 ملحق عدد 7.
([66]) العلوي، نفس المرجع، ص 76.
([67]) ورد هذا الموقف في بيان حائطي للطلبة القوميين الوحدويين بعنوان الانتفاضات في الوطن العربي وأشار إليه العلوي في مذكرته السالفة الذكر.
([68]) جاء في جريدة المستقبل عدد 9 بتاريخ 26 جانفي 1981 ما يلي :" ليس من المبالغة في شيء القول أن أحداث قفصة شكلت انقطاعا في تطور الحياة السياسية خلال العقد الماضي فإذا كان هناك جردة حساب أو تقييم ينبغي وضعه لإحصاء التغييرات التي تعاقبت طوال السنة المنقضية فإن قفصة تكون نقطة الدائرة في كل التطورات اللاحقة لأننا نجدها خلف كل القرارات إن لم تكن مباشرة في التحليل النهائي على الأقل"، "لقد كانت أحداث قفصة بمثابة المنبه الذي ارتفع من داخله صوت المناطق المحرومة التي حكمت عليها المركزية الاقتصادية بالتأخر.
([69]) انظر دراستنا الدولة القطرية... نفس المرجع، ص 74 – 75.
([70]) انظر خطابي بورقيبة في تونس بتاريخ 29 جويلية 1963 ج 15 وفي المنستير في 11 سبتمبر 1971 ج 27.