الجنوسـة والنـوع (الجنـدر) فـي الثقافـة العربيـة
سالم لبيض (*)
قسم علم الاجتماع، المعهد العالي للعلوم الإنسانية ـ تونس.
مقدمـة
إن انقسام المجتمع إلى ذكور وإناث أمر طبيعي لا يختلف حوله اثنان، ولكن المختلف حوله هو الوظائف وتوزيع الأدوار المترتبة على ذلك الانقسام. فهذه الوظائف لا شك متأتية من تصورات ثقافية ضاربة في القدم، اعتادت على الأولوية الذكورية في الثقافة العربية. إذ إن القيادة في هذا المجتمع هي للرجل وأن دور المرأة الأساسي هو إنجاب الأطفال لتجديد الخزينة البيولوجية للعائلة على حد تعبير مالك شبل[(1)]. وهذا الرأي بدوره هو ما يعلنه المجتمع شكلاً، أما في العلاقات اللاشكلية فإن المجتمع الذكوري لا يحمل عن المرأة سوى أنها أداة للمتعة الجنسية. إن الثقافة النسائية في المجتمع العربي تحاول أن تحد من ذلك الإرث الثقافي عبر التبشير بالمفهوم الجديد وإعطائه الأولوية ضمن مختلف أطر التنشئة والتواصل.
أولاً: التعريفات والمفاهيم
1 ـ في معنى الجنوسة اصطلاحاً
الجنس في لسان العرب «هو الضرب من كل شيء وهو من الناس ومن الطير ومن حدود النحو والعروض والأشياء جملة... والجنس أعم من النوع ومنه المجانسة والتجنيس، ويقال: هذا يجانس هذا أي يشاكله، وفلان يجانس البهائم ولا يجانس الناس إذا لم يكن له تمييز ولا عقل... والحيوان أجناس: فالناس جنس والإبل جنس والبقر جنس والشاء جنس»[(2)]. فالجنس بهذا المعنى لا يحيل إلا إلى صنف آخر مختلف كما لا يحيل إلى التنوع داخل الجنس الواحد، هذا علاوة على الغياب الكامل لأبعاد الجنس كغريزة بيولوجية التي يتعرض لها لسان العرب في شرح كلمة «نكح: نكح فلان امرأة ينكحها نكاحاً إذا تزوجها. ونكحها ينكحها باضعها أيضاً... ومعنى النكاح ههنا الوطء... أصل النكاح في كلام العرب الوطء، وقيل للتزوج نكاح لأنه سبب للوطء المباح»[(3)].
إن هذا التفريق بين الجنس والنكاح في اللغة العربية يدلنا على تصنيف آخر للجنوسة كما نعتمدها في هذه الدراسة. إنه الأنوثة والذكورة.
يشير ترتيب القاموس المحيط إلى أن الانوثة من «آن ث»أي «آنثت المرأة إيناثا : ولدت أنثى فهي مؤنث ومعتادتها مئناث والأنيث: الجديد غير الذكر. والمؤنث المخنث كالمئناث. والأنثيان الخصيتان... وأرض أنيثة ومئناث: سهلة منبات. وأنثت له تأنيثا وتأنثت، لانت. والإناث جمع الانثى كالإناثي... وامرأة أنثى كاملة»[(4)].
يحيل آخر هذا التعريف إلى الأنثى بوصفها مرأة، والمرأة كلمة مشتقة من مرأ ـ مرءاً الرجل: طعم... ومراءة الطعام صار مريئاً وساغ من غير غصص... ومرأ : صار كالمرأة هيئة وحديثاً. والمرأة: المرّة من مرأ اسم مريء الطعام، والجمع نساء ونسوة... مؤنث الرجل[(5)]. وفي لسان العرب «التذكير خلاف التأنيث، والذكر خلاف الأنثى والجمع ذكور وذكورة وذكار وذكارة وذكران وذكرة... وامرأة ذكرة ومذكّرة ومتذكّرة: متشبهة بالذكور. قال بعضهم: إياكم وكل ذكرة مذكّرة «شوهاء فوهاء، تبطل الحق بالبكاء، لا تأكل من قلة ولا تعتذر من علة، إن أقبلت أعصفت وإن أدبرت أغبرت». وناقة مذكّرة: متشبهة بالجمل في الخَلق والخُلق... ويوم مذكّر: إذا وصف بالشدة والصعوبة وكثرة القتل... وأذكرت المرأة وغيرها فهي مذكر: ولدت ذكراً.. وامرأة مذكر: ولدت ذكراً، فإذا كان ذلك لها عادة فهي مذكار وكذلك الرجل أيضاً مذكار. ويقال كم الذكرة من ولدك؟ أي الذكور. وفي الحديث إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة أذكرا أي ولدا ذكراً.... ورجل ذكر: إذا كان قوياً شجاعاً أنفاً أبياً. وقول ذكر: صلب متين. وشعر ذكر فحل... وفلاة مذكار ذات أهوال؛ لا يسلكها إلا الذكر من الرجال. وفلاة مذكر: تنبت ذكور البقل، وذكوره: ما خشن منه وغلظ... والذكر: معروف، والجمع ذكور ومذاكير، على غير قياس، كأنهم فرقوا بين الذكر الذي هو الفحل وبين الذكر الذي هو العضو... والمذاكير منسوبة إلى الذكر واحدها ذكر... والذكر والذكير من الحديد: أيبسه وأشده وأجوده وهو خلاف الأنيث... ويقال: ذهبت ذكرة السيف وذكرة الرجل أي حدتهما. ورجل ذكير: أنف أبي وسيف مذكّر: شفرته حديد ذكر»[(6)].
كما تحيل الذكورة إلى مصطلح «الرجل» بالنسبة إلى النوع البشري، والمصطلح عند ابن منظور يعني «معروف الذكر من نوع الإنسان خلاف المرأة، وقيل: إنما يكون رجلاً فوق الغلام وذلك إذا احتلم وشب، وقيل: هو رجل ساعة تلده أمه إلى ما بعد ذلك، وتصغيره رجيل ورويجل على غير قياس»[(7)]. ولعل ما يلفت الانتباه في كل تلك التعريفات ذات الصبغة الاصطلاحية هو تأكيدها على تساوي معنى الأنوثة مع الليونة والسهولة إلى درجة الربط في الاشتقاق بين أصل المصطلح والطعام وسهولة استهلاكه بالنسبة إلى الأنثى عموماً والمرأة على وجه الخصوص، وتساوي معنى الذكورة مع القوة والشدة والبأس وبالتالي مع الرجولة. وهي معان لا شك أن لها أثراً كبيراً على الحقل الدلالي لتلك المصطلحات نظراً إلى أنها وليدة إنتاج ثقافي أفرزه المجتمع الذي نشأت فيه.
2 ـ في معنى الجنوسة دلالة
أ ـ في الحقل الثقافي العربي
لقد انعكس الإرث الديني على مواقف النخب الثقافية، فدار الجدل حول موقف الإسلام من المرأة وموقعها في المجتمع العربي والإسلامي. ففي حين مال غلاة الفقهاء إلى إبراز «دونية المرأة» اعتماداً على بعض النصوص المتعلقة بشهادة المرأة وقوامة الرجل عليها ونصيبها في الإرث وارتفاع الرجال عليها بدرجة، يضاف إلى ذلك ما أثير من حديث حول «دونية سياسية وقيادية» و«دونية دينية» إذا أخذنا في عين الاعتبار عدم قبول إمامة المرأة. كما شكلت مسألة الحجاب والموقف منه موضوع سجال في الفكر العربي المعاصر[(8)]، خاصة بعد أن باتت وسائل الاتصال الحديثة لا سيما القنوات الفضائية، تلعب دوراً في الدعاية والتعبئة الدينية. في مقابل تلك الدونية اعتبر كل من الطاهر الحداد وعبد الوهاب بوحديبة أن الإسلام لم يؤسس «لدونية نسوية» بل إن مواقفه اتسمت بإنصاف المرأة وإعطائها مكانة تضاهي مكانة الرجل إذا أخذنا في الحسبان تطور تلك النصوص مقارنة بالواقع الذي نشأت فيه ومكانة المرأة في ذلك الواقع.
كتب الحداد في كتابه سنة 1920 متسائلاً في الفصل المعنون بـ «المرأة في الإسلام» هل جاء الإسلام بالمساواة بين عباد الله إلا بما يقدمون من عمل، أو أنه جاء ليجعل للمرأة بأنوثتها حقاً في الحياة من الرجل بذكورته[(9)]؟
لقد بدأ الحداد هذا الفصل بالتأكيد على مقاومة الإسلام تشاؤم العرب من البنات وكراهيتهن مستشهداً بحديث الرسول «أبو البنات» وبالآية القرآنية { وإذا الموؤدة سئلت. بأي ذنب قتلت }[(10)] وما تضمنته تلك الآية لتلك الممارسة التي تعد ممارسة مرجعية لكثير من المواقف والسلوكيات الأخرى تجاه الأنثى التي كانت الثقافة العربية إبّان تلك المرحلة التاريخية تعتبرها مجلبة للعار لا محالة. وقد كانت تلك الثقافة تستبطن ذلك الموقف وتتمثله على مر الحقب والأجيال. لقد تصدّى الحداد لهذا الموقف معتبراً إياه منافياً للإسلام الذي كان يواجه الرجل والمرأة سواء فيفرض عليهما واجباته ويجعل مسؤوليتهما في ذلك سواء[(11)]، وقد تجسدت تلك المساواة في عدة مستويات من أبرزها:
(1) الشهادة والقضاء : يعتبر الحداد أن الإسلام ارتفع بالمرأة حين مكّنها من الوقوف أمام القضاء تشهد على الناس رجالاً ونساء مهما كان تعقيد المسألة التي ستشهد فيها. ويعلل الحداد شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد بغاية التذكير، وليس بسبب سقوط أخلاقي كما يذهب إلى ذلك خصوم نهضة المرأة، أما الحاجة إلى التذكير فمردّها إلى موروث تاريخي طال أمده حقّر المرأة وكرّس دونيتها. كما أقر الحداد حق المرأة في القضاء بين الناس مثلها في ذلك مثل الرجل مستنداً إلى الموقف الحنفي وما أفتى به الإمام أبو حنيفة النعمان من جواز تولي المرأة خطة القضاء دون أن يناقض ذلك جوهر الدين وأصوله. ويدعم الحداد هذا الموقف بقوله «ليس في نصوص القرآن ما يمنع المرأة من تولي أي عمل في الدولة والمجتمع مهما كان هذا العمل عظيماً»[(12)].
(2) الميراث : يبدأ الحداد بمعالجة هذه المسألة في الجاهلية. ففي هذه المرحلة من تاريخ المجتمع العربي «يحق لعصابة الزوج الميت (زوج المرأة) أن يزوجوها بأحدهم وبمن شاءوا، أو يعضلوها حتى لا تذهب بشيء من مال زوجها فتفوّته عليهم. وإن وارث بيت أبيها هم أبناؤه الذكور وليس لها من الأمر شيء إلا أن يعطفوا عليها بالعيش في كنفهم إن تتخلى عن الزواج»[(13)].
إن الإسلام حسب رأي الحداد سيقطع مع ذلك الموروث التاريخي معتبراً أنه { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون }[(14)]، حسب ما تشير إليه الآية القرآنية. لكن ذلك كان شديد الوطأة على ما سماه أخلاق الجاهلية وهو ما برّر تعديله بواسطة الآية { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين }[(15)]. ويسوق لنا الحداد الأصناف الأخرى للميراث مثل ميراث الزوجين من بعضهما البعض فله منها النصف أو الربع ولها منه الربع أو الثمن. وتساوت المرأة بالرجل في الإرث عند وفاة ولدهما التارك لولد { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد }[(16)] . ويرى الحداد أن الإسلام مهما كان حكيماً في التدرج بحقوق المرأة حتى لا يبلغ بها الكمال بسرعة مخطرة إلا أن ذلك كان له كبير الأثر على المسلمين، وعلى هذه الأرضية تنشأ عادة التحبيس على الذكور فقط ولا يكون للأنثى إلا حق مؤونتها من ذلك متى كانت في بيت أبيها أو متى رجعت إليه بعد الزواج، معتبراً ذلك تملصاً من فريضة الميراث التي فرضها الإسلام للمرأة[(17)].
(3) القوامة : قوامة الرجل للمرأة متأتية من كفالة المرأة سواء في بيت أبيها أو في بيت زوجها، من قبل الرجل. وتبرير ذلك عند الحداد متأت من ضعف المرأة وتأخرها في الحياة مما استوجب كفالتها مع أحكام أخرى، وهو ما علل نقص ميراثها حسب بعض الفقهاء. إلا أن الحداد لا يرى في ضرورة ثبوت تلك المواقف قياساً على أن الإسلام نفسه قد تجاوز كثيراً من حالات نقص المرأة بالتالي تبدل أحكامه معتبراً أن «الإسلام قرر للمرأة حريتها المدنية في وجوه الاكتساب وتنمية المال بالتجارة وغيرها من التعريفات»[(18)].
لقد اعتبر الحداد أن الإسلام أقام المساواة وناشد العدالة ولكن أحكامه تميزت بالتدرج، فالمساواة بين الرجل والمرأة كانت مسألة منشودة رغم تحققها في إنسانية الاثنين وما يترتب عليها رغم التمييز بين الرجل والمرأة في الكثير من مواقع القرآن. ولكن الإسلام لا يمانع ولا يحول دون تلك المساواة كاملة إذا تحققت شروطها. ويضرب الحداد أمثلة على ذلك التدرج من أبرزها مثال العبودية: «فالإسلام دين الحرية الذي لا يعترف بالعبودية لغير الله، أبقى على رق الإنسان للإنسان يبيعه ويشتريه كالبضاعة.... وأكثر من ذلك فإن إسلام المسلم لا يحجب عنه الرق لسيده مهما تناسل هو وذريته في الإسلام... ولم يستطع الإسلام في حينه أن يقرر حكماً نهائياً غير إعلانه الرغبة في العتق»[(19)].
وفي الاتجاه نفسه الذي رسم الحداد بعض ملامحه حول موقع المرأة في الإسلام وموقفه منها كتب عبد الوهاب بوحديبة أطروحته التي ناقشها في مطلع السبعينيات من القرن العشرين بجامعة السوربون والتي نشرت لاحقاً باللغة العربية بعنوان الجنسانية في الإسلام . وفي الفصل الحامل لعنوان «المؤنث الأبدي والإسلامي» ينطلق بوحديبة من مسلمة تتمثل في أن «أولوية المذكر مسألة أساسية في الإسلام» لكن في مقابل ذلك لا يوجد اختلاف عميق بين المرأة والرجل في الإسلام، فهو مجرد اختلاف طفيف لكن هذا الاختلاف تقابله أيضا نفحة أنثوية تعبر كل لحظة النصوص الأكثر قداسة[(20)]. لقد احتل المؤنث صبغة أسطورية في الثقافة العربية الإسلامية فلم يرتق ذلك المؤنث إلى درجة النبوة، إلا أن بوحديبة ينبهنا إلى أن جميع الرجال الأنبياء ترعرعوا في عالم نسوي كان له حضور متميز في النصوص المقدسة بداية بحواء أم الجميع مروراً بكل من بلقيس ملكة سبأ وآسرة سليمان، ومريم عذراء الحبل بلا دنس التي حباها القرآن بسورتين من سوره، وزوجة لوط الرذيلة وبناتها الفاحشات، وزوجة نوح الملعونة الغريبة، وزوجة زكريا الشريفة التي فرضت الاحترام، وآسيا الفاضلة زوجة فرعون، انتهاء بزليخا التي أغوت يوسف الجميل[(21)].
كما تبرز القداسة الأنثوية في العلاقة الحميمة التي ميزت الرسول بنسائه اللواتي وصف مؤلف الإسلام والجنسانية بعضهن بقوله «بعض هؤلاء برزن وفرضن أنفسهن، خديجة سيدة المسلمين، شريفة وعاملة ونشيطة، حاضنة ودود وأم حبيبة. ولكن عائشة أيضاً الشقيرة المفضلة المحبوبة البيضاء السريرة، وزينب الساحرة ذات الحلي التي لا تضاهى، حفصة بنت عمر ورفيقته الأمينة، أم سلمة أرملة ابن عمها الشهيد الحزينة، صفية اليهودية الجميلة، والفاتنة ميمونة أخت زوجة العم عباس الجبار، خولة التي بحثت عن ملاذ ووجدته في حريم النبي، ريحانة التي ترددت كثيراً في الدخول إلى الإسلام والتي فضلت في النهاية أن تبقى خليلة غير مسلمة على أن تكون زوجة أماً للمؤمنين...»[(22)].
إلا أن الإسلام لا يبقى، حسب بوحديبة، حبيس تلك النفحة الأنثوية ذات الطابع المقدس بل يحدد حدود التمايز واضحة بين الجنسين وهذه الحدود لا تنشد التمييز وإنما مجرد التمايز والهدف من كل ذلك هو تحقيق الانسجام بين الجنسين من خلال اضطلاع الرجل بدوره كذلك وتحمل المرأة لمسؤوليتها كأنثى[(23)].
ب ـ النوع أو الجندر كمفهوم جديد
ـ الإرهاصات الأولى: لقد نشأ مفهوم النوع في أوروبا المعاصرة، إلا أن ظهوره جاء متأخراً، إذ استخدم من طرف الحركة النسوية في المملكة المتحدة في السبعينيات من القرن العشرين قبل أن يتبلور في كتاب عام 1972[(24)]. إن ظهور المفهوم متأخراً قد ساعد على مراكمة إرث من السلوكيات والأفكار التي ترتكز على التمييز ضد المرأة وعلى تفوق الرجل في المجتمعات الغربية[(25)]. أما السؤال المركزي الذي ميز فكر الأنوار الأوروبية فهو هل أن النساء أدنى (أقل درجة) من الرجال نتيجة لعوامل طبيعية أو بسبب ما تتلقينه من تربية؟ وهو سؤال يحتوي ضمناً على إقرار بدونية المرأة مقارنة بالرجل. هذه الدونية التي جسدتها الثورة الفرنسية لسنة 1789 عندما لم تمنح حقوقاً سياسية للمرأة وآثرت التعامل مع إنسان مجرد دون تخصيص للمرأة. ولعل تلك الدونية ستبرز بأكثر وضوح في «القانون المدني» الفرنسي الذي صدر في عهد نابليون بونابرت سنة 1804 والذي وضع النساء تحت الوصاية المطلقة للرجال، فالمرأة طبقاً لهذا القانون تنتقل من وصاية والدها إلى وصاية زوجها، فهي محتاجة إلى ترخيص مسبق من أحدهما حتى تمارس مهنة معينة وتدير ثروة تملكها[(26)]. إن تلك المواقف تجاه المرأة استندت إلى إرث كبير وعميق عرفته المجتمعات الغربية أعطى شرعية لتلك الدونية ومن ثمة اضطهادها. ويشير روجيه غارودي في كتابه في سبيل ارتقاء المرأة إلى أن برلمان باريس أصدر سنة 1593 قراراً يمنع النساء من تولي أية وظيفة في الدولة. لقد كانت تلك الدونية في التعامل مع النساء تجد تأييدها في النصوص الدينية المسيحية كما في اليهودية ولدى رجال الدين الذين هيمنوا هيمنة مطلقة ولفترة ليست بالقصيرة على مختلف أوجه الحياة الاجتماعية[(27)]. ولكن ذلك الموقف لم يبق حكراً على الفكر الديني وممارسات رجال الدين وإنما ميز فكرالأنوار العقلاني. جاء على لسان أوغست كونت، الفيلسوف الوضعي ومؤسس علم الاجتماع في أوروبا، ما يلي: «المرأة هي ملك نكتسبه بواسطة عقد نبرمه فهي عبارة عن منقول لأن الملكية تقتضي التسجيل، إن المرأة في النهاية ليست سواء تابع للرجل». وكتب بلزاك «إن المرأة المتزوجة هي عبارة عن عبد ولكن وجب معرفة وضعه في حالة الإعجاب»[(28)]. إن ذلك الموروث الطويل من الدونية النسوية الذي لم يقتصر على عصور الظلام الأوروبي وإنما شمل فترات الأنوار والكثير من روادها قد جعل الحقوق النسوية والمطالبة بها تتأخر بل تنعدم أحياناً في كثير من المجتمعات الأوروبية، وذلك بتأثير من الثقافة الذكورية المحافظة المتأثرة بذلك الموروث الطويل الناتج عن سيطرة الذهنية الدينية المسيحية واليهودية، وعن هيمنة فكرة التمييز التي شكلت الخلفية القوية للحملات الاستعمارية ولكنها كانت شديدة الخصوبة داخل المجتمعات الأوروبية نفسها تجاه المرأة. ولم تبدأ تلك الفكرة في التراجع إلا مع مطلع الخمسين سنة الثانية من القرن العشرين أي بعد نهاية الحرب الثانية التي حصدت أرواح ملايين البشر دون تمييز بين الذكر والأنثى.
ففي سنة 1946 تشكلت في داخل لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لجنة معاينة أوضاع النساء، هدفها معالجة المشاكل الخصوصية للمرأة من أجل وضع مبادئ المساواة مع الرجل. وقد حددت تلك اللجنة أربعة مجالات تشتغل فيها عقلية التمييز في العالم الغربي (الحر)، هي على التوالي:
ـ الحقوق السياسية وإمكانية ممارستها من طرف المرأة. ـ التساوي أمام القوانين كأفراد وكأعضاء في العائلة. ـ حق النساء والفتيات في التعليم وفي التكوين عامة والتكوين التقني. ـ حق النساء في العمل.
وقد تمت الاستجابة لتلك المطالب فتضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في فصله الثاني الذي أعلن سنة 1948 «لأي شخص الاستفادة من جميع الحقوق والحريات... بدون تمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة...» وتلا ذلك إعلان المساواة في حق العمل ورفض أي تمييز على ذلك الأساس من قبل المكتب الدولي للعمل وذلك في سنة 1950. ومع مطلع السبعينيات، أي في سنة 1973، صوت برلمان الولايات المتحدة الأمريكية لصالح إجبار «الوكالة الدولية للتنمية الأمريكية» على إدماج النساء في كافة مشاريعها التنموية. وكان ذلك الإجراء بمثابة النتيجة المباشرة لنضالات الحركة النسوية الأمريكية في الستينيات من القرن العشرين. وفي سنة 1974، وهي السنة التالية لذلك الإجراء، ستنتهي «الندوة العالمية حول السكان» إلى أهمية الربط بين التنظيم العائلي ووضع المرأة، كما ستتوصل «الندوة العالمية حول الغذاء» إلى أن تحسن الوضع الغذائي العالمي لن يتحسن دون دمج المرأة في سياسات التنمية[(29)].
وتعتبر سنة 1975 سنة المرأة بامتياز، فهي السنة المعلنة «السنة الدولية للمرأة». إن حصيلة الدراسات المعتمدة في تقييم وضع المرأة عالمياً (18 دولة) قد انتهت إلى أن ذلك الوضع لا يزال غير سوي. كما انعقدت بالتوازي قمة أخرى ضمت منظمات غير حكومية وفاعلي المجتمع المدني. والغاية من كل ذلك هو إجبار الحكومات على جعل حقوق النساء وتغيير وضعهن ضمن أولوياتها.
وفي سنة 1979 تحقق للمرأة إبرام اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد النساء التي تحولت سنة 1981 إلى اتفاقية دولية مع تشكيل هيئة لمراقبة تطبيق الدول لتلك الاتفاقية. وبعد عشر سنوات على ذلك التاريخ أي في سنة 1991 انخرط في تلك الاتفاقية 102 دولة، ولم يتبق من الدول التي لم تعلن انخراطها سنة 1999 إلا 28 من بين 181 دولة[(30)].
لا شك أن تطور حقوق النساء في العام الغربي في أوروبا وأمريكا الشمالية وكذلك في مختلف بلدان العالم، كل على حدة، يختلف من بلد إلى بلد ومن مجتمع إلى آخر. وإن سلم القياس يختلف بين تلك المجتمعات والبلدان بحسب تأثير الحريات التي تحققت وبحسب التطور الذي شهده ذلك المجتمع وبحسب المشاركة ودور الحركات النسوية في كل ذلك. إلا أن القاسم المشترك هو ما قمنا باستعراضه والذي اعتبرناه بمثابة الإرهاصات التي مهدت لبروز فكرة النوع وهي فكرة جديدة موطنها المجتمعات الغربية.
ج ـ الجندر أو النوع ـ المفهوم وتطوره
إن ميزة مفهوم النوع الذي ظهر في مطلع السبعينيات من القرن العشرين كما أسلفنا هو أنه مختلف عن مفهوم الجنس الذي ينطلق أساساً من الفروقات البيولوجية. إن مفهوم النوع الاجتماعي، وعلى عكس مفهوم الجنس، يحيل إلى ما هو ثقافي وليس إلى ما هو طبيعي خام. أي أن هنالك معنى يعطيه المجتمع للذكر والأنثى. فحوى ذلك أن كل ما يفعله الرجال والنساء وكيفيات وجودهم وتفكيرهم وسلوكهم، ما عدا وظائفهم الجنسية والبيولوجية، هي من صياغة المجتمع وثقافته ومن ثمة فهي قابلة للتغيير بحسب الظرفية التاريخية لذلك المجتمع[(31)]. وتنطلق فكرة النوع الاجتماعي من مسلَّمة هي أن الأشخاص يولدون «ذكوراً» أو «إناثاً» لكن المجتمع يعلمهم كيف يكونون أولاداً ثم رجالاً أو نساء. إن تلك العملية التعليمية تتولاها مؤسسات التنشئة المختلفة من أسرة ومدرسة وفضاء عمل وفضاء تدين... إلخ، ومن ثم فإن تلك المؤسسات تكسب الأفراد أو تعودهم على القيام بما يتماشى مع جنسهم. إلا أن الثقافة الكلية للمجتمع تختلف من مجتمع إلى آخر وهذا بدوره متغير هام في تحديد أي أفكار وأي سلوكيات شائعة لفائدة هذا الجنس أو ذاك. صحيح أن المجتمعات متشابهة في طبيعتها المحافظة تجاه المرأة بفعل تأثير عوامل عدة لعل أبرزها العامل الديني. لكن بالمقابل فإن ما أكسبه المجتمع العربي الإسلامي من سلطة للحجاب على المرأة أكسب في مقابله بعض المجتمعات الأفريقية أو حتى الأوروبية المعاصرة سلطة للعري عليها، أو أن كلاً من الحجب والعري قد شكل نموذجاً يعطي الجنس ثقافته فتكون المرأة محجبة أو خليعة بحسب المجتمع وتقاليده ويكون الرجل ملتحياً أو غير ذلك.
إن الفرق بين الجنس والجندر هو كون الأول معطى طبيعياً، وهو تعبير عن وضع بيولوجي، فإما أن يكون الإنسان ذكراً وإما أن يكون أنثى، وهي خصائص لا يتميز بها الجنس البشري وإنما تشترك معه فيها كثير من الكائنات الأخرى. أما الثاني فهو من خصائص البشر وحدهم، وذلك بسبب الأدوار التي يتقمصها كل جنس على حدة. إن المعنى الاجتماعي متأت من التنشئة الاجتماعية والثقافية. ولكن اللافت للانتباه هو قدم ذلك التصنيف؛ ففي المجتمعات كلها، قديمها وحديثها، تختلف الأدوار بحسب ما يمنحه المجتمع لكل جنس وبالتالي النوع. فما هي الأسباب التي جعلت من فكرة النوع الاجتماعي تبرز متأخرة (بداية السبعينيات من القرن العشرين) كآلية في التحليل والفهم ودراسة واقع المرأة؟
هنا تبرز مقولة إدماج النوع الاجتماعي؛ والإدماج في نهاية الأمر هو نوع من المطالبة بالمساواة بين الجنسين. وبما أن مقولة النوع تأتى ضمن البراديغمات النسوية الجديدة التي تهدف إلى إعطاء حظوظ للمرأة أكثر والعمل على النهوض بها نظراً للإرث الطويل من الدونية الذي أنتجته المجتمعات البطرياركية ذات الطبيعة الذكورية. وذلك على الرغم مما يشاع في فلسفة النوع الاجتماعي من أن هذه الفلسفة لا تستهدف مجرد المساواة بين الرجال والنساء وإنما النهوض بالمجتمع برجاله ونسائه. لكن ذلك النهوض يقتضي ضرورة إعادة تشكيل المجتمع وثقافته حتى يتيح تساوي الفرص أمام الجميع نساء كانوا أم رجالاً، وبالتالي يمنحهم الامتيازات نفسها. لكن ذلك لن يكون ممكناً في مجتمع من المجتمعات إلا إذا سلمنا بأن «الجنس» لا يشكل بأي حال من الأحوال بضاعة تباع وتشترى وبالتالي امتيازاً لمن يملكه وله القدرة على استخدامه أكان رجلاً أم امرأة. فهل وصلت المجتمعات البشرية المعاصرة إلى تلك المرحلة حتى نتحدث عن النوع الاجتماعي بدل الجنس الطبيعي؟
ثانياً: واقع الجنوسة
1 ـ تمثلات الجنوسة
تعتبر تمثلات الذكورة والأنوثة من قبل أفراد المجتمع، وما ينتج عن ذلك من سلوكيات ومواقف، مؤشراً هاماً في معرفة الأسس التي تنبني عليها تلك المواقف وما ينجر عنها من علاقات. بمعنى آخر فإن استنطاق المخيال الشعبي بطريقة تلقائية غير مسبوقة الشروط سيحيلنا إلى طبيعة الموقف السائد من انقسام المجتمع إلى جنسين مختلفين وما ينبني على ذلك من أوضاع اجتماعية لكليهما وما يلعبه كل منهما من أدوار اجتماعية. وهل أن اختلاف تلك الأدوار محكوم بما هو بيولوجي أم نتاج لما هو ثقافي واجتماعي؟ جاءت الإجابة في دراسة منشورة حديثاً أعدها مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث «كوثر»، أجريت في سبعة بلدان عربية هي البحرين وتونس والجزائر ولبنان ومصر والمغرب واليمن. إن القاسم المشترك في الإجابة عن سؤال ما المقصود بالفرق بين الجنسين؟ هو أن المرأة امرأة والرجل رجل. إن تلك الإجابة بسيطة لكنها ليست ساذجة، خاصة عندما تكون مدعومة بالقول التالي «الولاد بيبقوا رجاله والبنات ستات. الستات بتحبل وتخلف وتخلي بالها من الولاد والرجاله تشتغل وتصرف على البيت». إن تلك القولة الوليدة في بيئة مصرية حسب ما تعكسه اللهجة تسندها مواقف أخرى تصف الرجل بالخشونة والرجولة والقوة والمرأة بالجمال والدماثة والعاطفة، ويترتب على ذلك حماية الجنس الذكوري للجنس الأنثوي لأن الأول «هو الأقوى والأقدر على تحمل الصعاب والثاني يمثل الجمال والنعومة واللطافة»[(32)]. ويتكرر الموقف نفسه لدى مستجوبين من بلدان عربية أخرى يرون أن الرجل يتميز بالجلافة والغلظة، أما المرأة فبالرقة والضعف والعاطفة، وهي أضعف من الرجل ولا تستطيع أن تحل محله. وأن تلك العاطفة تقف وراء انتشار القناعة بأن المسؤوليات الأسرية هي من مهام المرأة وأن العمل والكسب هما من مهام الرجل. وتلك الوظيفة هي من واجبات الرجل أما المرأة فغير مجبرة على ذلك. وفي ما يتعلق بحرية كل جنس، فإن الموقف الغالب يميل إلى أن «الأولاد والبنات لا يختلفون في الجسم والشكل فقط ولكن يختلفون في ما هو مسموح لكل منهم أن يقوم به، فالأولاد لديهم قدر أكبر من الحرية في حين أن البنات محرومات تماماً منها خصوصاً في الريف»[(33)].
إن اللافت للانتباه في ظلّ ذلك الاتجاه الميال إلى تغليب توزيع الأدوار استناداً إلى ما هو بيولوجي وليس إلى ما هو ثقافي هو انعكاس ذلك الرأي على حقوق المرأة. إذ إن الرؤية الحاصلة لدى غالبية الفتيات المستجوبات في البلدان العربية التي شملتها الدراسة السالفة الذكر تنحو تجاه اعتبار وضع المرأة غير مرض مع محاولة تبرير ذلك بالنسبة إلى البعض. ويمكن إجمال تلك المواقف في النقاط التالية:
ـ اعتراض على وضع المرأة في المجتمع ودورها وعدم رضى عنهما يكتملان بالدعوة إلى المساواة في الحقوق ورفض أي شكل من أشكال التمييز؛
ـ عدم الرضى عن وضع المرأة الحالي والاعتراف بأن المرأة مغبونة في المجتمع بشكل عام ولكن دون التعبير بالضرورة عن تبني مفاهيم صريحة تتعلق بالمساواة؛
ـ وجود آراء وسطية ترتكز على مقارنة أوضاع المرأة بين الأمس واليوم أو بين مجتمع وآخر للاستنتاج أن هناك تحسناً ما، ولكن بالمقابل توجد خطوط حمر يستحسن عدم تجاوزها؛
ـ اعتبار وضع المرأة طبيعياً أو عادياً قياساً بالعادات والتقاليد، وهي نزعة تعمل على الإقرار بالأمر الواقع؛
ـ اعتبار أن وضع المرأة هو ما يجب أن يكون عليه لاعتبارات مفاهيمية دينية أغلب الأحيان، حيث يمثل حصر دورها في الواجبات الأسرية تجاه الزوج والأولاد الحالة المثالية، وخلاف ذلك يكون خروجاً على الطريق القويم. وهي نزعة إقرارية كذلك، لكنها تستمد شرعيتها من تصور ديني من الصعب وضعه موضع المساءلة[(34)].
وبالرغم من أن الموقف من الدين تتجاذبه وجهتا نظر في المجتمع العربي الإسلامي، الأولى تدفع به إلى أن يكون محض علاقة بين الإنسان وربه لا تنجر عنها التزامات تجاه الآخرين، والثانية تنظر إليه كناظم عام لحياة الناس الخاصة والعامة وكذلك باعتباره قانوناً إلهياً يقدم جواباً تفصيلياً لكل ما هو حلال وحرام، ولكل ما هو صواب وخطأ، فإن الأمر المهم هو أن المرجعية الدينية هي التي ستحكم في النهاية الموقف من جميع أنواع الحريات، وخاصة تلك المتعلقة بالمرأة. وتكفي الإشارة هنا إلى أن الرجل المتحرر جنسياً أو المقيم لعلاقات جنسية مع فتيات على وجه غير قانوني لا يقبل أن تكون زوجته من تلك الشريحة بل يذهب أبعد من ذلك عندما يشترط أن تكون متدينة بشكل أو آخر، والأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة إلى المرأة التي قد تروج لنفسها صورة اجتماعية لا تخرج عما يرسمه المجتمع من محافظة وتدين، ولا ترى في الوقت نفسه مانعاً من إقامة علاقات سرية غير شرعية ترى فيها، كما الرجل، سلوكيات مؤقتة ستستوي بحسب المقاييس الدينية عندما يحين الأوان.
2 ـ التشريعات والقوانين
تتمثل تلك التشريعات بالأساس في قوانين الأسرة ومجلات الأحوال الشخصية. إن موضوع الجنوسة كما تعاملت معه تلك التشريعات يحيل بصفة رئيسية إلى موضوع تعدد الزوجات والتعامل معه كإشكال تاريخي عاشه المجتمع العربي الإسلامي ولا يزال سائداً في أغلب أقطاره، هذا إضافة إلى بعض القضايا ذات الصلة مثل الطلاق العرفي ووجوب طاعة الزوجة للزوج مقابل واجب الإنفاق عليها... إلخ.
لقد عرف المجتمع العربي الكثير من التشريعات الجديدة التي هي في واقع الأمر استجابة لنضالات وتضحيات بعض رموز الإصلاح مثل قاسم أمين الذي نشر كتابين عن المرأة الأول هو تحرير المرأة والثاني هو المرأة الجديدة ، والطاهر الحداد صاحب كتاب إمرأتنا في الشريعة والمجتمع الذي وضعه سنة 1920. لقد أثارت كتابات أمين حفيظة طلعت باشا حرب في مصر، الذي اعتبر أن أي إصلاح يسمح للنساء المصريات بالعيش على شاكلة النساء الأوروبيات من شأنه أن يعرضهن لمخاطر جمة نظراً إلى أنهنّ غير متهيئات لذلك[(35)]. كما أثارت كتابات الحداد احتجاج شيوخ جامع الزيتونة الأعظم بتونس لا سيما الشيخ ابن مراد الذي كتب ينتقد ذلك العمل قبل أن يقرأه في ما يعرف بـ «هذا على الحساب قبل أن أقرأ الكتاب» ثم في عمل ثان بعنوان «الحداد على إمرأة الحدّاد».
إن التشريعات المتعلقة بالأحوال الشخصية تصطدم بإرث فقهي إسلامي ليس تغييره سهلاً، فإذا ما استثنينا مجلة الأحوال الشخصية في تونس الصادرة في 13 آب/أغسطس 1956 والتي اختار واضعوها البداية المبكرة نسبياً مقارنة ببقية الأقطار العربية في التخلص من ذلك الإرث من خلال منع تعدد الزوجات ومن ثم التأسيس للمساواة بين الزوجين، ولحفظ ذلك الاختيار وضع المشرع قوانين تعاقب بالسجن من يكرس التعدد. وفي الآن نفسه مكنت تلك المجلة المرأة من حق اختيار الزوج، وهي بذلك تضع حداً لتقليد عرفته الأسرة في تونس طيلة حقب طويلة وهو الزواج ببنت العم وزواج الأقارب وحق الجبر الذي ينتج عن فسخ ذلك العقد المعنوي. ولعل التحدي الأكبر من وراء حق الاختيار موجه إلى الشرع الإسلامي الذي يمنع زواج المسلمات من غير المسلمين إلا إذا أعلنوا دخولهم في الإسلام. لقد مكنت تلك الاختيارات الرئيسية من إجراء العديد من التحويرات على مجلة الأحوال الشخصية لعل أبرزها تحوير سنة 1993، الذي أقر المسؤولية المشتركة في الحياة الزوجية وفي تربية الأبناء. وقد ترتب على تلك التحويرات إصدار قوانين عديدة منها ما يتعلق باختيار الملكية المشتركة وإقرار ذلك في عقد الزواج، ومنها ما يتعلق بإنشاء صندوق للنفقة يكفل حصول المطلقة على معلوم النفقة في حالة استحالة أدائها من قبل الزوج، ومنها ما يتعلق بمنح الأبناء حق الجنسية إذا كان الزوج أجنبياً... إلخ[(36)].
وبقطع النظر عما أثارته تلك المجلة ولا تزال تثيره من جدل حول مطابقة تلك المضامين للإسلام وردود الفعل المترتبة على ذلك في مستوى حركتي الأفكار والسياسة، فإنه من الضروري الإقرار بأن الحركات النسوية وبعض النخب الليبرالية والتحديثية تتعامل مع تلك التجربة باعتبارها نموذجاً في تحديث التشريعات المتعلقة بالمرأة والحقوق التي تطمح إلى تحقيقها. ففي الجزائر المجاورة لتونس لم يشهد قانون الأسرة تغيراً يذكر، فباستثناء الأمرين الصادرين في ظل الإدارة الاستعمارية الفرنسية سنة 1959 واللذين أقرّا الرضى المتبادل بين الزوجين وألغيا الوصاية في مجال الزواج، وهو ما اعتبرته جبهة التحرير الجزائرية اعتداء على الديانة والجنسية بالرغم من اعتمادهما حتى سنة 1975 من قبل موظفي وقضاة الحالة المدنية، فإن القانون المدني الجزائري الصادر سنة 1975 ينص على أنه في ظلّ غياب حكم قانوني يحق للقاضي الاستناد إلى مبادئ القانون الإسلامي، وفي الآن نفسه ظلّ قضاة المحكمة العليا الجزائرية يطبقون على النزاعات المتصلة بالأحوال الشخصية مؤلفين في الفقه المالكي هما المختصر للخليل و التحفة لابن عاصم. ولم تعرف الجزائر تغييرات تذكر في هذا الاتجاه بالرغم من المقترحات ومشاريع القوانين التي بقيت حبيسة رفوف المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) الجزائري، وخصوصاً في ظل تأثير التيارات الإسلامية المتنامية في الجزائر والتي ترفض بشدة تقييد تعدد الزوجات بموافقة القاضي[(37)].
بالتوازي مع ذلك عرفت مدونة الأسرة المغربية الصادرة ما بين سنتي 1957 و1958 تعديلات عديدة أبرزها في سنتي 1993 و2004. وقد مثلت موضوع حوار وجدل شاركت فيه النخب الفكرية والسياسية في المغرب خاصة في ظل حرية المشاركة والتحولات في اتجاه الديمقراطية الليبرالية التي عاشتها المغرب في السنوات الأخيرة، وهو ما ساعد على تنامي اتجاهين في وسط تلك النخب كان لهما انعكاس على البرلمان والأحزاب السياسية المغربية؛ اتجاه شديد الليبرالية يدعو إلى التحرر من الموروث الإسلامي الذي حكم قانون الأحوال الشخصية طيلة القرون الماضية، ويطالب بسن قوانين تتعلق بالمرأة والأسرة على الطريقة الغربية، واتجاه محكوم بأيديولوجيا الحركات الإسلامية لا يرى في غير الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع. ومن ثمار ذلك الجدل الندوة الفكرية التي أقيمت بجامعة محمد الخامس سنة 2003 وصدرت في مؤلف يحمل عنوان «ندوة مستجدات مدونة الأسرة». ولكن ذلك الجدل حسمه الملك محمد السادس نفسه عندما برر التعديلات التي شهدتها مدونة الأسرة بدعوته إلى «الاجتهاد الذي يجعل الإسلام ديناً مستجيباً لكل زمان ومكان قصد وضع قانون عصري للأسرة»[(38)]. إن مجمل تلك التعديلات يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
ـ تغير سن الزواج من الخامسة عشرة إلى الثامنة عشرة بالنسبة إلى الرجل والمرأة على حد السواء؛ ـ للمرأة الحق في أن تكون أو لا تكون مرفقة بولي أمرها عند عقد الزواج، فالوصاية حق للمرأة التي لها حق الاختيار، وهي تنفذه حسب رغبتها الذاتية؛ ـ يعتبر الطلاق فكّاً لرابطة الزواج يقوم به الزوج أو الزوجة، وهو يخضع لحكم المحكمة؛ ـ يخضع تعدد الزوجات لإذن من القاضي؛ ـ للأحفاد من البنت أن يرثوا من جدهم كما يرث الأحفاد من الإبن[(39)].
ولا يختلف الأمر كثيراً في تجربتي الأردن ومصر في ما يتعلق بقوانين الأسرة والأحوال الشخصية، فمازالت التجربة الأردنية تدور في فلك المطالبة بوضع ضوابط شرعية لتعدد الزوجات مثل العدل والمساواة بين الزوجات، وأن يعقد على الزوجة الثانية بإذن من القاضي الذي عليه أن يشترط القدرة على الكفالة وإبلاغ الثانية بأن الرجل متزوج سابقاً، وعدم ربط الطلاق بالتنازل عن الأولاد...إلخ[(40)]. أما الجدل الدائر حول وضع المرأة المصرية فلا يزال يدور حول ما اعتبره بعض الدارسين مجموعة من المكاسب مثل التعديلات التي أجريت على قانون الخلع الذي بات يمكّن الزوجة من رفع قضية خلع على زوجها إذا فشل التراضي، واعتبر ذلك مكسباً رغم حرمان المرأة من جميع حقوقها المالية. ويضاف إلى ذلك مكاسب أخرى مثل الطلاق من زواج عرفي، وسفر الزوجة دون الحصول على إذن من زوجها، وإنشاء محكمة للأسرة وكذلك إلغاء المادة الخاصة بالاغتصاب، وهي المادة التي كانت تنص على أنه «إذا تزوج الخاطف بمن خطفها زواجاً شرعياً لا يحكم بعقوبة ما» وهو ما اعتبرته بعض الدراسات اغتصابا للمرأة مرتين، الأولى عند اغتصابها مادياً والثانية عند إجبارها على الزواج من صاحب الجريمة للحفاظ على شرف العائلة[(41)].
3 ـ العنف ضد النساء
يقع تعريف العنف ضد النساء بأنه «أي عمل عنيف عدائي أو مؤذ أو مهين تدفع إليه عصبية الجنس يرتكب بأي وسيلة كانت بحق أية امرأة لكونها امرأة ويسبب لها أذى نفسياً أو بدنياً أو جنسياً أو معاناة بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة»[(42)].
يحتل العنف ضد النساء مكاناً متميزاً في الثقافة الجنوسية العربية حتى أن البعض يجد تفسيراً لكثرة انتشاره في المرجعية الدينية الغالبة في الوطن العربي، وهي المرجعية الإسلامية. ولكن هذا الرأي يكون قاصراً عندما نتعرف إلى حجم هذه الظاهرة في المجتمعات الغربية والشرقية على حد سواء، ويكفي أن نشير إلى أن بعض الأرقام الصادرة عن البنك الدولي تشير إلى أن ما لا يقل عن20 في المئة من النساء في مختلف أنحاء العالم يتعرضن للإساءة الجسدية والاعتداء الجنسي. وفي الولايات المتحدة تتعرض امرأة واحدة للضرب المبرح عند مرور كل 15 ثانية، وتتعرض 700 ألف امرأة للاغتصاب كل عام، وتشكل النساء 95في المئة من ضحايا العنف في فرنسا...إلخ. مما جعل العنف ضد النساء من قضايا حقوق الإنسان فيأخذ مكانه ضمن مراكز اهتمام منظمة الأمم المتحدة التي خصصت في سنة 1999 يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر يوماً للقضاء على العنف ضد المرأة[(43)].
ثالثاً: إعادة تشكيل خطاب الجنوسة أو بناء فكرة النوع
1 ـ نسوية أم نوع
النسوية بصورة عامة هي حركة سياسية ترمي إلى تحقيق أهداف اجتماعية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحقوق المرأة وإثبات دورها، وقد نتج عنها بروز فكر نسوي يعمل على تحليل واقع النساء الخصوصي. لكن تلك الحركة التي ظهرت بالأساس في المجتمعات الغربية مع مطلع القرن التاسع عشر بسبب ما تعانيه المرأة من دونية واضطهاد سرعان ما تحولت إلى «فلسفة نسوية» تبارى المفكرون والباحثون وكذلك الفلاسفة الغربيون في مباشرتها فكراً ومجادلتها سياسة. فضمت تلك النسوية بذلك «كل جهد عملي أو نظري لاستجواب أو تحدي أو مراجعة أو نقد أو تعديل النظام البطرياركي ـ الأبوي السائد طوال تاريخ الحضارة الغربية»[(44)].
لقد مرت الحركة النسوية في أوروبا بعدة مراحل ارتباطاً بطبيعة التنظيرات والموجات الفكرية السائدة فنشأت كل من النسوية الليبرالية والنسوية الاشتراكية لاسيما المتأثرة بالفكر الماركسي منها، ولكن التجربة اللافتة للانتباه هي تجربة النسوية الراديكالية. إن هذا الصنف من النسوية بدأ يتبلور في سبعينيات القرن العشرين وسمته الرئيسية عدم إرجاع دونية المرأة إلى طبيعة المشاكل الاجتماعية وإلى هيمنة الرجل المطلقة فقط وإنما إلى عوامل أخرى من أبرزها وجود الأسرة التي لابد، حسب هذا الاتجاه، من تحطيم قداستها لأنها لا تنتج المساواة ولأنها المؤسسة الكفيلة بقهر المرأة. «إن وضعية الأسرة هي ثقافية وليست طبيعية ووظيفة الأيديولوجيا الذكورية السائدة أن تقدمها على أنها طبيعية» على تعبير تنظيرات النسوية الراديكالية. إن تلك التنظيرات تذهب أبعد من ذلك في تجسيم راديكاليتها حين تعتبر أن عبودية المرأة هي الإنجاب لا سواه، ولا بد من إيجاد وضع تتحرر فيه المرأة من الحمل والإنجاب وذلك باعتماد تقنيات الإنجاب الحديثة. لقد تحولت تلك الأنثوية إلى نوع من التطرف يدعو إلى حق المرأة المطلق في جسدها ضمن مركزية أنثوية تقوم على أنقاض المركزية الذكورية وتنتهي إلى الدفاع عن حق المرأة في السحاق وعن الجنسية المثلية ومن ثم التأسيس لنمط جديد من الأسرة هي الأسرة السحاقية والأسرة اللواطية[(45)]! تعود جذور الظاهرة النسوية العربية إلى الفترة الاستعمارية، إذ استخدمت من قبل الإدارتين الاستعماريتين التقليديتين البريطانية والفرنسية، وتستخدم حاضراً من قبل الإدارة الأمريكية كحجة للغزو والتدخل. سنعتمد للتدليل على صحة ذلك القول على مثالين، الأول من الماضي، وتحديداً من القرن التاسع عشر حين انشغل اللورد كرومر، حاكم مصر الإنكليزي، بما وصفه آنذاك بتحرير المرأة المصرية من الغبن والتخلف والظلم والظلام، وهو ما استوجب عليه التدخل في القوانين لتغيير العادات والأنظمة التعليمية. لكن ذلك لا يعدو أن يكون كلمة حق أريد بها باطل لأن ما يعرفه المؤرخون عن الرجل هو عداؤه ومحاربته الشديدة للحركة النسائية في المملكة المتحدة، ناهيك عن المرأة المصرية[(46)].
أما المثال الثاني فهو من الواقع المعيش، وتحديداً من مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي اقترحته الولايات المتحدة الأمريكية على ما يعرف بمجموعة الثماني في قمتها المنعقدة في حزيران/يونيو 2004. لقد تناول ذلك المشروع وضع المرأة في مستويات عدة ولكنه أفرد لمشاركتها السياسية فقرة خاصة جاء فيها ما يلي: «تشغل النساء 3.5 بالمئة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية ومن أجل زيادة مشاركة النساء في الحياة السياسية يمكن لمجموعة الثماني أن ترعى معاهد تدريب خاصة بالنساء تقدم تدريباً على القيادة للنساء المهتمات بالمشاركة في التنافس الانتخابي على مواقع في الحكم أو إنشاء أو تشغيل منظمة غير حكومية. ويمكن لهذه المعاهد أن تجمع بين قيادات من بلدان مجموعة الثماني والمنطقة»[(47)]. إلا أن ذلك التوجه فقد مصداقيته أمام «اختبار العراق». لقد بين ذلك الاختبار الذي انطلق يوم 9 نيسان/أبريل 2003 تاريخ احتلال القوات الأمريكية للعراق وسقوط بغداد أن المرأة العراقية غير جديرة بأن تكون كائناً آدمياً ناهيك عن حقوقها كامرأة، فهي عرضة لجميع أشكال العنف والاعتداء اليومي. وقد تمركزت أشكال الاعتداء الأمريكي على النساء العراقيات حول الاغتصاب، ولم يقتصر ذلك على الأماكن الخاصة مثل البيوت المنتهكة حرماتها والسجون وإنما شمل ذلك الأماكن المقدسة حيث يشار إلى 149 حالة اغتصاب داخل مساجد الفلوجة وحدها[(48)].
ومشهد الاغتصاب يتكرر بصفة متواترة حتى بات أمراً اعتيادياً في السجون العراقية كما في القنوات الفضائية. يقول مدير مركز حقوق الإنسان العراقي السالف الذكر: «الآن تحول الميناء الجميل ـ يقصد ميناء أم قصر ـ المطل على الخليج إلى سجن. كانوا يتركون السجناء من دون استحمام طوال شهر من طقس صيفي حار لا يطاق وفي ظروف شديدة القسوة. بعد ذلك يأمرون السجناء رجالاً ونساء بالاستحمام الجماعي. في هذه الحالة يصبح مجتمع الاغتصاب النموذجي مكتملاً من حيث معماريته الاجتماعية، فهو ينقل الاختلاط بين النساء والرجال إلى مرحلة العري البدائي الكامل، وينجز من دون تردد العودة إلى العرية الأولى...»[(49)].
إن المثال الأكثر تعبيراً عن رسالة الرجل الأبيض الأمريكي «التمدينية» ـ الذي يستبطن كل مقولات الحركة النسوية الغربية وايديولوجياتها ـ تجاه نساء العراق اللواتي يمثلن مجتمع الحريم الشرقي هو ما عبرت عنه سجينة عراقية على جذاذة تسربت من داخل سجن أبو غريب السيىء الصيت ولقيت رواجاً غير منقطع النظير. جاء في تلك الجذاذة ما يلي: «... رسالة من أختكم نور من سجن اليهود في أبو غريب. من أين أبدأ أيها الشرفاء؟ يعجز القلم عن الوصف، أأصف لكم الجوع وأنتم تأكلون أم أصف لكم العطش وأنتم تشربون أم أصف لكم السهر وأنتم نائمون؟ أم أصف لكم عراءنا وأنتم تلبسون؟ يا إخوتي عندما نرى قلاباتكم وسياراتكم تنقل مواد البناء وعندما نقرأ هوية السيارة فإذا هي تحمل اسم أهلي ومحافظتي فأقول راجعة إلى نفسي إن أهلي وإخوتي قد باعوا أعراضهم بمالهم. الدولار الأصفر ولكن أتذكر الشرفاء وأبكي على حالي. ماذا أصف لكم مما نلاقي من العذاب والضرب المبرح حتى نحفظ لكم العرض ونصون الأمانة؟ فأين أنتم يا علماء الدين؟ هل نسيتم الرسالة التي جاء بها الصادق الصدوق أبو القاسم محمد ((ص))؟ إن نسيتموها بسبب الدينار الذي تتقاضونه من اليهود فسوف نوقفكم أمام الواحد الأحد، فنحن أمانة في أعناقكم.. سألتكم بالله ومن تقع بيده هذه الرسالة من العلماء أصحاب المنابر الشرفاء الذين { يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار }[(50)] ، وهذه أمانة يجب أن تنقلوها على منابركم أيها الشرفاء... تذكروا يوم كنتم تنظرون إلى إخوانكم في فلسطين...إننا نعاني ما نعاني عندما ننظر إلى اليهود وهم يريقون الخمر أمامنا ويهتكون أعراضكم كالحيوانات المفترسة ويسرحون ويمرحون مع اللاتي هانت عليهن أعراضهن... أيها الشرفاء كم مرة تموتون؟ أعراضنا هتكت وملابسنا تمزقت وبطوننا جاعت ودموعنا جارية ولكن من ينصرنا؟ لا أريد أن أودعكم.. وقبل أن أودعكم أقول لكم اتقوا الله في أرحامكم فقد امتلأت بطوننا من أولاد الزنى. وقبل الوداع أقول للشرفاء إذا كنتم تمتلكون الأسلحة فاقتلونا معهم داخل السجون أسألكم الله... أسألكم الله»[(51)]. إن هذه الرسالة تحيل بدون شك على أن المرأة العراقية التي من المفترض أن تكون مكوناً رئيسياً من مكونات الاختبار في ورشة مشروع الشرق الأوسط الكبير الحامل لعلامة «صنع في أمريكا» قد عرفت تلك الصناعة على حقيقتها ولا أظنها قابلة لحلقة أخرى من حلقات تلك التجربة المرةّ مهما كانت اليافطة التي ترفعها «نسوية ليبرالية أو اشتراكية أو راديكالية» أو هكذا نسوية بدون صفة.
لا شك في أن مقولات الحركات النسوية العربية ما زالت تتأثر بفلسفات الحركات النسوية في المجتمعات الغربية رغم ما يمكن أن نسميه بالمفارقة الأمريكية تجاه تلك المسألة بين خطاب «عقلاني» و«تنويري» لا يقتصر على موضوع المرأة وقضاياها، وبين رغبة شديدة في الهيمنة على الآخر إلى درجة تحطيمه بالاعتداء على أجمل ما يملك، ولا نقصد بذلك الشرف إذ لا وجود له إذا انتهك شرف المجتمع، وإنما نقصد الجسد الذي منحته الشرائع كلها، وضعية كانت أم سماوية، حرمته وقدسيته. فإن الكثير من النسويات العربية لا تزال تبشر بتلك الفلسفات بل تضعها في مرتبة الموروث الديني والحضاري لمجتمع بأكمله. سنعتمد على مثالين من تجربة الحركة النسوية التونسية ممثلة في الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وجمعية النساء التونسيات من أجل البحث والتنمية. الأولى أصدرت كتاباً من 55 صفحة احتفالاً بعشرية اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء 1979 ـ 1989، عنوانه من أجل المساواة بين الجنسين وإلغاء كل مظاهر التمييز ضد النساء . نشر الكتاب سنة 1991، وهو يحوي مجموعة من المقالات بالإضافة إلى الاتفاقية[(52)]. ما يشد الانتباه هو المناقشة المستفيضة ورفض التحفظات التي أبدتها الدولة التونسية تجاه بعض بنود تلك الاتفاقية رغم مصادقتها عليها سنة 1985. ويتمثل ذلك التحفظ في ما يلي: «لا تتخذ في خصوص الاتفاقية أي قرار إداري أو قانوني من شأنه أن يتعارض مع ما أقره الفصل الأول من الدستور القائل (تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها) وتعتبر نفسها حلاً من الإجراءات التي تتعارض مع مجلة الأحوال الشخصية وقانون الجنسية»[(53)].
لقد اعتبرت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات أن تونس بتلك التحفظات تنضم إلى صف بقية الدول العربية الإسلامية لتحرم النساء من حقوقهن. وفي الإجابة على تساؤلات ما هي الدوافع التي تتوارى خلف هذا الموقف؟ ولماذا ترفع راية الذاتية الثقافية كلما تعلق الأمر بالنساء وحقوقهن؟ ومن يحكم على المرأة باسم التقليد أن تنحصر في وضعية دونية وأن تكون بمعزل عن مواكبة الحداثة؟ وهل يمكن لهذا المسعى أن يكون ناجعاً؟ تجيب الجمعية بأن الخصوصيات الثقافية لا يمكنها أن تنقطع عن الفكر الإنساني أين ما كان؛ فالإنسان هو الإنسان وحقوقه لا تتغير أينما وجد. من هذا المنطلق تعتبر الجمعية أن التحفظات التي أبدتها الدولة التونسية بتكريس التمييز بين النساء والرجال وخصوصاً في نطاق العائلة مناقضة لمبدأ عدم التمييز بين الجنسين[(54)]. إن هذا الموقف يضع في الدرجة الأولى التشريعات العالمية المنبثقة عن الأمم المتحدة وغيرها ويعطيها الأولوية دون اعتبار للخصوصية مهما كانت مضامينها متولدة من التراث مثلما هو الأمر بالنسبة إلى التحفظات المشار إليها أو نتيجة القوة المفرطة إذا تعلق بموقف الولايات المتحدة الأمريكية من بعض الاتفاقيات الدولية وتطبيقاتها، لا سيما تلك المتعلقة بمحاكمة جنودها على أرض غير أمريكية.
المثال الثاني يتعلق بجمعية النساء التونسيات من أجل البحث والتنمية، التي أصدرت في نيسان/أبريل 2006 كتاباً باللغة الفرنسية في 171 صفحة يحمل عنوان المساواة في الميراث . ودون الدخول في تفاصيل وجزئيات ما احتواه هذا الكتاب نشير إلى أن تقديمه قد أشاد بما تحقق لفائدة المرأة خلال الخمسين سنة الماضية في تونس، مثل صدور مجلة الأحوال الشخصية التي منعت تعدد الزوجات وحددت السن الدنيا للزواج والتساوي في الطلاق وغير ذلك كثير، إلا أن ما لم تحققه تلك المجلة هو المساواة في الميراث بين النساء والرجال على الرغم من المراجعات العديدة التي عرفتها تلك المجلة خلال الفترة المذكورة. ويؤكد التقديم على أن نقاش هذا الموضوع بات شأناً عاماً، والكتاب هو ثمرة جهد أولئك الذين يخوضون المعركة من أجل المساواة وحقوق النساء[(55)]. إن الأمر المهم في كلا المثالين هو الخلفية النسوية التي تنبع منها تلك المواقف، ومأزق تلك الخلفية هو أنها لا تأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يكون ثابتاً في المجتمع وما يمكن أن يكون عارضاً، وتكفي المقارنة بين معالجة الطاهر الحداد الذي تعرضنا له سابقاً في تناوله للمساواة والميراث. إن الرجل محامي المرأة بامتياز لكنه ليس أسير الخطاب النسوي وغير منبت المرجعية، فهو لا يجد حرجاً بل يرى من واجبه تأصيل نزعته في المساواة ضمن إطار تاريخي وضمن رأس مال رمزي نسج خيوطه المجتمع الذي ينتمي إليه خلال حقب طويلة من تفاعل أفراده، وقد رأت الجمعيتان النسويتان المذكورتان التنصل منه دون سابق إنذار ودون أخذ بعين الاعتبار ما أنتجه المجتمع من قيم ورموز وعلامات تعكس نموذجاً حضارياً ليس من اليسير شطبه.
في مقابل ذلك فإن الحركة النسوية عموماً والنسوية العربية خصوصاً بدأت تستفيق على وقع الاختلاف والتناقض بين مقولات المساواة دون الأخذ في عين الاعتبار الفوارق بين الرجل والمرأة وما أنتجته من طبيعة مختلفة ومن خصوصيات ثقافية. كما بدأت مقولاتها وطروحاتها التي أرستها خلال عقود من التنظير والعمل تتداعى؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية، المركز الأهم للحركة النسوية في الغرب، أعيد طرح السؤال حول ما كان يعتقد أنه من البديهيات. وقد تجلى ذلك كالتالي: هل أن مكان المرأة هو المنزل وأن وظيفتها الرئيسية هي الإنجاب وتربية الأبناء، أم لها وظائف أخرى ذات أولوية خارج ذلك الفضاء؟ وبعد عقود من تأثيرات الفكر النسوي جاءت الإجابة كالتالي: «إن نصف النساء الثريات والأكثر امتيازات والأرقى تعليماً في الولايات المتحدة يفضلن البقاء في البيت مع أطفالهن بدلاً من العمل في اقتصاد السوق»[(56)]. إن ذلك الموقف هو خلاصة دراسة ميدانية نشرت سنة 2005 وانتهت إلى الإقرار بفشل ما يعرف بالخيار النسوي القائم على إيجاد مركزية نسوية مقابل المركزية الذكورية. فعندما تقر المرأة المتعلمة بل الأكثر تعلماً وبالتالي المستبطنة للأفكار النسوية، عندما تقر وهي تتحدث عن زوجها مستعملة لغة علم الإدارة «هو رئيس الإدارة التنفيذي وأنا رئيسة الإدارة المالية. عليه كسب الأموال وعلي أن أقرر كيف أنفقها»[(57)]، فإن مقولات الفلسفة النسوية تحتاج إلى مراجعة. إن ذلك المثال تعبير عن واقع يشهد انتشاراً كبيراً في جمهور النساء المتعلمات فكيف بالأمر عند الأقل تعليماً.
إن تلك المقولة تذكرنا بالتقسيم الدوركايمي لأشكال التضامن، وبالتالي العمل، فذلك التقسيم في الأدوار يحيل إلى تقسيم العمل في مرحلة التضامن الآلي وليس العضوي الذي تعيشه المجتمعات الصناعية. ويكاد ينسحب الاتجاه نفسه على موقف النساء العربيات لا سيما المتعلمات، وخاصة في البلدان التي عرفت تنامياً للحركات النسوية، ونذكر بالتخصيص كلاً من تونس ولبنان. ففي هذا الأخير تبرز عودة إلى ترتيب الأولويات، فلم تعد المرأة/الذات الجنسية أرفع شأناً من الأم والعاملة خارج البيت أهم من المربية كما كانت تروج الحركات النسوية. وإنما تتم عودة ملحوظة إلى الأمومة وتقديسها وتمجيدها، وهذا الموقف لا يقتصر على المرأة اللبنانية التقليدية وإنما ينتشر أيضاً لدى ما يمكن أن نسميه نساء الحداثة. ويفسر بعض الأبحاث ذلك بأن الأمومة في المجتمع اللبناني والعربي عموماً لم تكن يوماً أمراً مدعاة للنقاش بالحدة نفسها التي طرحت فيها في المجتمعات الغربية. وبذلك لم تعد الأمومة نوعاً من العبودية وإنما تحقق الذات الإنسانية. إن تلك النتيجة هي خلاصة لدراسة ميدانية على نساء البيوت في لبنان انتهت كذلك إلى تعظيم الطفولة وما يعنيه ذلك من إعطاء المسؤولية الرئيسية في التربية وبالتالي تشكيل شخصية الطفل للأم[(58)].
إن أهمية عرض التطور التاريخي للأفكار كما ممارسات الحركات النسوية يرمي إلى الوقوف على القطائع الهامة التي عرفتها تلك التجارب. ومن ثمة فمن الضروري التفريق بينها وبين ما أنتجته «أيديولوجيا النوع» من مقولات لا تنفي كل ما توصل إليه المجتمع الإنساني من تراكمات في عالم القيم والأفعال الإنسانية وإنما تكتفي بالحد من آثار بطرياركية ذكورية حفظت كتب التاريخ الأوروبي أكبر مظاهر إجحافها وتهميشها للمرأة ولحقوقها ولما يمكن أن تلعبه من أدوار في المجتمع. إن «أيديولوجيا النوع» في النهاية لا ترمي إلى بناء مركزية أنثوية وإنما تهدف إلى الحد من التمييز ضد المرأة وليس قلب سلم الوظائف الاجتماعية.
2 ـ دور التنشئة الاجتماعية أو التربية على النوع
إن خطاب الجنوسة الذي يقوم على السيطرة الذكورية المطلقة لا يقتصر على الموروث الجنسي وإنما يشمل جميع مجالات الحياة. ففي دراسة أجريت سنة 2000 ونشرت سنة 2005 تبين وجود أمي واحد بالنسبة إلى خمسة بالغين على المستوى العالمي، ومن بين أولئك الأميين نجد الثلثين من النساء. وهو ما يحول دون مقدرتهن على الدفاع عن حقوقهن[(59)]. وينعكس ذلك على توزيع النساء على المهن خارج المنزل وعلى المشاركة السياسية، فإذا ما استثنينا بعض الدول الغربية في أوروبا وأمريكا الشمالية، فمن نافلة القول الإقرار بمحدودية مساهمة النساء في الشأن العام، بل إن كثيراً من المجتمعات والدول لا تحتسبهن ضمن اليد العاملة النشيطة في قياس نسبة البطالة ومؤشراتها.
ورغم المحاولات التي عرفها كثير من البلدان للنهوض بوضع المرأة وتغييره باتجاه مزيد من المشاركة، فإن تلك المحاولات بقيت حبيسة النصوص القانونية التي قلصت في المستوى التشريعي من دونية المرأة ومحاولات استغلالها مادياً وجنسياً وأخلاقياً في المستوى النظري. لكن على مستوى الواقع لا بد من الاستنجاد بما يسميه البعض «البناء الاجتماعي للنوع»[(60)] الذي يفترض التفريق بين «الجنس الطبيعي» و«الجنس الثقافي». إن «بناء النوع» عملية شاقة لا يتحقق بمجرد إعطاء بعض حقوق المرأة أو تمكينها من بعض الحريات الفردية التي شكلت مطالب رئيسية لكثير الحركات النسوية، إنما هو عملية تنشئة تتولاها مختلف أطر التنشئة الاجتماعية.
توجد عدة وسائل للتنشئة الاجتماعية مثل الأسرة والمدرسة. فالأسرة التي تمثل مؤسسة عريقة وخلية رئيسية من خلايا المجتمع تتولى إعداد أجياله فهي أول فضاء للتربية والرعاية لإشباع الحاجات ولتعليم الأطفال مفهوم الذات واللغة. وبإمكانها بالاعتماد على مختلف أساليب التنشئة الاجتماعية أن تعيد إنتاج الفوارق بين الجنسين. فإذا كانت التنشئة مبنية على أولوية «الذكر»، سواء كان ابناً أو أباً، في مختلف المعاملات والامتيازات والتسيير وبالتالي التمييز بين الجنسين، وإذا كانت الرسالة التي تسعى العائلة إلى تبليغها هي أن الذكور أقوياء ونشيطون والبنات رقيقات وناعمات وهادئات، وإذا كانت هناك ألوان محددة لملابس الذكور وأخرى مختلفة لملابس الإناث وألعاب مخصصة لكل جنس بحسب الأنوثة والذكورة[(61)]، فإن ذلك سينعكس على تربية الأبناء وعلى «النموذج» وسلطته التي سيمارسها على الأبناء وبالتالي يحكم مختلف علاقاتهم طيلة تجاربهم الحياتية. إن السيطرة الذكورية داخل العائلة ستؤدي حتماً إلى دونية أنثوية؛ لا شك في أن الأسرة ستبقى محكومة بإرث اجتماعي، فهي بمثابة المرآة العاكسة للمجتمع في مستوى القيم والرموز والعقائد والعادات والتقاليد ومختلف التراكمات الثقافية والايديولوجية للنظام السياسي السائد. وإن ما سيتربى عليه الطفل ذكراً كان أو أنثى هو ما سيستبطنه لنفسه ولأبنائه. وإن الطفل يتعلم بعينه، أي ما يراه ويلاحظه من سلوكيات ومعاملات أكثر مما يتعلمه بأذنه، أي ما يسمعه ويجبر على تلقنه.
إن احتكار الزوج للسلطة وقيامه بالوظائف الخارجية كلها وتركه الوظائف الداخلية للزوجة ستؤدي إلى تشكيل شخصية ذكورية لدى الطفل الذكر تواقة إلى الهيمنة وشخصية أنثوية لدى الطفل الأنثى قابلة للهيمنة والخضوع. إن ما تستطيع الأسرة تمريره من قيم جديدة تحد من التمييز الجنسي ومن الهيمنة الذكورية عبر تنشئة متوازنة في فترة وجيزة قد لا يستطيع المجتمع إنجازه خلال عقود من الزمن ولو باعتماد أكثر التشريعات تقدماً وبتمكين المرأة من أعلى الوظائف والرتب والامتيازات.
إن المدرسة هي إطار التنشئة الذي يكتسي الدرجة نفسها من الأهمية. يذهب بيار بورديو إلى أن مفهوم إعادة إنتاج الثقافة هو مفهوم تنتجه المدارس بمشاركة مؤسسات اجتماعية أخرى، وذلك للحفاظ على اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية جيلاً بعد جيل[(62)]. وهنا لابد من الانتباه إلى قدرات المدرسة عبر مناهجها الدراسية على ممارسة التأثير على تعليم القيم والتوجهات والعادات. إن المدارس ترسخ وجوه التنوع في القيم الثقافية والتوجهات التي يكتسبها المرء في المراحل المبكرة من حياته. وعندما يغادر الأطفال المدرسة تمارس هذه القيم الثقافية أثرها على الناس بتحديد آفاق الفرص أمام بعضهم وفتح مجالات واسعة أمام بعضهم الآخر[(63)].
ويذهب عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم في كتاب نشر سنة 1922، أي بعد عدة سنوات على وفاته، يحمل عنوان التربية وعلم الاجتماع ، مذهباً مختلفاً نسبياً معتبراً أن التربية هي ظاهرة مكتسبة يتلقاها الأطفال والصغار عن الكبار لأنها تنتقل من جيل إلى آخر على أرضية أن الأطفال لهم مرونة في التفكير وأكثر قابلية للتعلم والتلقين. فهي وسيلة لنقل قيم المجتمع وثقافته وموروثاته. وينحو دوركايم منحى النزعة الجماعية نظراً إلى ما تقوم به المدرسة من تشكيل للضمير الجمعي، ولا يميل إلى نقل الخصوصيات وإعادة إنتاجها كما ذهب إلى ذلك بورديو.
إن المدرسة بتلك الطريقة تلقن الفرد الامتثال للنظام السياسي والقانوني واحترام المعايير الاجتماعية والأخلاقية، بل إن وظيفة المدرسة هي إنتاج «الهوية الاجتماعية «للأفراد وخلق ما يسمى الحس المشترك لديهم.
إن أدنى تمييز بين الجنسين في المدرسة، كإحداث أقسام للذكور وأخرى للإناث أو صفوف للفتيان وأخرى للفتيات، ناهيك عن التمييز بينهم في مدارس مخصصه لكل جنس على حدة أو تخصيص مدرسين حسب الجنس، المدرسون للفتيان والمدرسات للفتيات أو ما تحتويه بعض الكتب المدرسية من اعتماد أمثلة ومقررات ولغة ذات طبيعة ذكورية أو توجيه الطلاب الذكور إلى نوعية معينة من الاختصاصات ومن ثمة المهن وأخرى إلى الإناث، كل ذلك سيكون الأرضية الخصبة التي ستنتج فكرة التمييز بل ستعيد إنتاجها.
إن مبادئ «أيديولوجيا النوع الاجتماعي» التي تسعى إلى ترسيخ عدم التفريق على أساس بيولوجي وإنما على أساس ثقافي ومن إنتاج المجتمع، لن يكون لها شأن كبير في مجتمع تعجز مدرسته عن الحد من تلك الفوارق في نظامها الشكلي قبل التحدث عن المضامين والحقوق التي يجب أن تنقلها أجيال مجتمع ورث جميع أشكال التمييز وبات يستنبطها.
كما توجد صورة أنثوية يتم تسليعها وتسويقها في إطار الانسجام بين الإعلام والسوق من خلال وسائل الاتصال الجماهيري، مثل التلفزيون والصحف والراديو والإنترنت. وللحد من الفجوة القائمة بين تلك المقولات التي أنتجتها «ايديولوجيا النوع» التي ظهرت في المجتمعات الغربية التي تعيش نهضتها منذ القرن السادس عشر وعرفت التنوير والحداثة التي أنتجت القيم المادية والمعنوية التي تتهافت عليها مختلف المجتمعات غير الغربية، وما تعيشه هذه المجتمعات من قيم هي نتاج موروثها التاريخي الذي ما زال ينتج مقولات وأدواراً وتمثلات لم تعد تنسجم حتى مع عصرها الذي نشأت فيه، ناهيك عن هذا العصر، لابد من إعادة النظر في وظيفة الإعلام في تعامله مع ثنائية الذكورة ـ الأنوثة أو ما سميناها الجنوسة.
خاتمـة
يتخلل هذا العمل محاولة تصنيفية لخطاب الجنوسة في الثقافة العربية قديمه وحديثه، مقدسه ومدنسه. ويتبين من خلال التراث الثري الذي تحفظه لنا الكتب القديمة ومن خلال الأدوار الممنوحة للمرأة في المجتمع العربي المعاصر والتي تستند إلى جنسها كأنثى قبل كل شيء، أننا أمام موروث فكري وأنماط من السلوك راسخة في الخطاب كما في الأفكار بسبب تحولها إلى أعراف بل إلى قوانين وتشريعات ينتظم من خلالها المجتمع ككل، ولكن يمكن للدارس أن يلامس الأثر العميق للنزعة الذكورية في مختلف النصوص التي بمقتضاها تشتغل المؤسسات ويتفاعل الأفراد فيما بينهم ومع تلك المؤسسات. إن هذه الثقافة العريقة والضاربة في القدم أصبحت تكتسي اليوم مسحة من العتاقة في ظل بروز فكرة النوع التي تستند إلى ما هو ثقافي وتجانب ما هو طبيعي في تقسيم الأدوار بين النساء والرجال ؛ الفكرة التي اخترقت ثقافات كثير من المجتمعات بما في ذلك تلك التي تقمصتها من دون أن تكون بذرة تنبت من أرضها.
ولكن اللافت في تجربة المجتمع العربي القصيرة مع الفكرة الجديدة الوافدة أنهما لا تلقيان المقاومة الذكورية فقط وإنما تصطدم بموروث ثقافي خصب لها امتداد ضارب في أعماق التاريخ والذات، ويلعب فيه الديني دوراً مركزياً، مما يجعل من تقبل مختلف الأفكار المنقولة عن طريق عربة الحداثة أمراً عسيراً. ويزداد الأمر عسراً عندما تترسخ قيم جديدة هي قيم تسليع الجنس وبيعه علناً، سواء كان ذلك من خلال عروض البغاء المنظم العلني والسري أو عبر بيع مادة الفحولة لمن يشتري ويدفع المقابل. ويزداد الأمر تعقيداً وخطورة عندما تلامس المسألة، مسألة النوع، المقدسات والمحرمات التي تمثل ثوابت يصعب المساس بها في مجتمعنا العربي الإسلامي الذي لا يستطيع دارسه أو حتى المتعامل معه أن يفصل بينه وبين تلك المستويات ژ6
(*) له عدة مؤلفات، منها: تاريخ شبه جزيرة جرجيس من العصور القديمة إلى نهاية الاحتلال الفرنسي: دراسة اجتماعية ـ تاريخية في التاريخ المحلي (2001)، و مجتمع القبيلة: البناء الاجتماعي وتحولاته في تونس: دراسة في «قبيلة عكارة» (2006).
ـ[1] مالك شبل، «الأنوثة والذكورة،» ورقة قدمت إلى: الإسلام والحداثة: ندوة مواقف (لندن: دار الساقي، 1990)، ص 289.
ـ[2] أبو الفضل محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب ، 15 ج (بيروت: دار صادر، 1955 ـ 1956)، ج 6، ص 43.
ـ[3] المصدر نفسه، ج 2، ص 625 ـ 626.
ـ[4] الطاهر أحمد الزاوي، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة ([د. م.]: الدار العربية للكتاب، 1980)، ج 1، ص 185.
ـ[5] المنجد في اللغة ، ط 37 ([بيروت]: دار المشرق، 1998)، ص 754.
ـ[6] ابن منظور، لسان العرب ، ج 4، ص 309 ـ 311.
ـ[7] انظر: المصدر نفسه، ج 11، ص 265، والزاوي، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة، ج 2 ص 309.
ـ[8] انظر: مجموعة رسائل في الحجاب والسفور (الرياض: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1984)، و المجلة العربية لحقوق الإنسان (المعهد العربي لحقوق الإنسان)، العدد 11 (خاص بالحجاب) (2005).
ـ[9] الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع (تونس: الدار التونسية للنشر، 1977)، ص 23.
ـ[10] القرآن الكريم ، «سورة التكوير،» الآيتان 8 ـ 9.
ـ[11] الحداد، المصدر نفسه، ص 25.
ـ[12] المصدر نفسه، ص 29.
ـ[13] المصدر نفسه، ص 38.
ـ[14] القرآن الكريم ، «سورة النساء،» الآية 7.
ـ[15] المصدر نفسه، «سورة النساء،» الآية 11.
ـ[16] المصدر نفسه، «سورة النساء،» الآية 11.
ـ[17] الحداد، المصدر نفسه، ص 39.
ـ[18] المصدر نفسه، ص 41.
ـ[19] المصدر نفسه، ص 43.
ـ[20] عبد الوهاب بوحديبة، الجنسانية في الإسلام ، ترجمة محمد علي مقلد (تونس: دار سراس، 2000)، ص 31.
ـ[21] المصدر نفسه، ص 31 ـ 32.
ـ[22] المصدر نفسه، ص 32.
ـ[23] المصدر نفسه، ص 43.
ـ[24] Ann Oakley, Sex, Gender and Society , Towards a New Society (London: Maurice Temple Smith Ltd., 1972).ـ[25] Jeanne Bisilliat, Luttes feministes et développement: Une Perspective historique, dans: Le Genre: Un Outil nécessaire, introduction à une problématique , dirigé par Jeanne Bisilliat et Christine Verschuur, cahiers genre et développement; no. 1 (Paris: Harmattan; Boulogne: Association femmes et développement (AFED); Carouge, Suisse: Espace femmes international, 2000), p. 23.ـ[26] Femmes sans qualités ou héroines: Sociétés anciennes, représentations profondes, .ـ[27] روجيه غارودي، في سبيل ارتقاء المرأة ، ترجمة جلال مطرجي، ط 2 (بيروت: دار الآداب، 1988)، ص 13 ـ 14.
ـ[28] Femmes sans qualités ou héroines: Sociétés anciennes, représentations profondes.
ـ[29] Bisilliat, Luttes feministes et développement: Une Perspective historique, p. 20.
ـ[30] المصدر نفسه، ص 21.
ـ[31] شاذلية الماجري، «المنظمة النقابية وإدماج النوع الاجتماعي: دراسة حالة،» (رسالة ماجستير في الدراسات النسوية، المعهد العالي للعلوم الإنسانية، تونس، 2004 ـ 2005)، ص 19.
ـ[32] الفتاة العربية المراهقة: الواقع والآفاق: تقرير تنمية المرأة العربية الثاني ، [أشرف على التقرير مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث بتونس؛ توطئة سكينة بوراوي] (تونس: مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث، 2003)، ص 251.
ـ[33] المصدر نفسه، ص 252.
ـ[34] المصدر نفسه، ص 253.
ـ[35] نادية آية زاي، «التطور القانوني في مجال قانون الأسرة والقانون المدني،» في: قانون الأسرة في البلاد العربية الإسلامية: قراءة للضوابط الدينية والقانونية (ملتقى الآراء كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة في الأديان، كلية الآداب بمنوبة، مؤسسة كونراد أديناور، 2005)، ص 84.
ـ[36] Mustpha Kraim, Etat et société dans la Tunisie Bourguibienne ([s. l.]: Phenomena edition, 2003), tome 2, pp. 47-48.ـ[37] آية زاي، المصدر نفسه، ص 88 ـ 89.
ـ[38] المصدر نفسه، ص 87.
ـ[39] المصدر نفسه، ص 87 ـ 88.
ـ[40] رحاب القدومي، «الأسرة وقانون الأحوال الشخصية الأردني،» في: قانون الأسرة في البلاد العربية الإسلامية: قراءة للضوابط الدينية والقانونية، ص 116 ـ 117.
ـ[41] نهاد أبو القمصان، «المرأة المصرية على طريق لم يكتمل بعد،» في: المصدر نفسه، ص 120 ـ 125.
ـ[42] دعد موسى، «العنف ضد المرأة،» .
ـ[43] المصدر نفسه.
ـ[44] يمنى طريف الخولي، «النسوية وفلسفة العلم،» عالم الفكر ، السنة 34، عدد خاص حول المرأة (تشرين الأول/أكتوبر ـ كانون الأول/ديسمبر 2005)، ص 12.
ـ[45] المصدر نفسه، ص 28 ـ 29.
ـ[46] جين سعيد المقدسي، «الخطاب النسوي العربي ـ السعداوي/المرنيسي،» في: النساء في الخطاب العربي المعاصر ، باحثات؛ ج 9 (بيروت: تجمع الباحثات اللبنانيات، 2004)، ص 324، نقلاً عن: Leila Ahmed, Women and Gender in Islam: Historical Roots of a Modern Debate (New Haven, CT: Yale University Press, 1992).ـ[47] انظر نص مشروع الشرق الأوسط الكبير في: الحياة ، 13/2/2004. لقد انعكس ذلك الاتجاه على مشاريع الإصلاح الناتجة عن التداعيات التي أحدثها مشروع إصلاح الشرق الأوسط الكبير فجاء في ما عرف بالوثيقة التونسية للإصلاح والمقدمة إلى مؤتمر القمة العربي المنعقد في تونس سنة 2004 ما يلي: «مواصلة النهوض بدور المرأة في المجتمع العربي وتدعيم حقوقها تعزيزاً لمساهمتها في دفع التنمية الشاملة من خلال مشاركتها الفعلية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية». انظر أيضاً: جمال الزرن، «مشاريع الإصلاح والإصلاح المضاد ومجتمع المعرفة في الرفض والقبول وإشكالية التلقي،» المجلة العربية للأرشيف والتوثيق والمعلومات (مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، تونس)، العددان 17 ـ 18 (تشرين الثاني/نوفمبر 2005)، ص 95.
ـ[48] فاضل الربيعي، «نساء أبو غريب: بزوغ مجتمع اغتصاب نموذجي في العراق الجديد (إعادة بناء الرواية الناقصة عن فضيحة سجن أبو غريب)،» المستقبل العربي ، السنة 28، العدد 316 (حزيران/يونيو 2005)، ص 25، يشير المقال إلى أن ذلك العدد ورد في حديث صحافي للسيد عزيز جبر شيال، مدير مركز بغداد لحقوق الإنسان، في: آفاق عربية (17 آذار/مارس 2005) كما نشر على موقع البصرة على شبكة الانترنت.
ـ[49] الربيعي، المصدر نفسه، ص 26 ـ 27.
ـ[50] القرآن الكريم ، «سورة النور،» الآية 37.
ـ[51] الربيعي، المصدر نفسه، ص 28.
ـ[52] من أجل المساواة بين الجنسين وإلغاء كل مظاهر التمييز ضد النساء: [أعمال] الندوة التي نظمتها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بتونس في 6 يناير 1990 (تونس: الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، 1991).
ـ[53] المصدر نفسه، ص 7.
ـ[54] المصدر نفسه، ص 7 ـ 8.
ـ[55] Egalite dans l'heritage ([s. l.]: Association des femmes pour la recherche et le développement avec le soutien de la fondation Friedrich Ebert, 2006), p. 5.ـ[56] ليندا هيرشمان، «إني للبيت عائدة،» ترجمة جعفر جميل أبو ناصر، الثقافة العالمية ، العدد 136 (أيار/مايو ـ حزيران/يونيو 2006)، ص 106، والمقالة في الأصل مكتوبة باللغة الإنكليزية تحت عنوان: Linda R. Hirshman, Homeward Bound, American Prospect (December 2005).ـ[57] هيرشمان، المصدر نفسه، ص 113.
ـ[58] فادية حطيط، «النسوية الأمومية ـ ستات البيوت في لبنان ـ أي دور؟ أي خطاب؟،» في: النساء في الخطاب العربي المعاصر ، ص 303.
ـ[59] Education: Les Femmes rattrapent leur retard, Sciences humaines , hors-série spécial no. 4 (novembre-décembre 2005), pp. 50-51.ـ[60] Martine Fournier, La Différence des sexes est-elle culturelle?, Sciences humaines , hors-série spécial no. 4 (novembre-décembre 2005), p. 24.ـ[61] موسى شتيوي، الأدوار الجندرية في الكتب المدرسية للمرحلة الأساسية في الأردن (عمّان: المركز الأردني للبحوث الاجتماعية، 1999)، ص 12.
ـ[62] نقلاً عن: أنتوني غدنز، علم الاجتماع ، ترجمة وتقديم فايز الصياغ (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005)، ص 561.
ـ[63] المصدر نفسه، ص 561.