جرجيس "زمرّدة مكنونة"
طمثتها الآثام
د.سالم لبيض
جامعة تونس المنار
اسم ضارب في القدم ، ورد في كتاب المؤرخ البيزنطي بروكوب Procope في القرن السادس الميلادي . اسم شخص تحول إلى تسمية لمدينة. هي إحدى مدن ثلاث – زيطا وقنطرتها وجرجيس – شهدتها شبه الجزيرة المعروفة بدخلة عكارة نسبة إلى القبيلة التي استوطنتها منذ نهاية القرن السادس عشر الميلادي . الطبع غلب التطبع فاستقرت التسمية على أصولها الجغرافية بدل القبلية.
كانت قرية صغيرة عندما زارها الضابط الفرنسي دوبراي DUBREUIL أول مرة سنة 1917 وأخذ الصورة الفضائية التي كادت أن تأتي على جميع المعالم المميزة للمكان . لم يكن الرجل ضابطا استعماريا تقليديا . سيرته الذاتية تروي خصالَه الفذة. لقد أثمرت تجربته مع ذلك المكان عملا روائيا بعنوان "شبه الجزيرة الإفريقية La presqu'île africaine " أطلق فيه تسمية "الزمرّدة الصغيرة" على الأرض التي اختارها موطنا لبقية حياته ومماته (1917 -1960)، بعد أن اجتباها من بين أراض كثيرة مكنته من زيارتها رحلته لإفريقيا سنة 1924 " la croisière noire citroën" وآسيا سنة 1932la croisière jaune citroën"". لم تطلق الصفة جزافا ولا هي من باب المصادفة . فقد حكمتها ثلاثية لا تلتقي أبدا إلا نادرا، البحر والواحة وغابة الزيتون. اختيار فيه اجتذاب للماضي واستعادة للتاريخ. خيار سبقه إليه "عكارة" حينما احتموا أول مرة بالبرج الحسيني وأسسوا حذوه جامع الحصار والقصور التاريخية حمّالة أسماء العروش . لم يكونوا على دراية بأنهم روّاد فعل تاريخي ثمرته ستكون تلك المدينة الزمرّدة. سبق يحيل على ارتباط وثيق بالأرض والتاريخ، لا يعوزه ذوق سليم في الاختيار ورؤية حصيفة في النظر إلى الآتي. جرجيس مركز استقطاب للمجموعات على مرّ التاريخ، مدينة دائمة الاتساع. سكانها عرب وعجم. مسلمون ومسيحيون ويهود، لم يتجاوز عددهم الأربعة آلاف سنة 1886، ناهزت اليوم الثمانين ألف يتضاعفون ثلاثا في موسم الصيف دون أن يؤودها ذلك. استقطاب أسراره كامنة لا يعلمها سوى الراسخة أقدامهم في أرضها. اصطفاها الله بمناخ معتدل فلا هي بالباردة شتاء ولا بالحارة صيفا. مواردها عديدة. غابة زيتون تناهز المليون وربع. بحر بسمكه وإسفنجه المتميّز، نشاط سياحي متنام. انفتاح على الآخر متقادم مستحدث أنجب حركة هجرة وجذب متوازيين سمتهما الرئيسية التعايش والثراء. ثروة بترولية هامة تحيل نيرانها المحترقة في سماء جرجيس على قول شاعر قديم " مَا بِڤْصِتْ نَارْ فِي جْفَارَهْ كَانْ نَارْ عَكَّارَهْ". النار القديمة تنوّه بكرم أهل المنطقة وتذكّر بخصالهم الطائية، أما نارهم الجديدة فرمزيتها تكمن في انفتاحهم على الاقتصاد الكوني المعولم منبعثا من رماد الأرض ذاتها التي لم تكن تنتج يوما سوى الكفاف. حركة تجارية لا متناهية استفادت من انفتاح على البحر يرجع إلى أزمنة غابرة، ثماره منطقة حرّة وميناء تجاري سفنه رواسٍ لا تتزحزح إلا محمّلة بما لذّ وطاب من رحيق الثروات. أرضية اقتصادية صلبة تلك التي افترشتها مدينتنا مما استوجب عقلنة أنشطتها وتنظيمها عبر مؤسسة تنتزع حقّها وترسّخ إيطيقاها وشرعيتها بعيدا عن نزوات الأفراد، ولها في إرث زيطا القديم سبق ودليل .
أُحدِثت بلدية جرجيس سنة 1889، اسمها الأول "مجلس الطرقات"، لم يكن مجال تدخلها يتجاوز ما يعرف تاريخيا "بقصر الشلبة" مركز المدينة الحالي. ولكن الأمر لم يلبث كثيرا فتحولت جرجيس بأكملها منطقة بلدية ينظمها مجلس بلدي ومجموعة من الدوائر. ميزة جرجيس أنها نشأت وامتدت أفقيا حتّى أنها لم تعرف الامتداد العمودي إلا فيما قلّ. بناء اتسم بالإنسيابية، لم تستجب المدينة في تطورها التاريخي لنموذج المدينة العربية الإسلامية المتمركزة حول الجامع والسوق ومركز السلطة، وإنما استجابت لنموذج عمراني يصفه المختصون بـ"البناء العمراني العنكبوتيSTRUCTURE URBAINE EN TOILE D’ARAIGNEE . ميزته ضعف التخطيط أو انعدامه وانتشار التجمعات السكانية على شاكلة بقع الزيت. هكذا ظهرت مراكز عمرانية بأكملها في جرجيس مثل السويحل وصانغو وحسّي الجربي والعڤلة وحمادي والمؤانسة والرجاء والسحبي وزيان ..إلخ . ولعل المفارقة في كل ذلك هو التناقض الحاد بين وجود بلدية عريقة احتفت بمئويتها الأولى منذ ما يناهز العشرين سنة خلت، وبين مدينة تعيش انحرافا عمرانيا كليا متأتّ من عجز تلك المؤسسة على السيطرة على الفضاء بفعل إرادي أو غير إرادي. قد يبدو الأمرُ مبالغا فيه، ولكني لا أملك إلا أن أدعو إلى زيارة المدينة عن طريق قوقل– إرث GOOGLE-EARTH فسيُكشَف النقابُ عن بقع الزيت التي عرفت تناميا لا متناهيا بعد أن تكاثرت بشكل عشوائي مثير للفزع. ولنُسمّ الأشياءَ بأسمائها، إنها أحياء متناثرة هنا وهناك هي أقرب للأحياء الفوضوية فاقدة كافة أنواع التخطيط والتهيئة، ميزتها الأزقّة الضيقة والمسالك المعوجة التي يصعب فيها المرور ناهيك عن تدخل سيارة إسعاف أو حماية مدنية في حالات الضرورة. وهي فاقدة لا محالة للكثير من المرافق من طرق إسفلتية وقنوات تطهير، مما حول جنان التين واللوز والعنب الفردوسية العكارية إلى أراض تلوثتْ موائدُها المائية بسبب آبار القمامة والفضلات التي لا تنضب. الإسمنت المسلح حلّ محلّ تلك الجنان واستشرى كالنار في الهشيم. محاكاة يقودها جشع في الظهور عديم المعنى. إسمنت فاقد لكل جمالية محتملة، هو خليط من الأنماط والأذواق والتمثلات الوافدة من كل حدب وصوب، اختلط فيها معمار مختلف القارات، الهندي يتعايش مع الأوربي مع الإفريقي هذا يأخذ من ذاك كلهم مجتمعون بجرجيس بدون سابق ميثاق. فلا هو نمط معماري عربي– إسلامي ولا هو بالقوطي المسيحي ولا بالشرقي ولا بالغربي، إنه خليط من هنا وهناك. بناءات شاهقة محاطة بأسوار تعكس نرجسية البروز فاقد المقوّمات. التقت على عدم التناغم والانسجام. شيدت على مرأى ومسمع من ذي قدرة قدير. استنادا إلى قاعدة قديمة "دعه يعمل دعه يمرّ". إنها سلطة المال الذي لا سلطة لسواه. مال عديم المسؤولية تجاه ما هو عمومي مشترك، تجاه بنية أساسية متداعية، طرقات وأرصفة ومبانٍ عمومية هي في أشدّ الحاجة للصيانة.
إرث ثقيل من اللامعنى ، تدشينه جاء بعد الاستقلال مباشرة عندما قرر أول مجلس بلدي إزالة البرج الحسيني القلعة القديمة التي يروي حجرها تاريخ الأرض والبشر. أُردف ذلك بضريح السيد جرجيس المزار القديم الذي منح اسمَه للمكان. كل ذلك تم تحت شعار التحديث والتخلص من مخلفات الاستعمار !!! مما أفقد المدينة روحها وذاتيتها التي كانت تعطيها هويّة بها تفتخر وتتباهى. والآن بعد نصف قرن من ذلك الحدث تساق محاولات الترميم مشوهة فاقدة لجمالية مبتغاة أفسدتها مدافع بلاستيكية هجينة إنتصبت على أسوار مصطنعة، على أنقاض مدافع حقيقية إستخدمت في الدفاع عن برجي جرجيس والبيبان .
مدينة مترامية الأطراف كشفت الفيضانات الأخيرة عن هشاشتها بعد أن تحولت بقع الزيت- أحياء المدينة إلى جزر تحاصرها المياه من كل جانب حتى كاد الأمر أن ينتج كوارث طبيعية. كوارث يحميها غياب تهيئة شاملة تتجاوز ما أنتج بعد فيضانات 1969 المقتصرة آنذاك على مركز المدينة دون أطرافها. مدينة هتكت سترها آفة جديدة لم تعرفها من قبل. جرذان مسممة رمت بها سفينة قادمة من بلد إسكندنافي محملة بالخشب لفائدة شركة تجارية أجنبية. جرذان انتشرت بسرعة خيالية، عددها يتضاعف آلاف المرات في السنة الواحدة. آثارها التخريبية لا تستثني بشرا أو حيوانا أو شجرا أو حجرا. أطفال ونساء ورجال وقطعان ومحاصيل يصيبها الأذى القاتل أحيانا. ما كان لهذه الآفة أن تنتشر لو لا ما أصاب البيئة من إثم وما أصاب النمط العمراني من عشوائية عنكبوتية ومن صروح فوضوية ومسالك رسمتها الدواب يوما تحولت إلى طرقات، ومن أسوار حاصرت الطبيعة وأفقدتها عذريتها ومباني خربة محرومة من الصيانة أو الاستبدال، ومن مزابل متأتية من الأوساخ المتدفقة من البيوت والقصور المرفّهة إلى الشوارع الرثّة.
في جرجيس ظهرت أولى المدارس الابتدائية التي عرفتها تونس، مدرسة الذكور 1887، مدرسة الفتيات 1906. وتواصلت الجهة مع خارجها ومع ذاتها قبل ذلك بسنين، فأسست محطة للتلغراف في 1875 سرعان ما تحولت إلى مركز للبريد والبرق والهاتف سنة 1886. واحتضنت بعثتين قنصليتيْن لكل من فرنسا وأنقلترا منذ سنة 1885. وقد كانت المدينة الأولى في كل تلك الميادين في الجنوب التونسي. إن رمزية كل ذلك تكمن في احتضان العلم ودُورِهِ المؤسِّسة والتواصل مع الآخر منذ فترة مبكرة مقارنة بغيرها. عشرات المؤسسات التعليمية الابتدائية والثانوية تنتشر اليوم في شبه الجزيرة، يقابلها تهميش لفضاء الكتاب. فالمكتبة العمومية اليتيمة التي يؤمّها مئات تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات لا يتجاوز رصيدها 13 ألف كتاب كثير من عناوينها مكررة ولا تفوق طاقة استيعابها 79 مقعدا. تهميش يشمل نصيب تلك الجهة من المؤسسات الجامعية وحق أبنائها في الدراسة في مواطنهم شأنهم في ذلك شأن الكثير من أقرانهم وزملائهم حيث حظوظ النجاح لديهم أوفر نصيبا. ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لفضاءات الترفيه والحدائق العمومية إذ لا مكان لها ضمن سلّم الأولويات، ولبعض الأنشطة الثقافية والفنون لاسيما دار السينما الوحيدة التي تحولت إلى خراب مظلم قاتم تملؤه الأفاعي والجرذان دون التفكير في إعادة تهيئتها وبعثها للحياة من جديد. أما المسرح فقد اختير له أن يكون موسميا وصيفيّا بالأساس ناهيك عن غياب فرقة مسرحية محلية تسنده وغياب شبه كامل لتدريس ولنوادي المسرح والموسيقى في المؤسسات التربوية. كما لا تزال بعض المهرجانات وخاصة مهرجان الإسفنج تسبح في محليتها الضيقة بالرغم من إعلانها تظاهرات وطنية ولم تستطع الوصول إلى العالمية على الرغم من مجايلتها لبعض المهرجانات الكبرى مثل قرطاج وأوسّو. أما الأنشطة الفكرية من منتديات وملتقيات وعلى الرغم من النجاحات التي حققه بعضها ( أنشطة اللجنة الثقافية المحلية مثل ملتقى الحارث مزيودات ومنتدى نور الدين سريب 8 دورات ونشر 4 كتب) فإن الغموض يكتنف مصيرها بسبب قلّة ما يرصد لها من أموال وإمكانيات. وتزخر المدينة الزمرّدة بعدد لافت من الجمعيات ولكن أثرها يكاد يكون منعدما إذا ما استثنينا معرض جمعية الفنون التشكيلية الصيفي والدور الذي تلعبه جمعية ترجي جرجيس التي يرصد لها النصيب الأوفر من المال المحلي مقارنة بغيرها . ولابد من الإشارة إلى ما يعانيه القطاع الصحي من فقدان للتجهيزات الضرورية وللإطار الطبي المتخصص مما ينجرّ عنه هدر أموال كبيرة لفائدة القطاع الخاص ومعاناة مضاعفة بسبب البحث عن العلاج المناسب الذي يستدعي اختراق المسافات ، ناهيك عن ضريبة ذلك من الخسائر البشرية.
خلاصة فإن جرجيس المنطقة الثرية بتراثها وثرواتها وتجربتها وإشعاعها في أشد الحاجة إلى تجديد عقولها المفكرة وتغيير نظرة أبنائها لما هو عمومي ، وفي دعم الخواص والمستثمرين – أكبر المستفيدين - للفضاء العام في مختلف المجالات لاسيما ما هو ثقافي وعلمي، وهي في حاجة إلى إعادة النظر في تركيبتها الإدارية والتنظيمية فما عادت تحتمل البلدية الواحدة والمعتمدية الواحدة والمستشفى الواحد ...إلخ إنها في حاجة إلى التقسيم وإعادة التنظيم على غرار جهات كثيرة أقل كثافة وأهمية.
طمثتها الآثام
د.سالم لبيض
جامعة تونس المنار
اسم ضارب في القدم ، ورد في كتاب المؤرخ البيزنطي بروكوب Procope في القرن السادس الميلادي . اسم شخص تحول إلى تسمية لمدينة. هي إحدى مدن ثلاث – زيطا وقنطرتها وجرجيس – شهدتها شبه الجزيرة المعروفة بدخلة عكارة نسبة إلى القبيلة التي استوطنتها منذ نهاية القرن السادس عشر الميلادي . الطبع غلب التطبع فاستقرت التسمية على أصولها الجغرافية بدل القبلية.
كانت قرية صغيرة عندما زارها الضابط الفرنسي دوبراي DUBREUIL أول مرة سنة 1917 وأخذ الصورة الفضائية التي كادت أن تأتي على جميع المعالم المميزة للمكان . لم يكن الرجل ضابطا استعماريا تقليديا . سيرته الذاتية تروي خصالَه الفذة. لقد أثمرت تجربته مع ذلك المكان عملا روائيا بعنوان "شبه الجزيرة الإفريقية La presqu'île africaine " أطلق فيه تسمية "الزمرّدة الصغيرة" على الأرض التي اختارها موطنا لبقية حياته ومماته (1917 -1960)، بعد أن اجتباها من بين أراض كثيرة مكنته من زيارتها رحلته لإفريقيا سنة 1924 " la croisière noire citroën" وآسيا سنة 1932la croisière jaune citroën"". لم تطلق الصفة جزافا ولا هي من باب المصادفة . فقد حكمتها ثلاثية لا تلتقي أبدا إلا نادرا، البحر والواحة وغابة الزيتون. اختيار فيه اجتذاب للماضي واستعادة للتاريخ. خيار سبقه إليه "عكارة" حينما احتموا أول مرة بالبرج الحسيني وأسسوا حذوه جامع الحصار والقصور التاريخية حمّالة أسماء العروش . لم يكونوا على دراية بأنهم روّاد فعل تاريخي ثمرته ستكون تلك المدينة الزمرّدة. سبق يحيل على ارتباط وثيق بالأرض والتاريخ، لا يعوزه ذوق سليم في الاختيار ورؤية حصيفة في النظر إلى الآتي. جرجيس مركز استقطاب للمجموعات على مرّ التاريخ، مدينة دائمة الاتساع. سكانها عرب وعجم. مسلمون ومسيحيون ويهود، لم يتجاوز عددهم الأربعة آلاف سنة 1886، ناهزت اليوم الثمانين ألف يتضاعفون ثلاثا في موسم الصيف دون أن يؤودها ذلك. استقطاب أسراره كامنة لا يعلمها سوى الراسخة أقدامهم في أرضها. اصطفاها الله بمناخ معتدل فلا هي بالباردة شتاء ولا بالحارة صيفا. مواردها عديدة. غابة زيتون تناهز المليون وربع. بحر بسمكه وإسفنجه المتميّز، نشاط سياحي متنام. انفتاح على الآخر متقادم مستحدث أنجب حركة هجرة وجذب متوازيين سمتهما الرئيسية التعايش والثراء. ثروة بترولية هامة تحيل نيرانها المحترقة في سماء جرجيس على قول شاعر قديم " مَا بِڤْصِتْ نَارْ فِي جْفَارَهْ كَانْ نَارْ عَكَّارَهْ". النار القديمة تنوّه بكرم أهل المنطقة وتذكّر بخصالهم الطائية، أما نارهم الجديدة فرمزيتها تكمن في انفتاحهم على الاقتصاد الكوني المعولم منبعثا من رماد الأرض ذاتها التي لم تكن تنتج يوما سوى الكفاف. حركة تجارية لا متناهية استفادت من انفتاح على البحر يرجع إلى أزمنة غابرة، ثماره منطقة حرّة وميناء تجاري سفنه رواسٍ لا تتزحزح إلا محمّلة بما لذّ وطاب من رحيق الثروات. أرضية اقتصادية صلبة تلك التي افترشتها مدينتنا مما استوجب عقلنة أنشطتها وتنظيمها عبر مؤسسة تنتزع حقّها وترسّخ إيطيقاها وشرعيتها بعيدا عن نزوات الأفراد، ولها في إرث زيطا القديم سبق ودليل .
أُحدِثت بلدية جرجيس سنة 1889، اسمها الأول "مجلس الطرقات"، لم يكن مجال تدخلها يتجاوز ما يعرف تاريخيا "بقصر الشلبة" مركز المدينة الحالي. ولكن الأمر لم يلبث كثيرا فتحولت جرجيس بأكملها منطقة بلدية ينظمها مجلس بلدي ومجموعة من الدوائر. ميزة جرجيس أنها نشأت وامتدت أفقيا حتّى أنها لم تعرف الامتداد العمودي إلا فيما قلّ. بناء اتسم بالإنسيابية، لم تستجب المدينة في تطورها التاريخي لنموذج المدينة العربية الإسلامية المتمركزة حول الجامع والسوق ومركز السلطة، وإنما استجابت لنموذج عمراني يصفه المختصون بـ"البناء العمراني العنكبوتيSTRUCTURE URBAINE EN TOILE D’ARAIGNEE . ميزته ضعف التخطيط أو انعدامه وانتشار التجمعات السكانية على شاكلة بقع الزيت. هكذا ظهرت مراكز عمرانية بأكملها في جرجيس مثل السويحل وصانغو وحسّي الجربي والعڤلة وحمادي والمؤانسة والرجاء والسحبي وزيان ..إلخ . ولعل المفارقة في كل ذلك هو التناقض الحاد بين وجود بلدية عريقة احتفت بمئويتها الأولى منذ ما يناهز العشرين سنة خلت، وبين مدينة تعيش انحرافا عمرانيا كليا متأتّ من عجز تلك المؤسسة على السيطرة على الفضاء بفعل إرادي أو غير إرادي. قد يبدو الأمرُ مبالغا فيه، ولكني لا أملك إلا أن أدعو إلى زيارة المدينة عن طريق قوقل– إرث GOOGLE-EARTH فسيُكشَف النقابُ عن بقع الزيت التي عرفت تناميا لا متناهيا بعد أن تكاثرت بشكل عشوائي مثير للفزع. ولنُسمّ الأشياءَ بأسمائها، إنها أحياء متناثرة هنا وهناك هي أقرب للأحياء الفوضوية فاقدة كافة أنواع التخطيط والتهيئة، ميزتها الأزقّة الضيقة والمسالك المعوجة التي يصعب فيها المرور ناهيك عن تدخل سيارة إسعاف أو حماية مدنية في حالات الضرورة. وهي فاقدة لا محالة للكثير من المرافق من طرق إسفلتية وقنوات تطهير، مما حول جنان التين واللوز والعنب الفردوسية العكارية إلى أراض تلوثتْ موائدُها المائية بسبب آبار القمامة والفضلات التي لا تنضب. الإسمنت المسلح حلّ محلّ تلك الجنان واستشرى كالنار في الهشيم. محاكاة يقودها جشع في الظهور عديم المعنى. إسمنت فاقد لكل جمالية محتملة، هو خليط من الأنماط والأذواق والتمثلات الوافدة من كل حدب وصوب، اختلط فيها معمار مختلف القارات، الهندي يتعايش مع الأوربي مع الإفريقي هذا يأخذ من ذاك كلهم مجتمعون بجرجيس بدون سابق ميثاق. فلا هو نمط معماري عربي– إسلامي ولا هو بالقوطي المسيحي ولا بالشرقي ولا بالغربي، إنه خليط من هنا وهناك. بناءات شاهقة محاطة بأسوار تعكس نرجسية البروز فاقد المقوّمات. التقت على عدم التناغم والانسجام. شيدت على مرأى ومسمع من ذي قدرة قدير. استنادا إلى قاعدة قديمة "دعه يعمل دعه يمرّ". إنها سلطة المال الذي لا سلطة لسواه. مال عديم المسؤولية تجاه ما هو عمومي مشترك، تجاه بنية أساسية متداعية، طرقات وأرصفة ومبانٍ عمومية هي في أشدّ الحاجة للصيانة.
إرث ثقيل من اللامعنى ، تدشينه جاء بعد الاستقلال مباشرة عندما قرر أول مجلس بلدي إزالة البرج الحسيني القلعة القديمة التي يروي حجرها تاريخ الأرض والبشر. أُردف ذلك بضريح السيد جرجيس المزار القديم الذي منح اسمَه للمكان. كل ذلك تم تحت شعار التحديث والتخلص من مخلفات الاستعمار !!! مما أفقد المدينة روحها وذاتيتها التي كانت تعطيها هويّة بها تفتخر وتتباهى. والآن بعد نصف قرن من ذلك الحدث تساق محاولات الترميم مشوهة فاقدة لجمالية مبتغاة أفسدتها مدافع بلاستيكية هجينة إنتصبت على أسوار مصطنعة، على أنقاض مدافع حقيقية إستخدمت في الدفاع عن برجي جرجيس والبيبان .
مدينة مترامية الأطراف كشفت الفيضانات الأخيرة عن هشاشتها بعد أن تحولت بقع الزيت- أحياء المدينة إلى جزر تحاصرها المياه من كل جانب حتى كاد الأمر أن ينتج كوارث طبيعية. كوارث يحميها غياب تهيئة شاملة تتجاوز ما أنتج بعد فيضانات 1969 المقتصرة آنذاك على مركز المدينة دون أطرافها. مدينة هتكت سترها آفة جديدة لم تعرفها من قبل. جرذان مسممة رمت بها سفينة قادمة من بلد إسكندنافي محملة بالخشب لفائدة شركة تجارية أجنبية. جرذان انتشرت بسرعة خيالية، عددها يتضاعف آلاف المرات في السنة الواحدة. آثارها التخريبية لا تستثني بشرا أو حيوانا أو شجرا أو حجرا. أطفال ونساء ورجال وقطعان ومحاصيل يصيبها الأذى القاتل أحيانا. ما كان لهذه الآفة أن تنتشر لو لا ما أصاب البيئة من إثم وما أصاب النمط العمراني من عشوائية عنكبوتية ومن صروح فوضوية ومسالك رسمتها الدواب يوما تحولت إلى طرقات، ومن أسوار حاصرت الطبيعة وأفقدتها عذريتها ومباني خربة محرومة من الصيانة أو الاستبدال، ومن مزابل متأتية من الأوساخ المتدفقة من البيوت والقصور المرفّهة إلى الشوارع الرثّة.
في جرجيس ظهرت أولى المدارس الابتدائية التي عرفتها تونس، مدرسة الذكور 1887، مدرسة الفتيات 1906. وتواصلت الجهة مع خارجها ومع ذاتها قبل ذلك بسنين، فأسست محطة للتلغراف في 1875 سرعان ما تحولت إلى مركز للبريد والبرق والهاتف سنة 1886. واحتضنت بعثتين قنصليتيْن لكل من فرنسا وأنقلترا منذ سنة 1885. وقد كانت المدينة الأولى في كل تلك الميادين في الجنوب التونسي. إن رمزية كل ذلك تكمن في احتضان العلم ودُورِهِ المؤسِّسة والتواصل مع الآخر منذ فترة مبكرة مقارنة بغيرها. عشرات المؤسسات التعليمية الابتدائية والثانوية تنتشر اليوم في شبه الجزيرة، يقابلها تهميش لفضاء الكتاب. فالمكتبة العمومية اليتيمة التي يؤمّها مئات تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات لا يتجاوز رصيدها 13 ألف كتاب كثير من عناوينها مكررة ولا تفوق طاقة استيعابها 79 مقعدا. تهميش يشمل نصيب تلك الجهة من المؤسسات الجامعية وحق أبنائها في الدراسة في مواطنهم شأنهم في ذلك شأن الكثير من أقرانهم وزملائهم حيث حظوظ النجاح لديهم أوفر نصيبا. ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لفضاءات الترفيه والحدائق العمومية إذ لا مكان لها ضمن سلّم الأولويات، ولبعض الأنشطة الثقافية والفنون لاسيما دار السينما الوحيدة التي تحولت إلى خراب مظلم قاتم تملؤه الأفاعي والجرذان دون التفكير في إعادة تهيئتها وبعثها للحياة من جديد. أما المسرح فقد اختير له أن يكون موسميا وصيفيّا بالأساس ناهيك عن غياب فرقة مسرحية محلية تسنده وغياب شبه كامل لتدريس ولنوادي المسرح والموسيقى في المؤسسات التربوية. كما لا تزال بعض المهرجانات وخاصة مهرجان الإسفنج تسبح في محليتها الضيقة بالرغم من إعلانها تظاهرات وطنية ولم تستطع الوصول إلى العالمية على الرغم من مجايلتها لبعض المهرجانات الكبرى مثل قرطاج وأوسّو. أما الأنشطة الفكرية من منتديات وملتقيات وعلى الرغم من النجاحات التي حققه بعضها ( أنشطة اللجنة الثقافية المحلية مثل ملتقى الحارث مزيودات ومنتدى نور الدين سريب 8 دورات ونشر 4 كتب) فإن الغموض يكتنف مصيرها بسبب قلّة ما يرصد لها من أموال وإمكانيات. وتزخر المدينة الزمرّدة بعدد لافت من الجمعيات ولكن أثرها يكاد يكون منعدما إذا ما استثنينا معرض جمعية الفنون التشكيلية الصيفي والدور الذي تلعبه جمعية ترجي جرجيس التي يرصد لها النصيب الأوفر من المال المحلي مقارنة بغيرها . ولابد من الإشارة إلى ما يعانيه القطاع الصحي من فقدان للتجهيزات الضرورية وللإطار الطبي المتخصص مما ينجرّ عنه هدر أموال كبيرة لفائدة القطاع الخاص ومعاناة مضاعفة بسبب البحث عن العلاج المناسب الذي يستدعي اختراق المسافات ، ناهيك عن ضريبة ذلك من الخسائر البشرية.
خلاصة فإن جرجيس المنطقة الثرية بتراثها وثرواتها وتجربتها وإشعاعها في أشد الحاجة إلى تجديد عقولها المفكرة وتغيير نظرة أبنائها لما هو عمومي ، وفي دعم الخواص والمستثمرين – أكبر المستفيدين - للفضاء العام في مختلف المجالات لاسيما ما هو ثقافي وعلمي، وهي في حاجة إلى إعادة النظر في تركيبتها الإدارية والتنظيمية فما عادت تحتمل البلدية الواحدة والمعتمدية الواحدة والمستشفى الواحد ...إلخ إنها في حاجة إلى التقسيم وإعادة التنظيم على غرار جهات كثيرة أقل كثافة وأهمية.