الأحد، 16 يناير 2011

سيدي بوزيد والقصرين.. بين اعلام المخزن واعلام السيبة مقال كتبناه يوم 11 جانفي 2011

سيدي بوزيد والقصرين..
بين إعلام المحزن وإعلام السيبة
أ.د.سالم لبيض
أستاذ محاضر في علم الاجتماع
جامعة تونس المنار
labiadhsalem@yahoo.fr
مفهومان نستعيرهما من حقل النظرية التاريخية لفهم ظاهرة اجتماعية كثيرا ما صنفت ضمن ظواهر ما بعد الحداثة بالرغم مما يبدو في ذلك من غرابة ومفارقة. الأول يحيل على مجالات تدخل الدولة وسيطرتها وإخضاعها لرعاياها من القبائل والعروش والمجموعات طوعا أو كرها لتدفع الجباية صاغرة سواء كانت قادرة على ذلك أو عاجزة، والثاني يحيلنا على المناطق التي أفلتت من رقابة تلك الدولة فبات أهلها في حل من أداء المجبى إلا أن تُجيش لهم قوات عسكر المحلّة فيؤدي الضريبة من يقع في براثنها مالا أو سجنا. هذا هو القانون الذي يحكم الظاهرة الإعلامية اليوم، إعلام المخزن هو إعلام الدولة، وإعلام السيبة هو لسان حال الأفراد والمجموعات من جمعيات ونقابات وأحزاب وتنظيمات أو هو إعلام المجتمع برمته ..الخ، وفي حين يسند الإعلام المخزني تدخل الدولة ونشر أيديولوجتها ويساعدها على القيام بوظيفتها بوصفها جهازا يشترك فيه الجميع ويعبر عن إرادتهم في الدول التي تعتمد مبدأ المشاركة والتداول، فإنه يتحول إلى جهاز للدعاية والهيمنة والتزييف في نظيراتها التي يعوزها ذلك. إن إعلام السيبة هو الذي أفلت من رقابة الدولة ومن تدخل أجهزتها وهو المعبر عن تلك المجموعات المكونة للمجتمع المدني والسياسي المذكورة سلفا وهو أداتها في التأثير وفي الدعاية المضادة وفي الحيلولة دون تغوّل جهاز الدولة ووسائلها التنفيذية وبالتالي خروجها عن الرقابة والسيطرة.
لقد احتكرت الدولة المشهد الإعلامي في تونس لمدة تزيد عن النصف القرن وكان التلفزيون هو الجهاز العجيب الذي يستخدمه رجل السياسة أو هو يحتكره لبث الخطاب الذي يمهد الطريق أمام تنفيذ سياساته ومخططاته وبقائه في السلطة وإنه في ذلك لساحر. وهذا السحر شمل كذلك شريحتين أغدقت عنهما الدولة ومؤسسة الحكم من عطاياها الإعلامية والمالية فتمتعت بالمزايا الموهبة لتكتمل الصورة التلفزيونية التونسية ثلاثية الأبعاد حكما وكرة وغناء، ولا يجد المتابع البسيط للمشهد التلفزيوني التونسي عناء في إدراك تلك الثلاثية بوصفها تجسيدا لاحتكار الفضاء الإعلامي وخاصة التلفزيوني منه. وكثيرا ما كنا نسمع في أوساط المثقفين والأكاديميين صرخات الاحتجاج والتذمر من هذا الاختراق الذي جعل من تلفازنا الوطني صوتا واحدا ووحيدا للحكومة و"المزاودية" و"الكوارجية"، وحتى لا يفهم من تعوزه وسائل الفهم أن الأمر يتعلق بالعداء لتلك الشرائح نشير فقط إلى أن ذلك التذمر مأتاه الاحتكار الذي تمارسه مؤسسة ما كان لها لتبقى وتستمر لو لا المجبى القسري المفروض على من يشاهدها، ولا يشاهدها، فأنت تدفع ضريبة التلفزيون أردت ذلك أم أبيت مرة كل شهرين ضمن فاتورة الكهرباء ويمكن أن تدفعها مرتين وثلاث وأربع .. إذا كنت مالكا لأكثر من عداد كهربائي في متجر أو مصنع أو غيره، أليست تلك صفة مخزنية صرفة؟ فليكن ذلك، فهو واجب وطني ! يؤديه القادر والمحروم سواسية، لكن أليس من واجب القائمين على التلفزيون إدراك هذه الحقيقة وبالتالي تعميم صفة المشاركة التلفزيونية ليكون التلفزيون لسان حال المجتمع ونخبه من جامعييه ومفكريه ونقاده وسياسييه خارج دوائر الحكم؟ أليست تلك صفات التلفزيون في كثير من الدول الغربية وحتى غير الغربية التي تعطي للمشاركة معنى؟ أليس رجال الفكر ومختلف النخب أولى من "الكوارجية" و"المزاودية" بالفضاء التلفزيوني والإعلامي عموما ؟ نعتقد أن هامش الحرية الذي منحه السياسي لهؤلاء كان سيفضي إلى نقاش اجتماعي وسياسي متميز لو أن المساحة نفسها خصصت لقضايا الشأن العام التي لا يستطيع الحديث فيها سوى نخبة البلد، ولنأت مؤسسة الحكم بنفسها على تحمل مسؤولية هذه الظاهرة الفريدة التي لم يعرف العالم نظيرا لها وهي الانتحار حرقا كرد فعل على البطالة والتهميش الناتج عن سياسات الحكومة وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية، وهي في واقع الأمر عنوان خواء إعلامي لم يستطع ملأه كل من الإعلام "الكروي" والإعلام "المزاودي" اللذان عُهد لهما بذلك الدور. ولنسمي الأشياء بمسمياتها فنقرّ بأن الهدر المالي والإعلامي والزمني الذي مارسه التلفزيون الوطني وبقية وسائل الإعلام لفائدة الشرائح المحتكرة للتلفزيون التي ذكرناها سابقا لم يق أو يستبق أو حتى يشخص العوامل التي أدت إلى نشوب أحداث سيدي بوزيد والقصرين التي باتت عنوان بلد بكامله ولا ندري إلى ما ستفضي لاحقا. وينسحب الأمر على التلفزيونات والإذاعات التي نشأت في السنوات الأخيرة وأسماؤها كثيرة من حنبعل إلى نسمة إلى موزييك إلى جوهرة إلى شمس إلى الزيتونة إلى الإكسبريس والقائمة مفتوحة، كلها وان ادعت التعبير عن التعدد والتنوع الإعلامي وعن الاختلاف فقد كانت خارج مشهد سيدي بوزيد وتالة والقصرين وتدعياته، بل هي خارج مشهد المجتمع برمته لغة وقيما وهوية ورسالة إعلامية، وهي تدرك وتتابع كل شاردة وواردة في ذلك المشهد ولكنها تخلت عن وظيفتها في الأعلمة لأنها وببساطة نشأت نشأة مخزنية فلم تستطع الخروج عن المقاربة التي اختارتها الدولة لنفسها في المعالجة، مقاربة حجب الحقائق وتظخيم المعطيات والمؤشرات وانتهاج أسلوب التعويم الإعلامي، المفارقة في كل ذلك هو أن هذه الوسائل والتعبيرات الجديدة تصنف نفسها على أنها مستقلة ومحايدة ومعولمة وهي بذلك عنوان ليبرالية إعلامية تحاكي نظيراتها الغربية وخيارات البلاد الاقتصادية والسياسية، ولا يحكمها سوى قانون المنافسة وفق الميثاق الأخلاقي للعمل الإعلامي، فإذا بعضها يتحول إلى أداة إدانة لحركة مجتمع بكامله لم تخل منها قرية ولا مدينة، تطالب ببعض الحقوق المكفولة دستوريا مثل حق الشغل وحق التجمع والتظاهر والتعبير وأخرى في منتهى القانونية مثل التوزيع العادل للثروة والتنمية الجهوية المتوازنة. كما تجد تلك المكونات الإعلامية نفسها في مواجهة قطاعات وشرائح من المجتمع هم المؤتمنون على تربية أبنائهم من مدرسين بأصنافهم، وأخرى مؤتمنة للدفاع عن الحقوق وهنا نحيل على قطاع المحامين الذي انخرط بصفة مكثفة في الحركة الاجتماعية الجديدة. وقد بلغ الأمر أوجه عندما بررت إطلاق الرصاص على العزل من الأفراد وإرداء البعض منهم قتلى رغم أن ما تم حرقه لا يساوي نفسا واحدة مهما بلغ حجمه دون أن يكون ذلك تبريرا للحرق والإضرار بالممتلكات العامة أو الخاصة، ووصفهم بأنهم مجموعات مهاجمة من الإرهابيين والملثمين، وهذه المجموعات كثيرا ما كانت مدينة بأكملها كما بدا ذلك ظاهرا في تالة والقصرين والرقاب وجندوبة. فالأمر يتعلق بحركة اجتماعية تستبطن واقع مجتمع بحاله وتنشد تغييره إلى الأفضل، ذلك ما كشفه الإعلام البديل أو إعلام السيبة كما اخترنا تسميته، فهو إعلام سائب بكل المقاييس، ليس بسبب خروجه عن مجالات الرقابة والتدخل فحسب وإنما بسبب قدرته على أن يكون الإعلام البديل لما تبثه الدولة التي كثيرا ما روجت لحرية الإعلام واستقلاله عنها حتى أنها قامت بحل وزارة الإعلام المتولية لذلك الشأن قبل أن تنشأ بديلا مغلّفا لها هو وزارة الاتصال. وفي ظل الفراغ الإعلامي الناجم عن سياسة التجاهل والتعتيم الرسمية لما تشهده الجهات من أزمة اجتماعية حقيقية وحركة احتجاجية لم يُعرف لها نظير منذ ما يناهز ربع قرن وجد الإعلام السائب الأرضية المناسبة ليملأ ذلك الفراغ ويسدّ ذلك الخواء. ففي سيدي بوزيد وقراها وفي القصرين ومعتمدياتها ومختلف المدن والمناطق المحتجة والمنتفضة من جنوب البلاد إلى شمالها ومن غربها إلى شرقها لم نر مراسلا واحدا لقناة أجنبية أو محلية، لم نر مراسلي رويتر أو فرانس براس أو وكالة تونس إفريقيا للأنباء أو غير ذلك ولم نر مبعوثي الجزيرة أو فرانس 24 أو قناة الحرة أوالبيبسي ولم نشاهد مكاتب وبيانات وتغطيات وصحفيين محترفين وأجهزة كبيوتر وكمراهات وأضواء مثلما شاهدنا ذلك في قمة مجتمع المعلومات وفي افتتاح السنة الدولية للشباب وفي المناسبات الكبرى كالانتخابات. وإلى حد هذا المستوى قد يكون الأمر مقبولا أو مبررا، أما أن لا نرى ولا نسمع عن وجود تونس سبعة ونظيراتها وتغطية تلك الأحداث وتحليلها وفق رؤية وطنية متعددة الأوجه والآراء، فهذا يعني أن التلفزيون الوطني قد أصابه نوع من الموت السريري، أوهو الموت الحقيقي بعد أن صار قتل الفقراء والجوعى قابلا للتبرير، ليفسح المجال أمام الإعلام الجديد والتلفزيون الجديد مرّة واحدة، أمام الشبكة العنكبوتية التي تتسع للجميع، أمام اليوتوب والتويتر والفايسبوك والسكايب وهي الفضاءات القابلة للولوج أمام كل من يرغب في ذلك. هي فضاءات عمومية افتراضية لكنها تمتلك قدرة لا متناهية على تخزين وبث كل ما يدور في الواقع اليومي للناس مهما كانت مراتبهم الاجتماعية والسياسية سواء كان ذلك في شكل بيانات أو صور أو فيدوهات وسواء كان ذلك مباشرة أو بصفة غير مباشرة. وهذا الصنف من المادة الإعلامية لا يحتاج إلى مبان ضخمة هي بمثابة القلاع المحصنة كما هو أمر تلفزيوننا الوطني، ولا يتطلب تكنولوجية دقيقة باهظة الثمن ولا مصورين وصحفيين محترفين قادرين على ترويج ما يرونه صالحا للترويج واستبعاد ما يعتقدون أنه مفسدة للعباد والبلاد. إن هذا الإعلام السائب سلاحه هاتف محمول مرتبط مباشرة بشبكة النت أو هو قابل تقنيا للارتباط بها، صحفييه هم من صناع الأحداث اليومية ينقلونها مادة خاما على سليقتها دون تحسين أو تزويق أو مقص أو رقابة وأحيانا هم ضحاياها، وهذا ما جعله جديرا بأن يحظى بالثقة التي مُنحت له فتحول إلى نوع من الإعلام الشعبي في مقابل إعلام الحكومة أو الدولة، بل هو اليوم مصدر إعلام كثير من الحكومات والتلفزيونات. ولقد بينت أحداث سيدي بوزيد والقصرين وما تلاها في مختلف المناطق وحتى في الجزائر أن هذا النوع من الإعلام لا يصنع الحدث السياسي والدبلوماسي فحسب وإنما هو العين التي لا تنضب في ما تبثه كبرى القنوات التلفزيونية المتربعة على عرش إمبراطورية الإعلام في العالم، وهو قادر لعمري على الإطاحة بحكومات بأكملها إذا لم تقرأ الدرس جيدا، ناهيك أن بعضها فشل فشلا ذريعا في وضعه تحت سلطة الرقيب لأن ذلك يقتضي فك الارتباط مع شبكة النت نهائيا وهذا محال اليوم لأن الشبكة باتت عصب الاقتصاديات الوطنية والعالمية والمؤسسات المالية، وشريان حياتها، وإن الدولة التي تريد أن يشملها الانتحار عليها أن تقوم بذلك.

الخميس، 30 ديسمبر 2010

أحداث سيدي بوزيد... من أجل أن تبقى شأنا وطنيا صرفا مقال منشور بجريدة الوطن بتاريخ 30 ديسمبر 2010

أحداث سيدي بوزيد...
من أجل أن تبقى شأنا وطنيا محضا
أ.د.سالم لبيض
أستاذ محاضر في علم الاجتماع السياسي
جامعة تونس المنار
labiadhsalem@yahoo.fr

ما من شك في أن الاسم لم يعد يتطابق مع المسمى والوقائع لم تعد تتطابق مع العنوان لأن الأحداث وبكل بساطة انطلقت شرارتها من سيدي بوزيد المدينة ومعتمدياتها المجاورة، ولكنها اليوم عنوان مناطق عديدة مثل القيروان والقصرين ومدنين وصفاقس وتونس العاصمة وسليانة وقفصة والكاف وباجة وبنزرت وحتى سوسة المدينة المحظوظة. ولا نعرف إلى أين ستمتد لاحقا لأن الأسباب التي ولّدتها لا تخلو منها مدينة ولا قرية ولا ريف ولا بادية فأين ما وليت وجهك ستعترضك "فلول" البطالين والمهمشين القابضين على جمر البطالة والفقر والتهميش. نحن نعرف ذلك جيدا لأن طلبتنا وطالباتنا كثيرا ما يستغلون هامش الحوار معهم لإثارة جدوى الدراسة والتعلم في ظل انسداد الآفاق المهنية وتكاثر بل وتضاعف أعداد الخريجين الذين تقذف بهم الجامعات إلى الشوارع دون وجود بصيص أمل في الشغل ولو كان ذلك بعد عدة سنوات، حتى وصل عددهم إلى أكثر من 150 ألف حسب الإحصائيات الرسمية للدولة وحسب الأرقام التي تنشرها بعض الوزارات عند إجراء مناظرة أو فتح خطة لانتداب عون أو مجموعة من الأعوان، ليضاف إليهم 40 ألف خريج حامل للأستاذية أو الإجازة سنويا لا يشتغل منهم إلا النزر القليل ومن بينهم من لا يجد لنفسه مكانا في سلم الشهادات التي تعترف بها المؤسسات العمومية والخاصة ولا يُنتدب أصحابها للعمل إلا بقدرة قادر، وهنا نشير تحديدا إلى خريجي علم الاجتماع الذين تتناثر المواد المشكلة لاختصاصهم في البرامج التربوية دون أن يتولون تدريسها، وفي مختلف المؤسسات دون أن ينتدبون لمعالجتها.
نتساءل من موقعنا بوصفنا من أهل الذكر في شؤون المجتمع وقضاياه هل أن الأمر يتعلق بمجرد حادث معزول قام به شخص لم يمتثل للتراتيب المعمول بها والقوانين المنظمة للحياة العامة فأقدم على حرق نفسه، وآخر اختار الانتحار لأسباب مجهولة، يستغله اليوم من يصطادون في المياه العكرة كما يروج لذلك الإعلام الرسمي؟ إن التحليل والفهم الذي ينشد الموضوعية هو في منأى عمّا يروجه الإعلام الرسمي من خطاب صالح لكل زمان ومكان في تشخيص مثل تلك الأحداث فهو مُنسحب لا محالة على أحداث الخبز لسنة 1984 وما جرى في الرديف سنة 2008 وفي بنقردان سنة 2010 ..، على الرغم من أن ذلك لا يخدم المجتمع ولا مؤسسة الدولة والحكم التي من المفترض أنها تعبيرة من تعبيرات ذلك المجتمع. إن التعريف البسيط لما جرى ويجري في سيدي بوزيد ومدنها وقراها وفي مختلف مناطق البلاد الأخرى هو نوع من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي يفرضه المجتمع من فترة إلى أخرى لتعديل أنساقه وأنظمته وجعلها تشتغل بطريقة سليمة ومتوازنة وقد عرفت البلاد الكثير منه بداية بربيع العربان الذي قاده علي بن غذاهم وصولا إلى الاحتجاجات الراهنة، وهو فعل ناتج عما تقوم به الحركات الاجتماعية والسياسية ومختلف مكونات المجتمع المدني والسياسي من دور تعديلي لوظيفة الدولة بوصفها الجهاز الوحيد الذي يمتلك شرعية استخدام العنف والإكراه واحتكاره. وعندما تُفكك قوى الحركة الاجتماعية الجديدة المنبعثة من قفصة والرديف ثم من برقردان وصولا إلى سيدي بوزيد وما تلاها، تقابلنا منذ البداية قوة شبابية لا يُستهان بها تبدو من أول وهلة أنها عفوية وغير منظمة وهذا بدوره أمر خطير لأن تلك القوة تنبعث من خارج التوقعات والبرامج والمؤسسات بالرغم من الاستشارات الشبابية والسنة الدولية للشباب وما صاحبها من دعاية لم تعد تقنع الشباب أنفسهم ومن استثمار سياسي بدا مبالغا فيه. ولكن عفويتها تبدو محدودة فهي تمثل قوة احتجاجية لم يفلح في "تدجينها" الخطاب الأيديولوجي والسياسي الرسمي الذي كثيرا ما وصف نفسه بأنه المؤتمن على البلاد والعباد. وهؤلاء الشبان الذين يشعرون بأنهم تحت الضيم مما دفعهم إلى الشوارع والاحتجاج وحتى "التمرد"، لم يتمكن ذلك الخطاب من الحفاظ على وظيفة الوصاية التي يتولاها تجاههم منذ نصف قرن أو يزيد، وهذا درس مهم من الدروس المستفادة. وهذه القوة الشبابية التي تتظاهر هنا وهناك وإن اختارت التظاهر كأسلوب فهي تعبر بذلك عن الوعي بالخلفية المدنية في المطالبة بالحقوق لأن بعض أترابهم وأصدقائهم وأقرانهم في المدرسة والجامعة اختاروا الانتماء إلى تنظيمات القاعدة والجهاديين وتعج بهم السجون والمحاكم والملاحقات ومنهم من لقي حتفه في إحدى الجبهات العسكرية المفتوحة لفائدة كبار اللاعبين الاقتصاديين الدوليين وهو يعتقد أنه يقاتل دفاعا عن إعلاء كلمة الله في الأرض، والبعض الآخر ألقى بنفسه إلى حيتان البحر لتأكله وهو يحلم بالوصول إلى أروبا الجنة المنشودة. فهذا الشكل أي التظاهر والاحتجاج في الشوارع هو دليل خلفية فكرية ناضجة ومعتدلة، ولنقلب الصورة فما رأيكم أيها السادة لو أن هؤلاء الشباب العاطلين عن العمل لسنوات من خريجي الجامعة ومن غيرهم وبدل من التظاهر في الشوارع قام الآلاف منهم بإحراق أنفسهم أو الانتحار على أعمدة الكهرباء وتوزيع صورهم على وسائل الإعلام العالمية فكيف سيكون موقف الحكومة والقائمين على الدولة والمجتمع؟ إن هؤلاء الشباب يتأثرون بدون شك بما يشيعه الإعلام ولهم من الإمكانيات الذهنية التي تمكنهم من تقمص الأيديولوجيا أو الموقف السياسي الذي يبتغون وأن وصفهم بالعفوية التامة هو نوع من الانتقاص من قدراتهم ومن وعيهم ومن إرادتهم بل هو احتقار فاضح لهم ولمطالبهم المشروعة، وهو بالإضافة لكل ذلك نوع من التعسف ضدهم. إن هؤلاء الشباب يعلمون أن تضحياتهم الكبيرة على مقاعد الدراسة لم تمنحهم ما تمنحه ملاعب كرة القدم أو مسارح الأغنية أو المسلسلات التلقزيونية أو بعض الأنشطة الربحية القائمة على المضاربة، لأصحابها من مال وشهرة ودعاية وسلطة وتأثيرا، لكنهم لم يتوقعوا البتة أن الدراسة والجامعة ستتحول إلى نوع من الرذيلة الاجتماعية لأن خريجها باتوا في أدنى سلم التراتب الاجتماعي أو هو سلم القيم قد انقلب إلى ضده. دوافع كثيرة قادت الشبان إلى هذا الفعل الاحتجاجي من أهمها سوء التوازن الجهوي واستشراء التجاذبات الجهوية التي تحولت إلى نوع من مراكز القوى في أوساط أصحاب القرار فأنتجت مشاريع تنموية مختلة لفائدة بعض المدن الساحلية والعاصمة على حساب بقية المناطق في الشمال والوسط والجنوب، وكثيرا ما كانت نتيجة ذلك تفاقم النزوح والهجرة فأُفرغت مناطق بكاملها وعظُمت أخرى وباتت العاصمة(تونس الكبرى) والمناطق الساحلية وصفاقس، تعدُ أكثر من ثلثي البلاد فتتمركز بها الوزارات والإدارات والمستشفيات والمصانع الكبرى وغالبية النزل والجامعات الهامة، كل ذلك في مثلث أضلاعه محددة، وباتت بقية الجهات مجرد مطمور لخدمة ذلك المثلث وتوفير مستلزماته، فما تنتجه من ثروات طبيعية من نفط وغاز وفسفاط وحديد وملح (لا يُعرف حجمها تحديدا) .. ومن منتجات زراعية وفلاحية -ومنطقة سيدي بوزيد أحسن مثال على ذلك- تعود بالنفع على ذلك المثلث لاسيما العاصمة منه لأنها تحتوي المقرات العامة للشركات المستثمرة العمومية منها والخاصة. إن اللافت للانتباه هو طبيعة القوى التي تقف وراء تلك الحركة الاجتماعية التي انتشرت كالنار في الهشيم، فالأمر لا يتعلق بمجرد فعل عفوي لشاب أو مجموعة من الشباب وإن كان منطلقه كذلك، لأن كافة التحركات بدون استثناء قد احتمت بالاتحاد العام التونسي للشغل، وإن تنصلّت قيادته من تبنيها (انظر تصريح عبد السلام جراد الأمين العام للاتحاد إلى جريدة الصباح بتاريخ 28 -12-2010)، فإن النقابات وإطارات وقواعد المنظمة النقابية هم القوة التي أسندت الفعل الاحتجاجي وحولته من رد فعل "عفوي" إلى فعل منظم ولعل ذلك قد وفر الفرصة أمام كثير من النقابات والاتحادات المحلية والجهوية وحتى المركزية للخروج مما يمكن تسميته بالبطالة النقابية وتغيير اتجاه النقاش العام في الوسط النقابي من الداخل ووجهته الفصل العاشر والتداول المشروع على السلطة والمسؤولية، إلى الخارج ووجهته القضايا الاجتماعية المتعلقة بالتنمية والبطالة والتشغيل. وهذا الأمر يكاد ينسحب على الأحزاب السياسية المعارضة بتوجهاتها المختلفة فكافة قواعدها ومناضليها وحتى قيادتها تبدي التعاطف مع الأحداث أو تشارك فيها أو في قيادتها ميدانيا، ولكن بعضها يجد نفسه تحت الضغط الحكومي الداعي إلى عدم المشاركة والتأييد وفي أحسن الأحوال تجاهلها أو التنديد بمن روج لها إعلاميا وخاصة قناة الجزيرة القطرية وتحويلها إلى كبش فداء (بيان الاجتماعي التحرري والاتحاد الديمقراطي الوحدوي والوحدة الشعبية وحزب الخضر بتاريخ 27-12-2010) في حين أن نفس الدور تتولاه قناة الحرة الأمريكية وفرنسا 24 الفرنسية وكثير من القنوات الأخرى، وقد يعود ذلك إلى غياب الإعلام الرسمي عن مسرح الأحداث وتجاهله لما يجري ليحل محله ما بات يعرف بإعلام المواطن الذي ينطلق من ساحات الفعل اليومي إلى القنوات الدولية مباشرة مستخدما وسائط النت، أما البعض الآخر من الأحزاب فقد وجد في الحركة الاحتجاجية مبتغاه واصفا إياها بالانتفاضة والثورة وكأنها الفرصة المتاحة لتصفية حسابات قديمة عالقة مع الحكومة والحزب الحاكم وسياساته. ولكن هذا الاتجاه تدعمه شريحة مهنية ذات تأثير ومصداقية ونقصد بذلك المحامين الذين نظموا أو شاركوا في العديد من المسيرات والاعتصام واصفين تلك المشاركات بأنها عربون دفاع عن الحق وهم الصف الأول للقيام بهذه المهمة، تشهد على ذلك كثير من المحاكم في مختلف الولايات. إن مشاركة النقابات والأحزاب والمحامين يعطي الدليل على أن الحركة الاحتجاجية ليست مجرد فعل معزول أو غوغائي وهي لا تستهدف الحكومة في ذاتها وإن تبنى البعض ذلك الاتجاه وإنما تهدف إلى تغيير السياسات العامة للدولة. وهذه السياسات لم توضع بعد نقاش عام وحقيقي وشفاف شاركت فيه مختلف الأطراف المذكورة سلفا، كما أنها اختيارات رسمت من قبل المقرضين من أمثال الاتحاد الاروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهم وبصماتهم في التفويت في مؤسسات الدولة لتسديد الديون المتخلدة بادية للعيان ومنشورة على مواقع الوزارات مرجع النظر، ناهيك أن المشرفين على وضع تلك السياسات والمشرفين على تنفيذها لم يتغيروا في أغلبهم منذ أكثر من عشريتين وما يعنيه ذلك من عدم بعث روح جديدة ودم جديد يستند إلى أفكار ورؤى مغايرة في جمهور المشرفين على تسيير الدولة الذين هم في حاجة إلى القيام بعملهم في كنف الشفافية والوضوح والخضوع للرقابة الإعلامية والقضائية. لكن يبدو أم الحكومة قد سلكت مسلكا آخر يعتمد اتجاهات ثلاثة، الأول أمني يلوّح باستخدام العصا الغليظة أو هو يستخدمها وكأن التاريخ متوقف في زمنه الأول، وذلك بالتصدي للتحركات وملاحقة من يصنفون بالخروج على القانون وتقديمهم للمحاكمة أو وضعهم على ذمتها، والثاني يعتمد نوع من "الرشوة" للمناطق التي تشهد تحركات وذلك بضخ مزيد من الأموال لم تكن مبرمجة سابقا ضمن ميزانية تلك الجهات، لتحسين وضع المحتجين وإسكاتهم وثنيهم عن مواصلة حركتهم، وهذا العلاج لا يزيد الوضع إلا تأزما لأن الجهات التي لا تحتج لا يكون لها نصيبا وهذا يدفع بعدوى الاحتجاج في الجهات إلى أقصى درجاته، والثالث هو تجييش الإعلام الرسمي وما كان يعرف سابقا بالمنظمات القومية بوصفها جزء من المجتمع المدني، والهيئات التشريعية وكذلك بعض الأحزاب القريبة من مؤسسة الحكم لإدانة ما يجري ومن يقف وراءه من أعداء حقيقيين أو وهميين يعملون على تشويه صورة البلاد النقية الناصعة والتآمر على النجاحات التي تحققت...إلخ. وهذه المعالجة بمكوناتها الثلاث لم تعد الوصفة الأنجع في مشهد سياسي واقتصادي دولي صعب ومعقد سرعان ما تتمكن قواه النافذة أن تدويل ما كان بالأمس القريب وطنيا صرفا، ولنا في جنوب السودان ودارفور ولبنان ويوغزلافيا السابقة...أمثلة دالة في دعم هذه المجموعة أو تلك، وعندها لن ينفع ندم النادمين من الحكام والمحكومين.

السبت، 11 سبتمبر 2010

تعليق حول كتاب الهوية مجلة زوم الالكترونية 4 فيفري 2010

الهوية: الإسلام.. العروبة.. التونسة

04 فبراير 2010

يرى د.سالم لبيض الباحث والمفكر التونسي أنَّ أسباب انتشار الاهتمام بالهوية في عالمنا المعاصر بروز العولمة بمفاهيمها الجديدة. إذ إنَّ توحيد الأسواق وإلغاء الحدود والحواجز الجمركية بين المجتمعات والشعوب لصالح رأس المال العالمي يحتاج ضرورة إلى إذابة الفوارق الثقافية والخصوصيات المحلية حتى تزول آخر الحواجز أمام الرأسمالية التي تعيد تشكيل الإنسانية على أرضية التماهي وليس الاختلاف. ولعلَّ ذلك من مفارقات الليبرالية في زمن العولمة. ذلك أنَّ الخصوصيات الوطنية هي أساسات الهوية اليوم وهي مرتكزات الإرادة الوطنية في مجالات السياسة والاقتصاد والاستراتيجية بما في ذلك القوَّة العسكرية. لذلك فهي مذمومة منذ البداية لأنَّها تشكِّل نقيضاً للعولمة الليبرالية ومرتكزاً لإمكانية بناء استقلال وطني ولما كانت الهوية في مختلف أقطار الوطن العربي مدخلاً إلى مقاومة الرأسمالية في شكلها العولمي فقد حظيت باهتمام مشاريع الإصلاح الأميركية المتدفقة على المنطقة من ذلك «مشروع الشرق الأوسط الكبير» و«مشروع إصلاح الاستخبارات الأميركية والحيلولة دون وقوع الإرهاب» و«مشروع الشرق الأوسط الجديد». وهي مشاريع تستند إلى مقولة (تجفيف المنابع) والمنابع دون شك هي منابع الهوية التي تعتبرها تلك المشاريع مصدراً لنشر الإرهاب فكراً وممارسة.
لكن لا بدَّ من الإسلام، أو الحس الإسلامي الذي تطوَّر بعد قيام الحملة الفرنسية، إلى شكل من الانتماء العربي الإسلامي لتونس، في محاولة لتحصين البلاد من عمليات المسخ التي تستهدف الشخصية المحلية، وذلك بعد القضاء على الدولة العثمانية كآخر خلافة إسلامية، واقتسام أطرافها في شكل مستعمرات بعد الحرب العالمية الأولى. ولقد عبَّر عن هذا الاتجاه شيوخ «الزيتونة» وطلبتها، ومنهم الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، الذي أشار إلى أنَّ الزيتونة قد مثَّلت مركز الضمير الجمعي ورمز الهوية الحضارية الإسلامية، كما أنَّ هذه المؤسسة لعبت دوراً في تأخير مختلف شرائح المجتمع، ومن ثمَّ الدفاع عن هويته التي استهدفتها الإدارة الاستعمارية منذ قيامها سنة 1881، مما أدى إلى الصدام بين أنصار الهوية العربية الإسلامية لتونس، تقودهم المؤسسة الزيتونية، وجماعة الحزب القديم بقيادة الثعالبي، قبل أن تلتحق بهم جماعة الأمانة العامة، التي أطلقت عليهم لاحقاً تسمية «الحركة اليوسفية» من ناحية، والإدارة الاستعمارية والنخب الفكرية والسياسية الموالية لها، والتي تلتقي معها في ضرورة فرنَسّةٍ المجتمع مثل الحزب الشيوعي من ناحية ثانية.
ثمَّ ينتقل د.سالم لبيض للحديث عن الإرث «البورقيبي» الذي ميزته أنه محكوم بما خلفته الصراعات السياسية التي خاضها (الحبيب بورقيبة) مع جماعة الحزب الحر الدستوري التونسي بقيادة (عبدالعزيز الثعالبي) المعروف بالحزب القديم، ومع شيوخ جامع الزيتونة وطلبته، وبصفة خاصة مع الحركة اليوسفية، مجسَّدة في صالح بن يوسف الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد وأنصاره. ولمَّا كان هؤلاء يرمزون إلى العروبة والإسلام بشكل أو بآخر، ويمثلون المدافع عن الهوية التونسية بهذا المعنى، فقد وجد فيهم بورقيبة الخصمَ والعدوَّ الذي يستوجب المقاومة، بل إنَّ موقف بورقيبة من مقومات الهوية؛ مجسدة في العروبة والإسلام وكافة أطر الانتماء وما ارتبط بها من مؤسسات، قد تحدَّد في ظل ذلك الفراغ الذي تراوح بين أشكال سلمية وأخرى عنيفة. فقام بورقيبة بطمس كافة العلاقات والروابط التقليدية العائلية والعشائرية والقبلية والدينية والتخلص منها، فألغى المحاكم الشرعية وأوقف التعليم في الجامع الأعظم، وحلَّ الأوقاف، وأصدر مجلة الأحوال الشخصية التي تمنع تعدد الزوجات، وحوَّل مقرات الزوايا والطرق الصوفية إلى مراكز للحزب الدستوري الجديد، وعمَّم التعليم الفرنكو - عربي.. وغير ذلك. بل إنَّه وبجرأةٍ فيها تحدٍ صرَّحَ بأنَّه لا يؤمن بالديانات بمعناها التقليدي، والرسل ليسوا مبعوثين من الله، لكنَّه لا يجد حرجاً في دعوة فرق الإنشاد الدينية إلى الحضور سنوياً إلى قصر سفاقص الرئاسي في مدينة المنستير بمناسبة عيد ميلاده لإنشاد المدائح والأذكار الصوفية، فتمزج مسيرة بورقيبة بسيرة الأنبياء والرسل، ويُذاع كل ذلك في الإذاعة ويبث على شاشة التلفزيون.
إنَّ هذا البحث، كما يرى سالم لبيض، ليس دفاعاً عن هوية مغايرة مختلفة عن الهويات المرسومة للمجتمع سلفاً من قبل القوى التي تمتلك أدوات صنع الهوية فحسب، وإنما هو إضافة إلى ذلك وعيٌ متقدم بأنَّ النهضة الحقيقية لمجتمعٍ ما لا تتحقَّق خارج هويته الحقيقية، أي خارج منظومته اللغوية والدينية أو خارج كيانه الثقافي المتميز. والهوية بهذا المعنى تتقمَّص الدور المنوط بالدولة - الأمَّة في ظلِّ غيابها، خاصَّة إذا طال أمده، كما هو حال العرب اليوم.


Bookmark and Share

الجمعة، 27 أغسطس 2010

صدور ''الخشية من الأعداد الصغيرة " عن مشروع كلمة

صدور ''الخشية من الأعداد الصغيرة " عن مشروع كلمة




يطرح كتاب ''الخشية من الأعداد الصغيرة: دراسة في جغرافية الغضب'' لأرجون أبادوراي، الذي صدر مؤخراً عن مشروع كلمة للترجمة بهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، موضوع العنف الذي انتشرت ممارساته بشكل واسع في عصرنا الراهن، ويتناول بالشرح العلاقة الوثيقة التي تربط أحداث العنف وخطاب الإرهاب بظاهرة العولمة ودورها في تنظيم السياسات والأسواق والأفكار، إذ يسعى إلى فهم ما الذي يجعل عصراً غلب عليه التدفق الحر لرؤوس الأموال والأفكار الليبرالية والتوسع النشط لحقوق الإنسان يفرز أشكالاً جديدة للكراهية والتطهير العرقي والإبادة الإيديولوجية.

ويلقي الكتاب الضوء على أنماط جديدة من التنظيمات السياسية لا تحتكم للقوانين التقليدية للسياسات والدول، كما يرى بأن العولمة قد تكشف النقاب عن خلل خطير في الإيديولوجيات، ويحلل الارتباط الوثيق بين مفهوم الدولة- الأمة وفكرة ''الانتماء العرقي القومي'' وارتباط هذه الأخيرة بتوليد ما يسميه ''الارتياب الاجتماعي''، كما يبين كيف أن العولمة تشعل فتيل هذا الارتياب حول الحد الفاصل بين ال ''نحن'' و''الآخر'' وتقوض حدود الدولة- الأمة و نفوذها.

ومن خلال دراسته لوضع الأقليات المسلمة في الهند ومجموعات أخرى صغيرة في العالم يطرح الكتاب مسألة الغضب تجاه الأقليات التي لم تمنعها قلّة عددها من أن تكون موضوع ارتياب وخشية وغضب. فالطبيعي أن يخشى القليل الكثير والضعيف القوي وعديم النفوذ صاحبه، ولكن الغريب أن أكثر أحداث العنف شراسة وأوسعها نطاقًا هي تلك التي اندلعت نتيجة خشية القوي من الضعيف وخشية الأغلبية من الأقلية التي لا تفتأ تُذَكرها أنها أبدا لن تكون أمة متكاملة لا شائبة فيها و''نحن'' شاملة لا ''آخر'' يشوه اكتمالها.

ما يميز هذا الكتاب هو حرص صاحبه مستعينًا بأدوات سوسيولوجية وأنثروبولوجية يستقي مفاهيمها من حقل معرفي مختلف ألا وهو الحقل الطبي على وضع نظرية جديدة يفسر من خلالها ظواهر اجتماعية( مثل الإرهاب والعنف الجماعي) بدت إلى أجل قريب مستعصية على التفسير.

مؤلف الكتاب أرجون أبادوراي، متخصص في العلوم الاجتماعية، ويعمل أستاذًا في جامعة نيو سكول، ومستشارًا أوّل لفريق ''مبادرات عالمية''. شارك في تأسيس مجلة ''الثقافة العامة''، وشبكة ''آي أن جي''، وهو عضو في إدارة الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم. وقد عمل مستشارًا لمجموعة واسعة من المنظمات العامة والخاصة، بما في ذلك اليونسكو والبنك الدولي والمؤسسة الوطنية للعلوم. قام بتأليف العديد من الكتب والمقالات العلمية من بينها ''كتاب الحداثة بشكل عام: الأبعاد الثقافية للعولمة'' ومجموعة الأعمال''العولمة''.

وقد قامت بترجمة الكتاب مفيدة مناكري لبيض، أستاذ اللّغة الإنجليزية بالمعهد الوطني للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا بجامعة قرطاج في تونس، والباحثة في اللسانيات التطبيقية، ومترجمة خبيرة لدى الهياكل القانونية والهيئات الدولية.


12-08-2010

الأحد، 1 أغسطس 2010

سالم لبيض : زرزيس أو هاجس التأسيس في السينما التونسية مجلة الوفاق العربي عدد 134أوت 2010

لوجوه... والأزمنة... والأمكنة... للوجوه... والأزمنة... والأمكنة..... طباعة
Image
في الأقاصي، في الأفق البعيد، في تخوم المكان، على حدود البلاد، التقت الذات بالمعنى فأعطت عملا فنيا متميزا استوحى اسمه من الجغرافيا القديمة. جرجيس اسم ضارب في القدم، مدينة عريقة تذكرها مخطوطات المؤرخين وخطوط الجغرافيين، زمرّدة صغيرة وصفها أدب الرّحّالين، مدينة حديثة تُشدّ إليها رحال القادمين والغادين. جرجيس أو زرزيس منطوقة بلسان ذويها استحالت عنوانا سينمائيا تسّابق في عرضه مهرجانات السينما وقاعاتها وتتبارى في وصفه أقلام الكتّاب والنقّاد.

في جرجيس بدأت رحلة محمد الزرن مع السينما، فيلم قصير يسمى «كسّار الحصى»، انتهت شريطا طويلا اسمه «زرزيس»، وبين هذا وذاك نحت المخرج الشاب اسمه على ألواح الفن الأصيل بـشريطيه «السّيدة» و»الأمير». وكأني بمحمد الزرن يؤسس لسينما اجتماعية أو هي سينما الواقع تنبعث من رماد الوقائع والأحداث اليومية ومن سير الأشخاص والجماعات ومن ذاكرة الأمكنة والأحياء ومن خصوصيات الأزقة والشوارع ومن رموز المدن والقرى، هي سينما من هم اقل حظّا ومكانة وغنيمة وحكومة ودعاية وتأثيرا. هي منبرهم ولسان حالهم وأداة حفظ تاريخهم وتراثهم والتعبير عن يوميّهم وعن حقهم في أن يكونوا على هيئتهم التي جُبلوا عليها. اجتباهم محمد الزرن موضوعا لفنّه فكشفوا له عن تفاصيلهم وخصوصياتهم وحميمياتهم وعلاقتهم بالمكان ومعرفتهم به وواثق اتصالهم معه وغيرتهم التي لا تضاهيها غيرة في الدفاع عنه.

نجحت تجربة التأسيس بعد أن خرجت عن المألوف وعبرت الممنوع. فكأني بمحمد الزرن يصرخ عاليا كفانا سينما البايات، كفانا سينما الحكومات، كفانا سينما الحمّامات، كفانا سينما الجنس والقصور والبيوتات، كفانا سينما الأموات، كفانا سينما السلاطين والزوايا والترّهات، كفاكم تزويرا للتاريخ والحكايات فهناك من هم أجدر بالكاميرا وسحرها، إنهم أولئك الذين فقدوا مكانهم في سلّم التصنيف الاجتماعي فاستحالوا في هامش أنساقه وأنظمته، شرائح اجتماعية وأمكنتها، مدن وقرى تبدو بغير معنى في زمن المحاباة. لكن محمد الزرن قرأ في درس الأنثروبولوجيا الأول أن المحلي يمكن أن يستحيل عالميا إذا توفرت نواميسه وأن الجزئي له أن يكون كليّا إذا حضرت الحكمة في القياسات. فحمل كاميراه عينا انثروبولوجية لا تترك شاردة أو واردة إلا دوّنتها صورة هي موضوع تأويل لا يتجاسر على خفاياه سوى الراسخين في العلم الاجتماعي والاتصالي العارفين بمناهجه وأدواته ونظرياته.

«زرزيس» هو آخر ثمار كاميرا محمد الزرن ولكنه الثمرة التي نضجت واكتملت بامتياز، هو خلاصة تجربته وروحها التي حملت ختم التأسيس المنشود. ولا شك أن محمد الزرن قد استفاد من جميع تمارينه السينمائية ومن كل الخبرة التي أكتسبها في ثنايا الشهرة والمشاركة والعرض والإعلام والنقد.

ولد «زرزيس» من رحم سينما الواقع، فهو مجموعة من الأحداث وإن بدت متنافرة، فقد نظمها المخرج في سلسلة من الوقائع والمواقف، جمعها المكان بجماله المعتاد ووحّدتها القضايا والأهداف، فجاء عرضها مراوحا بين التصريح والتلميح وبين الحس والرمز، لكن لا مناص مع ذلك من الاعتراف بأن جلّ القضايا التي أثارها الفيلم كانت متحررة من تابوهات الكتابة والصورة ومن محرّمات السياسة والعقيدة، عبّر عنها المخرج على ألسنة شخصياته الأربع الرئيسية التي اختارها من صميم المعيش اليومي. كلّ له تجربته الخاصة المتفرّدة المتميزة المختلفة عن الآخر وعن الآخرين. لم يكن اختيار الشخصيات مرجعه سلطان مال أو أعمال أو سياسة أو جاه أو عرق ونسب. فالفاعلون هم ممن لا قرار لهم، ممن سكنوا التخوم والرُّبى، ممن خرجوا عن الأنساق والأنظمة بمعناها البنيوي، ممن لا وظيفة لهم بنفس المعنى، ولكن مع كل ذلك فلهم تأثيرهم الخاص وسحرهم وهوّاتهم ومريدوهم، فهم ممن يستطيع التعبير عن كل ما يجول في خواطر الآخرين ويعتمل في أذهانهم فيأبى الانسياب إلى الفضاء العام متحررا من سلطة المراجع والأئمة والقادة والساسة بمعانيها اللامتناهية.

شخصيات أربع جمعها المكان

الأول معلّم متعلّم عالم بخفايا السياسة والأفكار والعلاقات. متأبّط هموم الآخرين وفيٌ لكل ما حفظه في زمن المقاومة والصعود وفي زمن الاختلاف والتعدد والصمود، مهموم بكافة قضايا الكون مدافع عن آلام المضطهدين، ناقد لكل ما يأبى العقل والعرف والقانون التسليم به.

Imageالثاني تاجر يهودي مختلف في ديانته عن القوم ومع ذلك فهو حافظ أسرارهم وخزّان تقاليدهم وموروثاتهم وخادمهم وطبيبهم المداوي عندما تسدُّ مسالكهم المتاحة. تاجر أبى إلا أن يقول أنا هنا، ولدت وترعرعت وكبرت. أنا هنا أبا عن جدّ. أنا هنا جزء لا ينفصل عن ذاكرة المكان. أنا هنا من ساهم في صنع المكان. أنا هنا ولا وجود لي إلا هنا. أنا منكم وانتم مني. أنا أعيش هنا ولا أعيش في أي مكان آخر. أنا من عرفني أجدادكم وآباؤكم وعرفتموني وسيسمع عني أبناؤكم وأحفادكم. أنا لا أعترف بغيركم أهلا لي. أنا منكم ولست منهم كما يعتقد بعضكم. أنا العكاري، أنا الجرجيسي، أنا التونسي، أنا العرْبي، مع أني أنا اليهودي ..أنا هنا أنا هنا. ولعلّ كل تلك الأبعاد يختزلها الاسم الأعجمي للفلم VIVRE ICI، BEING HERE أو العيش هنا، فلا مكان يتسع لك إلا هنا وإن كان الأمر ينسحب على الجميع. فدائرة الاصطياد والتهجير والهجرة واسعة تمتد شرقا وغربا وإن اختلفت الأسباب والوسائل والغايات.

الثالث فنّان تشكيلي وإن بدا غريبا عن المكان غربة لا يخفيها المخرج نفسه بسبب ضمور فنّه السينمائي وما لحق دار السينما الوحيدة بجرجيس من دمار وخراب شبيه بما يصيب المجتمعات في أزمنة الجدب والحروب، فإن محمد الزرن لا يستطيع رؤية الأشياء خارج ريشة الفنان التشكيلي، فهو الوحيد الذي لم يغب عن أفلامه، هو منطلق»زرزيس» وخاتمة المسك. بعينه رأى جرجيس وبريشته رسمها مدينة ساحرة الجمال بثلاثيتها النادرة واحة على ضفاف البحر تحدها غابة زياتين مترامية الأطراف. وبوعيه كان محاجّا لوّاما لما لحقها من فوضى الإسمنت المسلّح التي صارت مألوفة لدى الحواس بعد أن استشرت في العقول واطمأنت لها الأذواق.

الرابع «بزناس» الشخصية المرموقة التي ولدت في خضمّ التفاعل بين إفرازات السياحة وضرورات المجتمع المحلي، فهو مقتنص فرص بامتياز يمتلك القدرة على اصطياد فريسته المؤهلة لدفع الثمن مهما كان طبعه. مال وجنس وبضاعة وبقايا ملابس وحلي وعقود عمل وزواج للالتحاق بالمركز وحوالات مالية ومساكن وقصور تشترى وتباع، مشاريع اقتصادية تنبعث وتختفي وتحايل أدّى إلى قضايا تعجّ بها المحاكم، يقابل كلّ ذلك فحولة متوقدة أو هي القدرة على بيع الجنس لمن يقدر على شرائه مهما اختلف الثمن. صنفان من «البزناسة» يستحضرهما «زرزيس». «البزناس» الشيخ الذي انتهت تجربته إلى بائع متجول على شواطئ النزل بعد أن استنفذ كل طاقاته وقدراته ولكنه المثال الذي يُتبع خاصة وأن سيره ومغامراته وغزواته وانتصاراته باتت تشكل أدبا شفويا متداولا حُقّ له أن يدوّن أو هو انتقل إلى مرحلة التدوين(انظر أطروحة الوشاني الظاهرة السياحية بجربة 2002). و»البزناس» الشاب اليافع الذي ترك مقاعد الدراسة مبكرا لأنها لم تعد مجدية، وبدأ تجربته مستفيدا من الدروس التي تعلمها في مدرسة الشيخ أو لنقل من صداها في أوساط «البزنس» السياحي. فقد اصطاد فريسته الأولى امرأة ألمانية تبدو عليها سمات نبل ورفاهية وتعلُّم وملامح جمال لم تنطفئ جذوته بالرغم من أن تقدمها في السن بائن للعيان، ومع ذلك فهي تتمسك بعلاقة ظاهرها الحبّ والمودة وباطنها الجنس والمتعة، لكنها علاقة غير متكافئة تعكس الاختلال في روابط مجتمعات ودول بأكملها، فالقوي قادر على البيع والضعيف ليس له إلا أن يشتري. وهنا تنقلب الرمزيات فتتحول القوة الشبابية إلى ضعف ووهن وينقلب الوهن والشيخوخة التي تحميها الأموال المتدفقة والعملات المصطفاة إلى قوة وفعل فتنشأ العلاقة بين شاب العشرين وعجوز الستين، علاقة تختزل براغماتية مزدوجة، وللحفاظ على ما تحقق في ظل تلك العلاقة من رغبة ومتعة ولذة يهون العنف وتغتفر كل حماقات الشباب.

اتجاهان يشقان الفيلم

Imageفي «زرزيس» تنصهر العلاقات والمصالح والرؤى والمواقف والاتجاهات وتتداخل، لكن اتجاهين اثنين يشقان الفيلم، الأول يدعو إلى البقاء هنا والتمسك بالأرض والعمل على عدم مغادرة الفضاء وهو اختيار التاجر اليهودي الذي بقي وفيا للمكان ولم يغادره بالرغم من حجم الإغراء الذي تقدمه منظمات الهجرة اليهودية والصهيونية العالمية من أجل اللّحاق «بالأرض الموعودة» وأخٍْذ منزل فلسطيني وأرضه بعد طرده إلى أحد مخيمات اللاجئين أو قتله. وقد نجحت تلك المنظمات مع كثيــر من يهود العالـــم بـمــا في ذلك من هم من أصيلـي جرجيـــس نفســــهـــــــــا. وينعكس اختيار التاجر من خلال مورفولوجيا الدكان القديم المنتصب في قلب النواة الأولى للمدينة المغرق في تقليديته المحافظ على زمنه الخاص، زمن لم يتغير منذ أكثر من نصف قرن بالرغم من تغيّر كل شيء من حوله، فهو الوفيُ لزبائنه القدامى والمحدثين، كاتم أسرارهم وملبي احتياجاتهم. وهو اختيار صعب محفوف بالمحاذير والمخاطر في زمن تقلصت فيه المسافات بين الانتماءين الديني والسياسي واختلطت أوراق العدو بأوراق الصديق بعد أن شاعت نظرية المؤامرة فلم تترك شيئا خارجا عن بوصلتها. ولقد التقى في ذلك مع المعلّم الذي يتمسك بدوره بالمكان ولكن بالاستناد إلى خلفية عالمة savante تنطلق من ثنائية اللغة والأرض، فاللغة أم العلوم لديه وبالتالي لا تقدُّم ولا نهضة حقيقية خارج اللغة. وهو موقف ضمني من كل المولعين بالتشبه بالآخر حسب العبارة الخلدونية. أما رؤيته للأرض فتبرز من خلال الدعوة لاستهلاك المحلي إنتاجا اقتصاديا (إذا استهلك كلٌّ إنتاجه فلا بطالة ولا حروب) ورمزيا متمثلا في الثقافة المحلية والوطنية والعربية، ولعل كل ما يقوم به من نقد لظاهرة الهجرة التي حرمته من العيش مع أبنائه وللسياسات العربية المنتهجة من قبل جامعة الدول العربية وحكوماتها في مجالات النفط والدبلوماسية، ولاستيراد المنتوجات الأمريكية والغربية ولنمط الوعي الجديد المنتشر بسبب الفضائيات والسلوك الديني المتأثر بالنزعة الوهابية والتدين الشكلي السهل والانغلاق المنتشر هنا وهناك، في حين يغيب التدين القائم على تصنيفه الخاص المنطلق من الأولوية المطلقة للقراءة ومن منح المرأة حقوقها لاسيما المتعلقة بالميراث، كل ذلك يتمّ على خلفية الانتماء للغة والأرض بالمعنى الضيق المحلي أو بتداعياته في الفضاء الواسع الوطني والعربي.

الاتجاه الثاني يجتمع من حوله كل من الفنان التشكيلي والبزناس وإن كان الالتقاء يستند إلى خلفيات ومرجعيات مختلفة. الفنان التشكيلي متعلق بالآخر الغربي بوصفه النموذج المثالي الذي جاء بالحداثة ولنا أن نعيد تشكيل مجتمعنا وعلاقاته وفقها، ومن تلك الزاوية ينتصر إلى جمالية المدينة وموقع الفن التشكيلي فيها. وطالما كان ذلك الفن غائبا عن السلوك اليومي فإن الفراغ سيأخذ مكانه لا محالة. وتبرز تلك المرجعية فيما يمكن اعتباره «هذيان» الفنّان ببعض رموز الفكر الغربي واعتقاده المطلق في أقوالهم أمثال فرويد، لاسيما في حديثه إلى التاجر اليهودي الذي كثيرا ما لا يفقه قوله ولا يدرك كنهه خاصة وأن ذلك التاجر محدود التعليم والمعارف وعلى درجة عالية من بساطة التفكير، فهولا يعرف الشيء الكثير عمّا يروّج غربيا عن «العبقرية اليهودية» المزعومة وعن وهم «حكمة اليهودي» الذي يسكن رأس الفنّان. ومن المهم الإشارة إلى حنين الفنان الخاص إلى التجربة الباريسية والتغني بها والرغبة في استئنافها فهي مرجعه وسبب تشكل فلسفته بأكملها.

تصور آخر للحداثة

Imageإن هذه الرؤية الواعية للحداثة يقابلها تصور آخر يمثلها البزناس الذي لا يفهم تلك الحداثة إلا مجسدة في الارتباط بامرأة غربية من المفضّل لديه أن تكون جنسيتها ألمانية أو سويسرية وفي أضعف الأيمان أن تكون فرنسية، لضمان شروط الثراء والهجرة إلى بلد يمكّنه من تكديس الثروة. إذ أن الشغل وفق الحدّ الأدنى لم يعد رهانا فهو متحقق بشكل أو بآخر في البلد الأم. وفي سبيل ذلك يقع التنازل عن التقاليد والثوابت الدينية والعقائدية والدخول في مغامرات الجنس واللذة التي تنهى عنها تلك الثوابت خارج المؤسسات المتعارف عليها. وهذا السلوك «الحداثي» هو سلوك ذكوري بامتياز لأن المرأة العكارية لا تزال محرومة من حقها في الارتباط بالأجنبي الأوروبي غير المسلم خاصة، مهما كان شكل العلاقة أللّهم أن يُشهر إسلامه، ومع ذلك تُلاحقها وصمة المجتمع لها، كما أثارها الفلم في أحد ثناياه. إذن هناك التقاء واضح بين الفنان التشكيلي والبزناس في الرغبة في الهجرة إلى الغرب الشمالي الأوروبي والأمريكي، وهذه الظاهرة استشرت في سلوك الشباب المحلي عامة وباتت قيمة منشودة لمن يقدر عليها ومن لا يقدر، ثم استحالت مأساة من مآسي المجتمع المحلي بجرجيس لأن وسائلها باتت في منتهى الخطورة والمغامرة، برّا وبحرا وجوّا، ولا تزال الذاكرة المحلية تحتفظ «بالغزوات» الكبرى التي قام بها البعض عن طريق مراكب صيد الأسماك أو بالسفر آلاف الأميال إلى الصين أو الأرجنتين أو غيرها ثم الهروب أثناء مرور الطائرة بمطار شارل ديغول بفرنسا، أو التخفي في إحدى السيارات العائدة إلى أوروبا بواسطة البحر وهي الرحلة التي تنتهي بالوفاة اختناقا. فكم من أرواح زُهقت وكم من نفوس انتحرت لأن أصحابها لم يحصلوا على التأشيرة التي تمكنهم من الدخول لهذا البلد أو ذاك ! وكم من أجساد التهمتها حيتان البحر بسبب غرق أصحابها ! ومأساة الهجرة لم تقتصر على ذلك الصنف من الشباب الفاقد لمقومات الحياة الضرورية بسبب البطالة والفقر والتهميش والانقطاع المبكر عن الدراسة والرغبة في الثراء، وإنما شملت شريحة هامة من الطلبة والخريجين من المتفوقين في دراستهم فتحولوا إلى أداة تساهم في نهضة المجتمعات الغربية، وكوادر مفكرة لها ونخبة مؤثرة في صيرورتها ومستقبلها بعد أن وصلوا إلى مراتب عليا في سلّم العلم والمعرفة والمكانة بفضل أموال الضرائب التي أُنفقت عليهم محليا وطنيا.

وثيقة فنية وسينمائية

عموما فإن «زرزيس» هو في نهاية الأمر وثيقة فنية وسينمائية هامة تعالج قضايا مستحدثة ينبض بها مجتمعنا في جرجيس وفي غيرها من المناطق، وقد استعان المخرج بمن كان جديرا بالتعبير عنها، ولكن الأهم هو أن الصورة السينمائيـة لمحمد الزرن كانت شاهدا على مرحلة مهمة في تاريخ المدينـة المعاصر ونمـط الثقافـة المنتشرة بها وحدود الوعي السائد فيها وإيطيقـا قادتها ومسؤوليتهم الأخلاقية عن اللامعنى الذي أصابها والرقابة التاريخية التي يجب على نخبتها ومفكريها تولّيها، وهي بذلك تشكل مدوّنة هامة تساعد الساسة والمشتغلين والباحثين في المجال الإثنوغـرافي والأنثروبولوجي وفي مختلف الأسلاك البحثية، على فهم وتحليل واقع مجتمع بحاله

الجمعة، 11 يونيو 2010

مختص في علم الاجتماع لـ «الشروق»: المجتمع الافتراضي أمر واقع... ولا يمكـــــن تقييمــــه الآن جريدة الشروق بتاريخ 10 جوان 2010

مختص في علم الاجتماع لـ «الشروق»: المجتمع الافتراضي أمر واقع... ولا يمكـــــن تقييمــــه الآن

تونس (الشروق)
يتبادل الجميع ملحوظة مفادها أن استخدام التونسي للمواقع الاجتماعية على النات مختلف.. إذ هو الأكثر انتماء للمجتمع الافتراضي.
ويتحدثون عن إفراط تونسي في استخدام «فايسبوك» أشهر تلك المواقع.. يتضح خاصة من خلال زيادة عدد المنخرطين والتي مرّت من حوالي 200 ألف منخرط نهاية 2007 الى حوالي مليون نهاية 2009.
«الشروق» نقلت الملحوظة الى السيد سالم لبيض أستاذ علم الاجتماع بالمعهد العالي للعلوم الانسانية بتونس تسأله من وجهة نظر سوسيولوجية عن طبيعة هذا الاستخدام ومدى جاهزية المجتمع التونسي لقبول هذا الانتماء الافتراضي ومدى تأثيرات العلاقات الافتراضية على العلاقات الاجتماعية المباشرة.. فكان رده إجابات عديدة خلص الى القول ان المجتمع الافتراضي أمر واقعي لا يمكن تقييمه بالسلب أو الايجاب على الأقل حاليا.
التقيناه في مكتبه عشية حيث كان يجلس قبالة حاسوبه محاطا بكمّ من الكتب والدراسات المكدسة على طاولته وعلى الرفوف.
تعود ضيفنا مثل الجميع أن يفتح صفحته الشخصية على «فايسبوك» ويدير ظهره لشاشة الحاسوب ويشتغل.
وصف نفسه بالمستخدم السلبي لهذا الموقع إذ يقبل طلبات الصداقة ويطلع على ما يعرضه الأصدقاء ولا يقوم بأي دور افتراضي.
قال إن زيادة حجم المواقع الاجتماعية على شبكة النات هي مقدمات لمجتمع يتحول تحولات عميقة.. مشيرا الى أن مجتمعنا ليس جاهزا لهذه التحولات فهو مجتمع يعيش الحداثة في المقولات العامة والشعارات لكنه في الواقع ما يزال مجتمعا محافظا يتوجّس من بعضه البعض ويستعلم عن بعضه البعض، كما أنه مجتمع مستهلك وليس منتجا لهذه الشبكات.
فرصة الظهور
يستهل حديثه عن بروز الشبكات الاجتماعية الافتراضية بتقسيم جزئي يشرح فيه نوعية الاستخدام.. ويجعل موقع «فايسبوك» محورا لهذا التفسير لأنه الموقع الأكثر استقطابا للتونسيين.
يقول «البحث للخروج من الغموض مثّل الدافع الأبرز لتطور استخدام هذا الموقع».. إذ ليس هناك وسائل للظهور على شاكلة المشاهير عدا صفحاته «فنحن نعيش غموضا في المجتمع حول عناصر الاعتراف بالفرد والمجموعة».
كما يعاني الفرد أزمة تواصل مادي مباشر بسبب التطور التكنولوجي وتردّي المبادئ القديمة الثقافية منها والاجتماعية..ومع ظهور مبادئ النجاحات الخاصة التي وفرتها الشبكات الاجتماعية توفرت للفرد فرصة البحث عن وسائل جديدة للقضاء على الغموض.
لكن محاولة تجاوز هذا الغموض شملت نشر قضايا حميمية وتفاصيل عن الحياة الخاصة مثل صور المواليد الجدد وصور العلاقات الخاصة.. حولت الخاص الى العام.
ويختار المتحدث الاخصائي في علم الاجتماع وصف الموقع بوسيلة اشهار استنادا الى طبيعة الشبكية المنسوجة فيها والتي تثري الظهور.
يقول «تجمع الشبكة بين عدة مجموعات قد لا يربطها رابط ثقافي أو ايديولوجي أو سياسي هي شبكة مفتوحة ومبدأ الانضمام إليها متاح».
توفّر هذه الشبكة صداقة افتراضية لا ينجرّ عنها أي التزام مادي أو أخلاقي فصديقك الافتراضي لا يمكنه أن يكون «صاحبك وقت الشدّة» على حدّ قول المثل الشعبي القديم.
نشر مجاني
ينتقد المتحدث «قوة» الصداقة الافتراضية فيصفها بالرخوة القابلة للالغاء في أي وقت.
كما ينتقد «الوجه القمري» لبناء الصداقات فيقول ان خصوصياتك متاحة للكل على الموقع وباستطاعة أي كان التسرّب لقائمة أصدقائك دون استشارتك لطلب صداقتهم والتعرف على خصوصياتهم. يضيء شاشة حاسوبه بتحريك الفأرة دون أن ينقطع عن القول ان الموقع ينشر الخصوصيات نشرا مجانيا.. وأن البعض جعل منه وسيلة لطلبه العاطفي وللبحث عن فرصة للزواج.
كما ينتقد الأستاذ سالم لبيض التجاوزات المتبادلة في الموقع من ذلك تبادل فيديوهات خاصة بالعنف والجنس من أجل التشويه أو الانتقام وتصفية حسابات شخصية قد تكون مهمة في الحلقة الضيقة للموقع، لكنها ليست ذات وقع في الحلقة الواسعة من مجموعة المستخدمين للموقع.
ثم يقول إن الموقع تميز من جهة أخرى باستقطاب المشتغلين في المجال النقابي والسياسي والفكري ليمثل فضاء عاما بديلا.
يحرك فأرة حاسوبه ثانية قبل أن يضيف «هؤلاء هم لاجئون للفضاء العام البديل بعد أن أصبحت الفضاءات العامة الحقيقية مغلقة».. فعدم توفر الفرصة لصاحب الفكر الايديولوجي والسياسي للتعبير عن أفكاره في مؤسسات الدولة الثقافية والمدنية من جمعيات ونقابات تدفعه الى التحول الى فضاء عام جديد ميزته أنه افتراضي.
سلبية الافتراضي
يصمت للحظة رافعا ناظريه الى شاشة حاسوبه قبل أن يطرح سؤالا حول مدى تأثير هذه التعبئة الافتراضية.
ويجيب مثبتا نظره على الشاشة «مثل الموقع متنفسا لكيانات تمتلك شرعية النشاط ولا تتمتع به.. ولم تستوعبها الفضاءات التقليدية، فكان الملجأ لاثارة قضايا وخلق شبكة سياسية وإيديولوجية لتبادل المعلومات بسرعة.
ورغم ذلك تبقى الصبغة الافتراضية أبرز سلبيات هذا الفضاء البديل.. لأن طبيعة النشاط افتراضي.
يقطع الحوار بملحوظة هي أنّ موقع «فايسبوك» الأكثر استخداما لدى كل الفئات العمرية، أخذ مساحة زمنية كبيرة من المشتغلين عليه أو بواسطته.. وقد تكون تلك المساحة مخصصة من قبل للقراءة والاطلاع والحوار المباشر والتواصل اليومي.
ويقول إنّ كل هذه المتغيرات مقدمات لمجتمع يشهد تحولات عميقة في علاقاته الاجتماعية ومنظوماته القيمية، وسلوكاته الدينية وفي موقفه من الثوابت ولا نستطيع على الأقل الى حدّ الآن اطلاق حكم قيمي بالسلب أو بالايجاب.
ويرى أستاذ علم الاجتماع أنه مطلوب اليوم فتح الفضاءات العامة والخروج من احتكار الحياة العامة من قبل «الكوارجية» والفنانين وجمهور الفضائيات الدينية.
قطيعة
تحاول الشبكات الاجتماعية، حسب رأي الأستاذ سالم لبيض، انتاج شخصية جماعية لكن ما يجب التشبث به هو وجود شخصيات خصوصية وبالتالي تعيش تلك الفضاءات صراعات كما يعيشها الفضاء العام.
وبعد صمت قصير يعود الى التحدث بشكل خاص عن موقع «فايسبوك» الأكثر استخداما في تونس ليقول إنه منتدى فيه تجارب وأفكار لكنه فضاء افتراضي لا يمكنه بأي شكل تعويض المنتدى الحقيقي المادي.. والسؤال الذي يطرح اليوم هو كيف العودة الى الفضاء الحقيقي؟
بيّن ضيفنا أن هذه الشبكات أنتجها مجتمع له مخططات وله استراتيجية استطاع حصر كل المجتمعات في شبكة معينة للاستعلام.
كما قال إنّ مجتمعنا الاستهلاكي الذي يعيش حداثة قصريّة، تقبّل البديل الجديد الصادر عن مجتمع آخر له استراتيجية دولية تقف وراءها قوى نافذة. ويلاحظ أن تفاصيل عديدة تسربت الى موقع «الفايسبوك» منها استباحة اللغة العربية.
«اللغة المستخدمة هجينة ليست عربية ولا فرنسية ولا انقليزية هي شتات من اللغات أخطر ما فيها أنها خارجة عن الرقابة ومسيئة للشخصية الجماعية للمجتمع، فلغة الخليط نوع من الاعتداء على الذات..» على حدّ قوله.
ويضيف المتحدث انه كان هناك جهد لجمع اللغة العربية (عصر التدوين) ما بين القرن الثاني والرابع للهجرة، لكن اليوم هناك اعتداء مباشر على كل هذه الجهود.
ويختم محدثنا الأستاذ سالم لبيض تفسيره الاجتماعي للظاهرة بالقول إن عالم الاجتماع يشخص الظاهرة ويضع خريطة لها، لكنه لا يقترح حلولا ليضلّل. فرجل السياسة وحده هو طبيب المجتمع ويشير الى أن القطيعة بين الباحث والسياسي تحول دون ايجاد مخطط لاستفادة المجموعة.


التقته: أسماء سحبون

السبت، 3 أبريل 2010

مداخلتنا وعنوانها الوظائف العلمية والتعليمية للتراث المكتوب مثال الأرشيف الوطني التونسي


وحول الوظائف العلمية والتعليمية للتراث المكتوب (الأرشيف الوطني التونسي كمثال)، أكد أ. د. سالم لبيض الأستاذ محاضر (مشارك) في علم الاجتماع بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، أن انتقال التراث المكتوب من طبيعته الدينية المقدسة إلى وظيفته المدنية مع ظهور ما بات يعرف في الأدب السياسي بالدولة - الأمة في الغرب الأروبي، ثم توسع تلك الفكرة لتشمل أغلب المجتمعات المعاصرة، قد راكم كمّا هائلا من الوثائق والمخطوطات المنظمة لتلك الدولة لا سيما بعد أن صدرت الكثير من القوانين المنظمة لها والأمكنة المجهزة والمهيئة لحفظها والطواقم العلمية المدربّة على تنظيمها وفهرستها وإعدادها لكي تنبعث فيها الحياة مجددا بعد أن كانت بالأمس القريب مصنفة في عداد الأموات.

ومثل الأرشيف الوطني التونسي تراثا مكتوبا ومخطوطا على درجة عالية من الأهمية للمجتمع والدولة على حدّ السواء. وعلى الرغم من أن الوثائق المتاحة للباحثين والدارسين اليوم محددة زمنيا بحيث لم تتجاوز الفترة الاستعمارية المشار إليها، فإنها قد مكنتهم من إنطاقها مجددا لتروي لهم تاريخ شرائح اجتماعية بحالها في المجالات المتعددة الدينية والسياسية والإدارية والاقتصادية والثقافية ولتؤسس لهوية وطنية متجانسة بعد أن توحدت الذاكرة واندمجت المجموعات والقبائل في ظل جهاز الدولة. ولقد استطاع المؤرخون منذ فترة ليست بالقصيرة توظيف التراث الأرشيفي عامة والأرشيفي الوطني على وجه الخصوص في كتابة التاريخ وإصلاحه حينما يستوجب الأمر ذلك. واليوم تنتقل تلك المعارف المستمدة من الأرشيفات لتخترق أرقى محامل الحداثة التكنولوجية فيعاد إنتاجها كلوحات فنية في المعارض الكبرى وفي البرامج الوثائقية التلفزية والسينمائية، بل إنها تخترق المدرسة لتحيل على ذاكرة شعب وانتمائه إلى هوية وثقافة وتاريخ كثيرا ما يستحضر مكثّفا عندما يتعلق الأمر بمقاومة الأجنبي الغازي التي تحفظها الأرشيفات بأنواعها.