الثلاثاء، 14 أبريل 2009

من صور منتدى جرجيس (نورالدين سريب) للتاريخ الاجتماعي والثقافي في دورته التاسعة حول المهن صيف 2008




الصورة الأولى السادة الطاهر الزرن عبدالله عطية سالم لبيض الحسين السوداني


الصورة الثانية الأساتذة فوزي رشيد(محافظ متحف بغداد سابقا) صلاح محمد جبارة (ليبيا) الحسين السوداني(تونس) قصي التركي (العراق) أثناء إحدى جلسات الفطور بنزل جرجيس
الصورة الثالثة الأساتذة قصي التركي (العراق) عبد الحكيم الكعبي (العراق) عمران القيب (ليبيا) فوزي رشيد (العراق) عبد الرزاق بن عمر وبلعيد أولاد عبدالله (تونس)








صور منتدى جرجيس (نور الدين سريب) للتاريخ الاجتماعي والثقافي الدورة السابعة حول التعليم والاصلاح




الأساتذة ماهر تريمش عروسية التركي محمد مكحلي حافظ عبد الرحيم والمرحوم سمير البكوش



























الأساتذة عروسية التركي جمال الزرن المرحوم عبد القادر الجليدي محمد مكحلي البشير اليزيدي المرحوم سمير البكوش البشير العربي











الاثنين، 13 أبريل 2009

أي دور للعولمة في أحداث 11 سبتمبر واحتلال العراق مقال منشور في مجلة شؤون عربية عدد120 شتاء 2005

أي دور للعولمة في أحداث 11 سبتمبر
وآحتلال العراق

د. سالم لبيض
المعهد العالي للعلوم
الإنسانية بتونس
مـقـدمـــــة :
لقد بات موضوع العولمة مبحثا تقليديا في العلوم الإنسانية والإجتماعية فلم تعد الظاهرة تحظى بذلك الإهتمام الذي لقيته عند بداية التسعينات بعد سقوط الإتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية . لكن أهمية العولمة في هذه المرحلة التاريخية تكمن في ما أفرزته من نتائج وإنعكاسات لم تشمل المستوى الإقتصادي أوالسياسي أوالإجتماعي فحسب إنما غيرت ملامح مجتمعات بكاملها من ذلك الولايات المتحدة نفسها إضافة إلى العراق وأفغانستان خاصة بعد أن أصبح الفصل بين العولمة والأمركة غير ممكن . إن الحركات المناهضة للعولمة التي إنتشرت هنا وهناك لم تبرز كرد فعل على العولمة في شكلها الأمريكي فقط وإنما وإضافة إلى ذلك هي محاولة لحماية المجتمعات التي تشتغل فيها هذه الحركات من الدمار المنتظر بسبب عولمة شرسة لا تعرف سوى مصالح الشركات التي أنتجت الظاهرة أي الشركات المتعددة الجنسيات .
أولا :مقدمات العولمة :
1 – مفهوم العولمة :
إن مصطلح العولمة هو ترجمة للمصطلح الفرنسي(MONDIALISATION) وللمصطلح الانقليزي (GLOBALISATION) . والعولمة مفهوم عولج في دراسات العلوم الاجتماعية كأداة تحليلية لوصف عمليات التغير في كافة المجالات. وهو ما يعني أن هناك خطا جديدا وعلاقات اجتماعية مادية ونفعية تستبعد كل المفاهيم القومية والعرقية والعائلية والدينية. ومن ثمة يرى بعض الدارسين أن العولمة ترتبط بأربع عمليات أساسية وهي المنافسة بين القوى العظمى والوصول إلى التقنية الجديدة وشيوع عولمة الإنتاج والتبادل والتحديث[1].
على هذه الأرضية تعددت وتنوعت تعريفات العولمة، منها الاجتهاد الذي قدمه أحد أساتذة ورموز الخارجية الامريكية ومفاده أن مفهوم العولمة " يقيم علاقة بين مستويات متعددة للتحليل وهي الاقتصاد والسياسة والثقافة والايديولوجيا وإعادة تنظيم الإنتاج وتداخل الصناعات عبر الحدود وانتشار أسواق التمويل وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول ونتائج الصراعات بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة. "[2]. وبالرغم أن للعولمة مظاهرها السياسية المتعلقة بمدى قدرة الدولة القومية الحديثة على الاستقرار والحفاظ على سيادتها في ظل الوسائل الجديدة للاتصال وما يعنيه ذلك من نفي للحدود والحواجز، ومظاهرها الثقافية التي تهدف إلى إيجاد ثقافة عالمية واحدة منفتحة ،على أنقاض الثقافات والحضارات المتعددة والمتنوعة التي تميل إلى الانغلاق والانكماش، فإن المظاهر الأكثر بروزا هي ذات طابع إقتصادي . إن العولمة في هذا المجال تعني اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وانتقال الأموال والقوى العاملة والتقانة وحتى الثقافات ضمن الإطار الرأسمالي، وكذلك خضوع العالم لقوى السوق العالمية مما يؤدي إلى إختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة. أما العنصر الأساسي في هذه الظاهرة فهي الشركات المتعددة الجنسيات أوعابرة القوميات[3].
وهذا المفهوم يختلف عن مفهوم الاقتصاد الدولي الذي يرتكزعلى علاقات اقتصادية بين دول ذات سيادة، وبينما تشكل الدولة العنصر الأساسي في مفهوم الاقتصاد الدولي تشكل الشركات الرأسمالية المتعددة القوميات العنصر الأساسي في مفهوم العولمة. وهذه الشركات من الضخامة بحيث أن قيمة المبيعات السنوية لإحداها تتجاوز قيمة الناتج المحلي الإجمالي لعدد من الدول المتوسطة الحجم. ونظرا لحجم استثماراتها المباشرة وغير المباشرة في كثير من الدول، فإنها قادرة على الحد من سيادة هذه الدول. فإذا رغبت دولة ما في إتباع سياسة معينة تؤثر سلبيا على أرباح أحد فروعها، قامت الشركة الأم بإغلاق الفرع ونقله إلى مكان آخر، وهذا بحد ذاته يشكل رادعا للدولة المضيفة عن اتباع سياسة غير مناسبة للشركة .
كما تقوم الشركات عابرة القارات كالمصارف وبيوت المال وشركات التأمين وصناديق التقاعد بدور الشرطي الذي يؤمن التزام الدول المضيفة لهذه الاستثمارات غير المباشرة بمعايير أداء معينة في سياستها الاقتصادية. فإذا لم تلتزم الدولة بهذه المعايير نزحت عنها الاستثمارات غير المباشرة والتوظيفات الأخرى، مما يؤدي إلى انخفاض أسعار عملات وأسعار أسهم وسندات الدولة وانخفاض احتياطات مصرفها المركزي من العملات الأجنبية وحدوث إفلاسات مالية عديدة فيها ما يظطرها إلى الاقتراض الخارجي[4].
2- نظرية نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما :
من هو فرنسيس فوكوياما ؟ يقول الباحث اللبناني "مسعود ظاهر" حتى عام 1989 لم يكن هذا الإسم معروفا في أوساط الباحثين ولم يكن هذا الشاب الأمريكي من أصل ياباني معروفا بدراساته المعمقة في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية .وما إن ألقى محاضرة بعنوان "نهاية التاريخ" في جامعة شيكاغو ونشرتها مجلة The national interst عام 1989 حتى سلطت عليه الأضواء بشكل مكثف . أصدر سنة 1991 مقالا بعنوان "بداية التاريخ" نشر ب Magazine litteraire قبل أن يظهر كتابه الحامل لعنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" سنة 1992 .
ظهرت أطروحة فوكوياما في فترة إتسمت بالحاجة إلى تجديد الفكر الرأسمالي الليبرالي ،فبعد إنتهاء المنظومة الإشتراكية وسقوط الإتحاد السوفياتي كان منظرو الأيديولوجيا الرأسمالية يمهدون الطريق لإضفاء شرعية جديدة على نظام قديم .فبالإضافة إلى تدمير النموذج السوفياتي من الناحية الإقتصادية والعسكرية ،فإنه على الولايات المتحدة أن تحقق الهزيمة الأيديولوجية للماركسية وعدم ترك الفرصة لها لتجديد نفسها!!!
إستعار فوكوياما مقولة نهاية التاريخ من الفيلسوف الألماني "هيقل" التي تعني لديه الدولة الليبرالية ، وآستعار مقولة الإنسان من الأخير من "نيتشه" . يرى فوكوياما أن المشكلات العرقية والقومية والدينية وغيرها ستبقى فقط في البلدان التي تعيش مرحلة التاريخ الراهن ، أما بلدان الديمقراطيات الليبرالية فتكون قد تجاوزت تلك الإنقسامات إلى مرحلة ما بعد التاريخ الحالي .إنطلاقا من هذه المقولة يسهل تقسيم العالم إلى قوى بشرية تناضل داخل تاريخها في حين أن التاريخ الحقيقي قد تجاوز ذلك إلى مرحلة الديمقراطية الليبرالية أي إلى نهاية التريخ . ومأساة الدول المتخلفة والنامية أنها ستستمر في صراعاتها اللاتاريخية طويلا قبل أن تلتحق بركب كل تاريخ سابق عليها ،ومأساة تلك البلدان حسب فوكوياما أن مشكلاتها غير قابلة للحل لا بالعنف ولا بالسلم . سبب ذلك أن العنف يقودها إلى التدمير في الداخل وعندما تنتهي رقصة الدم تجد نفسها قد إبتعدت كثيرا عن الديمقراطية الليبرالية .من جهة أخرى فالديمقراطية في هذه البلدان هشة للغاية لأنها غير محمية من قوى ومؤسسات تحترم الديمقراطية كقيمة مطلقة بحد ذاتها كما تفعل القوى والمؤسسات في البلدان الديمقراطية .ورغم وجود مشكلات حادة في بلدان الديمقراطيات الليبرالية من بطالة وتمييز عنصري وكساد وأزمات سكن وتعليم وعمل وآغتصاب ومخدرات وغيرها ،فإن فوكوياما يفصل في ذلك مؤكدا أن تلك المشكلات عرضية وأن الديمقراطيات الليبرالية ستنتصر في النهاية وهي التي كتبت نهاية التاريخ كما رسمها هيقل منذ قرنين .في تناوله لماركس و الماركسية يذهب فوكوياما إلى أنها إرتدادا أو قطعا معرفيا سلبيا مع المسار الهيقلي لفهم التاريخ وبالتالي لابد من تجاوز ماركس والماركسية معا بعد ما حدث في المعسكر الإشتراكي والذي أدى إلى سقوطه والفشل الذريع للماركسية في الفكر والممارسة معا فوظيفة فوكوياما الراهنة أن يحذف المرحلة الماركسية ليعيد التواصل بين التاريخ ونهايته على هدى مقولات "هيقل". أما التطور المستمر فهو للأفكار الكبرى التي تحرك الأفكار التي تحرك التاريخ ،فالأفكار الكبرى التي تشكل قاعدة التاريخ الشمولي لها بدايات يحاول فوكوياما التفتيش على دعائم لها في فكر "هيقل" أما نهاية هذه الأفكار فإنها تتجسد في مقولة الدولة الليبرالية الهيقلية، إنها نهاية التاريخ[5].
3 - أطروحة صدام الحضارات لهانتنغتون :
بدأت أطروحة "هانتنغتون" حول صدام الحضارات بمقالة نشرها سنة 1993 بمجلة السياسة الخارجية، لتتطور في كتاب نشر سنة 1996 بعنوان "صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي ". خلاصة هذه الأطروحة أن أساس الصراعات والنزاعات في العالم هو أساس ثقافي، وأن الفروق بين الحضارات هي فروق حقيقية وأساسية .يعرف هانتنغتون الحضارة "بأنها أعلى تجمع ثقافي للناس والشعب "[6]،وتتمايز الحضارات بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد وخاصة الدين [7].وفي تصنيفه لحضارات عالم اليوم ،يقسمها "هانتنغتون" إلى الحضارة ، الغربية ، الكونفوشيوسية ، الإسلامية ، الهندية ، السلافية ، الأرثذوكسية ، الأمريكيةاللاتينية والحضارة الإفريقية . أما فيما يتعلق بمرتكزات صدام الحضارات، فإن أبرزها :
- التمايز في مقومات الحضارات وهي التاريخ واللغة وخاصة الدين
- إحتكاك الشعوب المختلفة ببعضها البعض والتفاعل بينها مما يساعد على بروز الفروقات بين الحضارات وآزدياد الوعي بها
- إنعكاسات التحديث الإقتصادي والإجتماعي على الهويات القومية والوطنية مما ولد الرغبة في صيانة هذه الهويات ضد الإختراقات الأجنبية
- إزدواجية النموذج الغربي كنموذج يحتذى إقتصاديا وتنمويا وكنموذج غير مرغوب فيه ثقافيا وقيميا
ينتهي هانتنغتون إلى أن حضارتا الإسلام والغرب هما الأقرب للتصادم والصراع على أرضية ما دار بينهما من صراع يعود إلى 1300 سنة الذي من حلقاته الرئيسية الحروب الصليبية والحروب العثمانية الأروبية والإستعمار هذا علاوة على ما يسميه مؤلف صدام الحضارات ب"إرهاب الجماعات الأصولية" "إن هذا التفاعل العسكري الذي يمتد عمره قرونا بين الغرب والإسلام ليس من المرجح أن ينحسر بل قد يصبح أكثر خطرا"[8]. إن هذه المواجهة التي يرى "هانتنغتون" فيها مواجهة حتمية تعود إلى عوامل مثل الزيادة الديموغرافية الهائلة للمسلمين في العالم، الصحوة الإسلامية ورفض الثقافة الغربية ،زيادة النفوذ العسكري والثقافي الغربي في العالم الإسلامي وسقوط الإتحاد السوفياتي ونهاية الخطر الشيوعي .
ثانيا : نتائج العولمة :
لقد إنتهت العولمة ، والعولمة الأمريكية إلى نتيجتين هامتين يمكن إعتبارهما من الفواصل في تاريخ البشرية وهما أحداث 11 سبتمبر والغزو الأمريكي للعراق.
1 – أحداث 11 سبتمبر وموقف المثقفين الأمريكيين :
إن ما آنتهى إليه "صامويل هانتنغتون من مقدمات فكرية وأيديولوجية للتأسيس للعولمة والذي مفاده أن الصراع العالمي الآتي في أعقاب نهاية الحرب الباردة لن يكون صراع قوة تخوضه دولة أو إئتلاف دول ، على مصادر إقتصادية وأسواق أوعلى مواقع جيوستراتيجية ،وإنما سيكون صدام حضارات وأن الإسلام في ذلك هو "قوة الظلام حسب رأيه " بسبب " نزوع المسلمين نحوالصراع العنيف" على حد قوله قد حظي بآهتمام العالم الغربي قبل أحداث 11 سبتمبر وبصفة خاصة بعدها . فقبل 11 سبتمبر ومنذ بداية التسعينات تاريخ تفكك الإتحاد السوفياتي وحلف وارسو أداته العسكرية سعت المراكز الإستراتيجية الغربية وخاصة الأمريكية منها إلى البحث عن عدو إستراتيجي جديد يبرر بقاء حلف الناتو،وتخصيص النسبة الأكبر من إيرادات الدولة الأمريكية لبرامج التسلح مع إقناع دافعي الضرائب الأمريكية بذلك ، وإستمر بناء القواعد العسكرية في ظل غياب العدو.إن كل ذلك إستوجب من الولايات المتحدة الأمريكية إعادة صياغة عقيدتها العسكرية لضمان تفوقها العسكري ودخلها من مبيعات السلاح التي تجاوزت 60 مليار دولار منذ حرب الخليج الثانية ، هذا حفاظا على قيادتها للغرب بل للعالم بأكمله [9]. لقد بدأت ملامح العدو الإستراتيجي الجديد تتبلور مع مطلع التسعينات عندما أقرت سفيرة الولايات المتحدة بالأمم المتحدة أن "العدو القادم هو الأصولية الإسلامية كمقدمة لتبني نفس الموقف من طرف الحلف الأطلسي الذي عبر عن ذلك صراحة في بيان أصدره سنة 1992 جاء فيه أن الأصولية الإسلامية هي العدو القادم للحلف ،حيث أن الإسلام يملك مقومات سياسية شبيهة بالشيوعية حيث يسعى لمناهضة المشروع الرأسمالي ،وهو صنف من الخطاب كان يوجه للشيوعية بعد الحرب الثانية .يقول إدوارد سعيد "عالم الإسلام أقرب إلى أروبا من كل ما عداه من الأديان غير المسيحية وقد أثار قرب الجوار هذا ذكريات الإعتداء والإحتلال والمعارك الإسلامية ضد أروبا ،كما أنعش في الذاكرة دوما قوة الإسلام الكامنة المؤهلة لإزعاج الغرب ...إن الإسلام ينفرد في أنه على ما يبدو لم يخضع أبدا للغرب خضوعا كليا ...إلخ[10].وهو نفس الموقف الذي عبر عنه رئيس تحرير مجلة الدفاع الوطني الفرنسية بقوله "ينطلق الأروبيون في تعاملهم مع الظاهرة الإسلامية عموما من خلفيات ثابتة وتاريخية ومن معطيات التقارب الجغرافي وفي العموم يخشى الفرنسيون والأروبيون الظاهرة الإسلامية ويعتبرونها تهديدا خطيرا "[11].
بعد 11 سبتمبر أدرك الساسة الأمريكان وقبلهم المفكرون الإستراتيجيون أن عدو الأمس المفتعل بل حليف الأمس والأداة الأمريكية في مواجهة الإتحاد السوفياتي، المتمثل في الجماعات الإسلامية وخاصة جماعة القاعدة الذين إنتصروا على نظام "نجيب الله" الشيوعي في أفغانستان وساعدوا على إنجاز أحد أهداف أمريكا الإستراتيجية وهي الإنتصار على الإتحاد السوفياتي كما إستخدمت أمريكا ظاهرة الإسلام السياسي بدعم من بعض الأنظمة العربية المحافظة وخاصة المملكة العربية السعودية . إن هذا الحليف أصبح عدوا حقيقيا تحول إلى ما تسميه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ب " الضربة المرتدة " وتمكن من إختراق النظام الدفاعي لأقوى قوة عسكرية في العالم فهي المرة الأولى منذ 1812 التي تهاجم فيها الأراضي القومية الأمريكية [12] .وبذلك سقطت نظرية الولايات المتحدة الأمنية القائمة على أن المحيطين الهادي والأطلسي يشكلان عازلا أمنيا طبيعيا ،كما سقطت نظرية التفوق العسكري التكنولوجي والمعلوماتي .لقد كانت أحداث 11 سبتمبر مثالا صغيرا على أن القوة العسكرية الهائلة ليست فاعلة ضد التهديدات الموجودة حسب أحد الساسة الأمريكان[13] .وتبين أن قوة الردع الأمريكية الهائلة قد أعدت لعدو عقلاني يمكن ردعه ،لعدو له شكل وقاعدة ،لعدو يمكن قياس النصر عليه في حال المواجهة ،لعدو له سوابق في العمل السياسي والعسكري يمكن رصد حركته ومواقفه .غير أن العدو الجديد -الذي هو من صنيع الإدارة الأمريكية نفسها على الأقل في المستوى الإعلامي حتى تبرر سياساتها- مختلفا عن ذلك ،فهو يخوض حربا غير تقليدية يختلط فيها المدنيون بالعسكريون ليصبحوا أهدافا مشروعة ،ولا يقبل بأقل من النصرالشامل[14]، حسب ما يصوره الإعلام الأمريكي الذي نجح بعد أحداث 11 سبتمبر في التعبئة ضد العرب والمسلمين حيث إعتبر بعض المثقفين أن صدام الحضارات قد إنطلق وأخذ أشكال إعتداء في الأماكن العامة وفي الجامعات وبرزت حملات التمييز ونزعات الكراهية والأهم من ذلك هو الموقف الذي تبنته النخب السياسية وبعض المثقفين الأمركيين من العرب والمسلمين وكذلك من الإسلام بعد أن وقع الخلط بينه وبين حركات الإسلام السياسي الإحتجاجي .فقد صرح المدعي العام الأمريكي في شهر نوفمبر 2001 قائلا أن "الإسلام دين يطلب فيه الله منك أن ترسل إبنك ليموت في سبيله ،أما المسيحية فهي عقيدة يرسل فيها الرب إبنه ليموت من أجلك". وآقترحت الكاتبة "آن كولتر" غزو بلاد المسلمين وقتل زعمائهم وتحويلهم إلى المسيحية ، وآعتبر "وليام ليند" مؤلف كتاب "لماذا يشكل الإسلام تهديدا لأمريكا والغرب " أن "المسلمين يشكلون طابورا خامسا ويجب تشجيعهم على مغادرة الولايات المتحدة "[15] ،ووصف القس "بات روبرتسون" الذي يملك أكبر شبكة فضائية دينية في الولايات المتحدة ، وصف الإسلام بأنه" خدعة كبيرة" وأن النبيء "محمد" مجرد متطرف ،لقد كان سارقا وقاطع طرق" . لقد تم تتويج هذا التوجه بإطلاق الحملة التي سمتها الإدارة الأمريكية "الحرب على الإرهاب" التي قال عنها عالم اللسانيات الأمريكي "نعوم شومسكي" إن تسميتها "حرب ضد الإرهاب "هي من قبيل الدعاية ما لم تكن الحرب تستهدف الإرهاب بالفعل ،لكن من الواضح أن هذا لم يفكر به أولئك لأن الدول الغربية لا تستطيع أبدا أن تلتزم بتعريفاتها هي نفسها الرسمية لمصطلح الإرهاب كما في القانون الأمريكي أوكتيبات توجيهات الجيش الأمريكي ، فهي إن فعلت ذلك تكشف على الفور أن الولايات المتحدة دولة إرهابية بارزة وبالمثل عملاؤها "[16].
مقابل ذلك وقع ستون مثقفا أمريكيا وثيقة من 10 صفحات تحمل عنوان "رسالة أمريكا ، دوافع الحرب "[17]، صدرت عن المعهد الأمريكي للقيم ومن أبرز موقعيها صامويل مانتنغتون وفرنسيس فوكوياما ودانيال موينهان وغيرهم وقد كتب نص الوثيقة أكاديمي نسوي محافظ -العبارة "لإدوارد سعيد"[18] – هو "دجين باثك ألشتاين" الذي إستقى أفكاره من أستاذ علم الإجتماع مايكل والزر المعروف بميله إلى اللوبي الصهيوني وتبريره لكل ما تقوم به "إسرائيل " الدولة الدينية ولكنه يعرف برفضه لقيام دولة دينية مسيحية في الولايات المتحدة . لقد أشارت الوثيقة إلى مجموعة من المبادئ مثل مبدأ المساواة بين البشر وأن القتل بآسم الله هوشيء مرفوض وحرية الفكر مسألة ضرورية كما أن الموضوع الأساسي للمجتمع هوالفرد الذي تستوجب حمايته من الدولة وبناء عليه فإن كل من يحارب الولايات المتحدة فهو يحارب المبادئ الإنسانية المشار إليها وكأنها مبادئ أمريكا وحدها ، لقد أشارت الوثيقة إلى بعض أخطاء السياسة الأمريكية ولكنها بالمقابل عددت ما تعرضت له الولايات المتحدة من "جرائم "على أيدي العرب والمسلمين مثل تفجير مقر المارينز في بيروت سنة 1983 ولكن الآلاف الذين قتلوا في جميع أنحاء العالم على أيدي القوات الأمريكية في اليابان في فتنام في لبنان في الصومال في العراق وفي فلسطين بسلاح أمريكي ومن طرف حليف أمريكا الإستراتيجي أي الدولة العبرية ، لا تشير إليهم الوثيقة لأنها في نهاية الأمر وثيقة تأييد لإعلان الحرب على الإرهاب الذي أقرته المؤسسة الأمريكية الذي سيكون من نتائجه غزو أفغانستان ثم إحتلال العراق . لقد وصف "إدوارد سعيد" نص الوثيقة في تعليقه السالف الذكر بأنه خطاب يشيع الجهل والتجاهل ويعتم عن حقائق السياسة والتاريخ بالرغم من إدعائه التمسك بالقيم والمبادئ ،إنه نذيربداية مرحلة تنبؤ بآنحطاط الخطاب الفكري والثقافي الأمريكي بعد أن قبل مثقفوا أقوى دولة في العالم التخندق مع الحكومة خاصة وأن البنتقون يقف وراء الوثيقة تمويلا ودعاية للحرب على الإرهاب .
2 – الغزو الأمريكي للعراق :
يعد غزو العراق الحلقة المحطة التاريخية الأكثر أهمية في مرحلة العولمة الأمريكية ورغم ذلك فمن غير المجدي العودة إلى مناقشات ما قبل الحرب التي كانت تدور حول مدى شرعية الخطاب الأمريكي والبريطاني ومن حالفه في الغرب المتعلق بغزو العراق فقد أقرت أغلبية الدول وكل الشعوب في العالم عدم شرعية تلك الحرب بل وقذارتها .
لكن من الضروري الوقوف عند آراء بعض النخب من مسألة الحرب بصورة عامة ،فقد إرتأت هذه النخب ومنذ أحداث 11 سبتمبر ضرورة شن حرب على "الشرق الأوسط " يكون العراق مقدمتها ومحورها الرئيسي، مثلما دعا إلى ذلك "توم دونللي" الذي إعتبر أن مشروع القرن الجديد بالنسبة له يبدأ بغزو العراق ولا يحتاج المشروع حسب رأيه نشر نصف مليون جندي .تردد نفس الموقف لدى "جوناه جولدبرجر" الذي يعمل ب"المجلة القومية " من أن الولايات المتحدة تحتاج إلى الدخول في حرب مع العراق ،لأنها تحتاج للدخول في حرب مع أية دولة في المنطقة والعراق هي أنسب دولة لذلك . ويضيف "برجر" "...وبعد الإطاحة بالطغاة في إيران والعراق وسوريا والسعودية سنبقى مشغولين ، فلا بد من تحقيق الثورة الديمقراطية ،فالإستقرار مهمة أمريكية غير لائقة وهومفهوم مظلل يجب أن نستبعده ،فنحن لا نريد إستقرارا في هذه البلدان ، نريد أن نحدث تغييرا ".إن المهمة اللائقة والتاريخية بناء على ما ذكره "مايكل ليدن" المسؤول السابق في البنتجون تتمثل فيما يلي :"إن التدمير الخلاق هو إسمنا الثاني داخل مجتمعنا ومن الخارج ،إننا نمزق النظام القديم كل يوم ،من التجارة إلى العلم والأدب والفن والعمارة والسينما إلى السياسة والقانون، إن أعداءنا كانوا يكرهون دائما هذه الدوامة من الطاقة والقدرة الخلاقة التي تهدد تقاليدهم وشعورهم بالخزي لعجزهم عن اللحاق بنا ، ولابد من تدميرهم حتى نتقدم في تحقيق مهمتنا التاريخية [19]".فقد كان غزوالعراق وإحتلاله بمثابة المخبر لوضع هذه الأفكار تحت التجربة التاريخية للتثبت من مدى صدقها .
إن إحتلال العراق لم يكن إحتلالا تقليديا كما كانت تفعل قوى الإستعمار التقليدية التي كانت تحافظ على حكم السلالات الحاكمة والأمثلة على ذلك كثيرة(تونس 1881 ،مصر1882 والمغرب 1912 ) فجاء الغزو تحت شعار "التحرير"والتخلص من النظام بعد أن ثبت هشاشة مقولة أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق. لقد كانت الإدارة الأمريكية تدرك أن النظام العراقي يعكس وجود دولة مركزية قائمة على عملية إندماج تاريخي للمجموعات العرقية والطائفية والدينية والمذهبية تطلب إدماجها عملية معقدة وطويلة وربما خضعت هذه المجموعات لعملية توحيد قسري . لقد كان الإحتلال الأمريكي للعراق منذ يومه الأول يستهدف وجود الدولة ومؤسساتها وتاريخها وذاكرتها إذ لم يكتف بإسقاط تمثال "صدام حسين " كرمز لسقوط النظام وإنما أطلقت قوى الإحتلال العنان لعمليات السلب والنهب وحرق الدوائر الحكومية والوزارات والمتاحف الوطنية ودور الوثائق والمخطوطات والأرشيف والجامعات والمراكز العلمية ،إنها رسالة موجهة إلى الدولة العراقية ، مؤسساتها وتاريخها وذاكرتها ، لتعود بالعراق إلى مرحلة ماقبل الدولة مرحلة تمثيلية الطوائف والعشائر والإثنيات والمذاهب سواء كان ذلك في مستوى الإدارات المحلية أو على المستوى المركزي[20]. ولعل أحسن مثال على ذلك مجلس حكم العراق الذي نصبه الحاكم المدني الأمريكي "بول بريمر". إن تدمير مؤسسات الدولة العراقية إقتصاديا وسياسيا وثقافيا وعسكريا هوتدمير للمجتمع العراقي الذي لا شك أنه ولد في أحضان الدولة نفسها شأنه في ذلك شأن كل "المجتمعات العربية ".
ثالثا : أحداث 11 سبتمبر وآحتلال العراق : بدايات العولمة أم نهاياتها :
يؤرخ لبدايات العولمة بسقوط الإتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات من القرن العشرين. لقد إستهدفت العولمة خلال عقد ونصف تقريبا تغيير العديد من المفاهيم ،لعل من أبرزها مفهوم سيادة الدولة الذي تناقص تدريجيا في ظل تدفق الأفكار والمعلومات والسلع والأموال والبشر عبر حدوددها ،فلم يعد للحواجز والحدود الجغرافية أهمية تذكر في ظل الثورة الهائلة في مجال الإعلام والإتصال التي تدعمت بتنامي ترسانة الأقمار الصناعية وتوسع مجال إشتغال شبكة الأنترنات والتكنولوجيات الحديثة التي باتت متعامل بها في عمليات التبادل التجاري والمعاملات المالية خاصة بعد أن أصبح للشركات المتعددة الجنسية سيادة موازية لسيادة الدولة[21] ، بعد أن تمكنت هذه الأخيرة من نقل سلطة الدولة وآختصاصاتها إلى مؤسسات عالمية تتولى تسيير العالم وتوجيهه وهي بذلك تحل محلها[22]. إن مضمون العولمة السياسية في ظاهره دعوة إلى تعميم الديمقراطية والليبرالية السياسية وحقوق الإنسان والحريات الفردية وغيرها من القيم السياسية للمجتمع الغربي، إلا أن باطن العولمة السياسية هو"الأمركة "، إن جوهر العولمة المؤمركة هو إعادة إنتاج مقولات الإستشراق الأمريكي مثل مقولة "روزفلت" أحد رؤساء أمريكا سنة 1898 " قدرنا أمركة العالم "[23]، إن هذه المقولة تتجسد عمليا بعد أن مضى عليها أكثر من قرن ، شعارها القرية الكونية وسيلتها إلغاء الفروقات والخصوصيات الثقافية بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات ،هدفها رأسملة النظام الإقتصادي العالمي كأداة لضمان الربح والربح المستمر لسادة العولمة بل لسادة الأمركة أي الشركات العابرة القومية ، النتيجة هي إلغاء سيادة الدول كمقدمة لإلغاء سيادة الأمم والشعوب وحقوقهم في أوطانهم وفي إمكانياتهم المادية والبشرية .إنها ببساطة الهيمنة الأمريكية ،فإلى أي مدى نجحت هذه الهيمنة المختفية وراء مقولات العولمة ؟ إن أحداث 11 سبتمبر والإحتلال الأمريكي للعراق يعكسان نهاية العولمة كمجموعة من المقولات الجذابة المروجة لأفكار الحداثة والتحررية الإقتصادية والديمقراطية الليبرالية ذات التعددية والبرلمانية وما صاحب ذلك من حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة ...إلخ ،وبداياتها بإعتبارها محاولة لأمركة العالم .إن أحداث 11 سبتمبر وبقطع النظر عن من خطط لها ومن نفذها هي رد فعل غير معهود على العولمة في ثوبها الأمريكي أي على الهيمنة الأمريكية ، إن مركزي التجارة العالمية في نيويورك لا يمثلان فضاءات تجارية تقليدية وإنما يرمزان إلى السيادة "الإمبراطورية " للولايات المتحدة الأمريكية وإلى سيادة شركاتها المتعددة الجنسية ، وما وقع في 11 سبتمبر هو نتيجة لمسار العولمة الأمريكية الذي إنتهى إلى الهيمنة المطلقة على العالم. أما غزو العراق وآحتلاله فيمثل إختبارا حقيقيا لمقولات العولمة والعولمة في ثوبها الأمريكي، فالعراق رفض فتح حدود دولته أمام تدفق الرأساميل الغربية والمعلومات وإلغاء الحواجز القمركية أمام سلع الماكنة الرأسمالية والتفويت في مؤسسات القطاع العام لصالح الخواص ودافع عن سيادة دولته وآستقلالية قراره السياسي ولم يستجب للنموذج السياسي الليبرالي وفاخر بإنتمائه لحضارة تمتد على أكثر من خمسة آلاف سنة وعلاوة على كل ذلك رفض التطبيع مع دولة الصهاينة المسماة "إسرائيل". إن كل ذلك قد وضع العراق خارج منظومة العولمة بل رفضها ومقاومتها ،وهو ما عرضه للغزو والإحتلال الأمريكي بما يرمز إليه ذلك من إصرار أمريكي على أن يكون العراق داخل منظومة العولمة ولكنها العولمة الأمريكية أومحاولة أمركة العراق ليس عبر تدمير جميع مؤسسات دولته ونهب إمكانياته المادية والمعنوية فقط وإنما بالإضافة لذلك تغيير مناهجه التعليمية وكل أدوات التنشئة التي تتولاها المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية والتربوية والأسرية لإعداد جيل يستطيع معايشة العولمة الأمريكية. إن العراق في نهاية الأمر ليس سوى نموذجا لرفض إختراق العولمة ومقولاتها وأحد أبرز ضحاياها .
رابعا : حوار الحضارات أم نظرية الغالب والمغلوب :
إن علاقة الحضارات والثقافات ببعضها البعض هو موضوع حوار فكري قديم متجدد ، فقبل أن يصدر هانتنغتون كتابه حول صدام الحضارات سنة 1996 كان كثير من المثقفين في الغرب والشرق يصدرون المؤلفات ويقيمون الندوات والملتقيات العلمية والفكرية حول علاقة الشرق بالغرب وحول علاقة المسيحية بالإسلام وعلاقة أروبا بالعرب وغيرها من المسائل المتصلة بذلك .فقد إلتقى في مطلع عشرية الثمانينات من القرن الماضي مجموعة من المثقفين العرب والغربيين في ندوة فكرية تحمل إسم حوار الثقافات نظمها ما كان يعرف آنذاك بالمجلس القومي للثقافة العربية ونشرت أعمالها بمنبره الفكري "مجلة الوحدة ".في سنة 2001 أوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن تكون تلك السنة سنة الحوار بين الحضارات وعين الأمين العام للأمم المتحدة لجنة من عشرين عضوا لوضع وثيقة تعرض على الجمعية العامة لإقرارها ، تشرح الحاجة لهذا الحوار وضروراته وفاعليته وقد أعدت الوثيقة في 250 ص حملت عنوان "عبور خطوط التقسيم ..الحوار بين الحضارت". وفي نفس الفترة تقريبا كانت حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية "الإصلاحية "تتخفى وراء "شعار" حوار الحضارات لبناء علاقة جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية . لقد عصفت بهذه الدعوات والمحاولات أحداث 11 سبتمبر.وتكررت الدعوة إلىحوار الحضارات سنة 2002 في مبادرة تولتها جامعة الدول العربية ونشرت أعمالها بدوريتها شؤون عربية ، خلاصة ماجاء في كلمة الأمين العام للجامعة ما يلي " إن الهدف الذي نطمح إليه هو التصدي الرصين لحملة التشويه الموجهة إلينا وكذلك إطلاق حوار موضوعي بناء ،حوار حضارات حقيقي مبني على أسس وقواعد محكمة تسمح بتفجير طاقات التعاون وفتح نوافذ للفهم والتفاهم فيما بين هذه الحضارات ونبذ نظريات التمييز والصراع "[24].وآنبرى "المفكرون العرب " المشاركون في أعمال الملتقى السالف الذكر يدافعون على الثقافة العربية الإسلامية والدور الذي قامت به في تشكيل الحضارة الإنسانية قبل أن تصل إلى مرحلة المساهمة فيها فقط ، لكنهم إنتبهوا في بيانهم الختامي إلى أن وراء الإختلال الحضاري الذي تعيشه الحضارة العربية الإسلامية يقف التخلف الإقتصادي والإستبداد السياسي والفساد بكافة أشكاله وأن التطرف والعنف هي ظواهر ناتجة عن ذلك التخلف والإستبداد ، داعين إلى إقامة العدالة الإجتماعية والديمقراطية وإعادة النظر في البرامج التعليمية ، وتشجيع البحث العلمي .وفيما يتعلق بطبيعة العلاقة الراهنة بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية إرتأى "المفكرون العرب" ضرورة إعتراف الحضارتين كل واحدة بالأخرى،وأن تعاونهما يشكل مدخلا للقضاء على الإرهاب الذي لا دين ولا وطن له..إلخ[25].
لقد فشلت مبادرة الجمعية العامة للأمم المتحدة أمام إختبار 11 سبتمبر سنة 2001 وفشلت دعوة جامعة الدول العربية أمام إختبار الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 .فهل هناك ضرورة لحوار الحضارات؟ وهل هناك صدام حضارات فعلا كما ذهب إلى ذلك "هانتنغتون" وتدافع الكثير من المثقفين في كافة أصقاع الدنيا بين مؤيد ومناوئ ؟ وهل يمكن للمثقف العربي على وجه الخصوص أن يكون محايدا تجاه كل ذلك ؟
إن أطروحة صدام الحضارات وكل دعوات الحوار الحضاري هي بكل بساطة ضرب من الوهم لأن الحضارات الإنسانية لا تتصارع لأن أحدا إرتأى ذلك ،ولأن هذا الصراع لا ينتفي لمجرد أن مجوعة من المثقفين العرب تناولوا هذا الموضوع بالبحث والحوار حتى وإن كان ذلك مع أقرانهم من الغربيين الذين يذهبون نفس المذهب .إن الدونية الحضارية هي وليدة الهيمنة الإقتصادية والسياسية والثقافية ذلك ماتقدمه لنا دروس التاريخ ،فالمجتمع العربي الذي يعيش هذه الدونية رزح لفترة طويلة تحت الهيمنة التركية التي وجدت في الخلافة الإسلامية العثمانية وسيلة لشرعنة ذلك ، وإستمر وضع الهيمنة مع الإحتلال الأروبي الذي عاشه الوطن العربي أكثر من قرن في بعض الأقطار العربية ورغم التضحيات التي قدمتها حركات التحرير العربية لنيل الإستقلال فإن هذا الأخير جاء مشوها بل صوريا فالنظم السياسية التي ورثت المستعمر سرعان ما فقدت شرعيتها أمام أول إختبارللتنمية الإقتصادية المستقلة والمشاركة السياسية القائمة على الديمقراطية والحفاظ على السيادة الوطنية . وبعد إنتهاء فترة ما كان يعرف بالحرب الباردة والسقوط الإستراتيجي للإتحاد السوفياتي إعتقد الكثير أن بروز مقولة العولمة سيكون مدخلا للقضاء على التخلف السياسي والإستبداد السياسي لكن سرعان ما ظهر للعيان أن العولمة ليست سوى ثوب لقوة إستعمارية جديدية هي الولايات المتحدة الأمريكية نزعت هذا الثوب بعد أحداث 11 سبتمبر لترمي به نهائيا مع غزوها وآحتلالها العراق ، إنها العولمة المؤمركة بل لنقل إنها الأمركة التي بشر بها الإستشراق الأمريكي سنة 1898 (أشرنا إلى ذلك سلفا في الجزء المتعلق بالإستشراق الأمريكي) .إن ما يطلق عليه صدام الحضارات لا يعدو أن يكون سوى هيمنة إستعمارية ذات أشكال ظاهرة وأخرى خفية في ظلها إنتشرت مبادئ الإسلام في الغرب حتى أصبحت الديانة الإسلامية الديانة الثانية في دول مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية نفسها وفي ظلها أيضا إنتشرت المسيحية في كثير من البلدان الإفريقية وفي غيرها حتى لا نقول في الشرق لأن جميع الديانات ذات منبت شرقي وبالتوازي مع هذه الهيمنة الغربية إنتشرت مقولات ومبادئ الليبرالية الغربية في المستعمرات ومواقع النفوذ في الوطن العربي وغيره من بلدان العالم الإسلامي . ولم تكن الأدوار التي قامت بها حركات التحرير في دحر الإستعمار التقليدي المباشر مؤشراعلى وجود حضارات تتصادم شأنها في ذلك شأن أحداث 11 سبتمبر التي يبدو أن أصحابها إبتغوا من ورائها كسر شوكة الهيمنة الأمريكية المتفاقمة بإستمرار ولن تكون مقاومة الإحتلال الأمريكي في العراق حلقة من حلقات صدام الحضارات ولو تخفت وراء شعارات الحرب الدينية وإنما ستكون حلقة في سلسلة التصدي للإستعمار والهيمنة الغربية الأمريكية .يمكن أن نضرب مثلا ثانيا على وهم صدام الحضارات والمتمثل في الصراع العربي الصهيوني وإحتلال الصهيونية لأرض فلسطين ،فاليهود الذين توطنهم الصهيونية على أرض فلسطين مدعومة بالغرب الأروبي تاريخيا والغرب الأمريكي حاضرا ينتمون شأنهم في ذلك شأن العرب إلى السامية وينتمي الغرب حليف إسرائيل التقليدي والإستراتيجي إلى الآرية مع إقرارنا بضبابية وهشاشة الإنتمائين ،في حين أن الصراع الدائر بين العرب وإسرائيل هوالأكثر دموية وتعقيدا من بين كافة الصراعات التي عرفتها البشرية على مدى تاريخها الطويل والأكثر تعقيدا من بين جميع أنوع الإستعمار بآعتبار طبيعته الإستيطانية .فهل نحن أمام هيمنة إستعمارية أم أمام صدام حضاري ؟ إنها نظرية الغالب والمغلوب التي أشار إليها إبن خلدون التي تقتضي أن يفرض الغالب شروطه على المغلوب وشروط الغالب في عصر العولمة المؤمركة هي القبول بآقتصاد السوق القائم على مبادئ منظمة التجارة العالمية والشركات المتعددة الجنسية وتدخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ،تطبيق مقولات الليبرالية الغربية بإقامة نظام سياسي دستوري برلماني يعتمد التعددية الحزبية وحقوق الإنسان ولو شكليا كما يحدث في كثير من الدول العربية ،ونشر ثقافة التسامح والسلام ونبذ العنف والتطرف والإرهاب بما في ذلك حركات التحرر والمقاومة وإعطاء حقوق الأقليات، والإستجابة لجميع قرارات مجلس الأمن الدولي وإذا لم يستجب لذلك فالآلة العسكرية الأمريكية كفيلة بتحقيقه ،فهل يستطيع المثقف العربي أن يكون محايدا تجاه الغلبة التي يتعرض لها مجتمعه ؟
نقرأ في تاريخ الأفكار والمفكرين في الغرب أن هؤلاء لم يكونوا محايدين في المعارك التي خاضتها مجتمعاتهم القومية أو مجتمعهم الأروبي ،حتى لما كانت تلك المعارك ذات طبيعة إستعمارية وتهدف إلى إحتلال مجتمعات أخرى ،فقد وصف الفيلسوف الأنقليزي "لوك" الهنود الذين إستعمرتهم بلاده أي المملكة المتحدة بأنهم كسالى وآنفعاليون وجامدون وبعيدون عن الإنظباط وبريون وعنيفون وليس لديهم فنونا وعلوما وثقافة ويفتقرون إلى مؤسسات الدولة وأرضهم خالية ومهجورة ويمكن أخذها دون إذنهم والأنقليزي ليس حرا في أن يأخذ ريع الأرض الهندية ويتدخل في طريقة حياة الهنود وإنما ذلك واجب عليه ، والإستعمار الأنقليزي ضرورة لا غنى عنها لنقلهم إلى المدنية وهذا الإستعمار لا يحتاج إلى تبرير[26].ويتكرر الموقف لدى "ستوارت مل "فيرى أن المجتمعات المتأخرة فاقدة للقدرة على تجديد ذاتها وأنها بحاجة إلى تمدن من الخارج وأن حق عدم التدخل لا تستحقه لأنها لا تملك الحق في سلامة أراضيها .ويؤيد "توكفيل"إحتلال فرنسا للجزائر معتبرا ذلك لصالح الطرفين بل ذهب أبعد من ذلك معتبرا أنه من غير الممكن معاملة رعايا المستعمرات كما لو كانوا مواطنين مثلنا أو مساوين لنا ، وعندما قامت فرق المارشال بيجو بأسر وحرق مئات العرب إمتدح "توكفيل "الخدمة العظيمة التي قدمها الجنرال لبلده على تراب إفريقيا [27].كما عبر الفيلسوف الألماني "كانط " عن موقف ينم عن تطرف عندما شارك في الجدل الدائر حول الإستعمار الأنقليزي لهايتي متسائلا عن مبرر وجودجم أصلا أي سكان هايتي ،فهل سيختلف الوضع لو أن هذه الجزيرة كانت مسكونة من قبل خراف وأبقار سعيدة بدلا من هذه الكائنات البشرية التي تستمد سعادتها من اللذة الحسية[28] ؟ يمكن أن نظيف في نفس الإطار موقف "كارل ماركس " فيلسوف الطبقة العاملة من إحتلال كل من الجزائر والهند من طرف فرنسا وأنقلترا معتبرا ذلك مبعثا على تمدين هذه المجتمعات والتعجيل بها للخروج من الإقطاع والدخول مرحلة الرأسمالية التي ستنتهي بثورة البروليتاريا وتحقيق الإشتراكية!!!
إن هذه الأمثلة تدل بوضوح أن كثيرا من رموز الفكر الغربي الذين شكلوا نموذجا يحتذى لغالبية مثقفي الوطن العربي طيلة النصف الثاني من القرن العشرين لم يلتزموا الحياد فيما يتعلق بقضايا مجتمعاتهم ولم تتوان بعض المجتمعات الأروبية التي عاشت الإحتلال الأجنبي ونخص بالذكر فرنسا تحت الإحتلال الألماني الهتلري ،على فتح تحقيقات وتنظيم محاكمات للمتعاملين مع الإحتلال ولو كان ذلك بعد عشرات السنين . بينما لا يتأخر بعض مثقفينا العرب في إعطاء شرعية للإحتلال الأمريكي للعراق أو الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين والتنظير للعولمة بإعتبارها أمرا واقعا لا يمكن تفاديه بالرغم من الأضرار التي أحدثتها وستحدثها هذه الظاهرة على مجتمعاتهم ولعل ذلك يكون نتيجة لدرجة عالية من الإختراق الفكري والثقافي تحول بموجبه الغازي والمحتل إلى صديق وحليف مع التبشير بالحوار الحضاري معه ،هذا الحوار الذي كثيرا ما يتم بلغة الغازي نفسه وبأدواته الفكرية والعلمية وكأن صراع الشعوب مع محتلي أراضيها هو موضوع حوار أو علامة صدام حضارات .
خامسا : "مشروع الشرق الأوسط الكبير":
إن "مشروع الشرق الأوسط الكبير" هوأحد النتائج المباشرة لإحتلال العراق وهو أحد أبرز إفرازات العولمة في ثوبها الأمريكي . قدمت المشروع الولايات المتحدة الأمريكية لمجموعة الثمانية الصناعية للنظر في إمكانية تبنيه في القمة التي ستنعقد في شهر جوان 2004 . يستند المشروع إلى تقريري التنمية البشرية 2002 و2003 الصادرين عن الأمم المتحدة بعد أن صيغا من طرف مجموعة من المثقفين العرب . خلاصة ذلك ما يلي :
- إن مجموع إجمالي الدخل المحلي للدول العربية هو أقل من نظيره في إسبانيا
- حوالي 40 % من العرب البالغين 65 مليون شخص أميون وثلثي هذا الرقم من النساء
- سيدخل أكثر من 50 مليونا من الشباب سوق العمل بحلول سنة 2010 وسيدخلها 100 مليون بحلول سنة 2020 وهناك حاجة لخلق 6 ملايين وظيفة جديدة
- من المحتمل أن يبلغ معدل البطالة 25 مليونا بحلول سنة 2010
- يعيش سكان المنطقة بأقل من دولارين في اليوم
- في إمكان6 . 1 % فقط من السكان إستخدام الإنترنات وهو رقم أقل مما هو عليه في أي منطقة أخرى من العالم بما في ذلك بلدان إفريقيا جنوب الصحراء
- لا تشغل المرأة سوى 5 . 3 % فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية
- عبر 51 % من الشباب العرب الأكبر سنا عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى
- توجد 53 صحيفة بالنسبة لكل 1000 شخص في البلدان العربية في حين أنها 285 بالنسبة لنفس الرقم في البلدان المتطورة ، هذا علاوة على رداءة محتويات الصحف العربية ، وينسحب نفس الرأي على وسائل الإعلام الأخرى التي تهيمن عليها الدولة
- لا يمثل ما تنتجه البلدان العربية من الكتب سوى1 . 1 % من الإجمالي العالمي تشكل الكتب الدينية 15 % منها ، كما أن الكتب المترجمة إلى اللغة اليونانية التي لا يتكلمها سوى 11 مليون شخص خمسة أضعاف ما يترجم إلى اللغة العربية التي يتكلمه حوالي 300 مليون شخص [29]
تمثل تلك النقاط الأرضية التي إستند إليها "مشروع الشرق الأوسط الكبير" وقد خلص هذا المشروع إلى وصفة ثلاثية الأهداف هي على التوالي تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح ، بناء مجتمع المعرفة ، توسيع الفرص الإقتصادية .
فيما يتعلق بالنقطة الأولى ينطلق المشروع من أن "إسرائيل" هي الدولة الوحيدة الديمقراطية في "الشرق الأوسط الكبير" ، ويرمي إلى إقامة إنتخابات حرة يمكن أن تنجح عبر تقديم مساعدات تقنية لتسجيل الناخبين والتربية المدنية للحكومات التي تطلب ذلك ، تعزيز دور البرلمانات وتبادل الزيارات البرلمانية ، زيادة مشاركة النساء السياسية بعد تدريبهم على ذلك ، الإصلاح القانوني والقضائي عبر تمويل مراكز تقدم إستشارات في ذلك . يحتل الإعلام درجة من الأهمية في المشروع الذي يدعو إلى ضرورة تبادل زيارات الإعلاميين ورسم برنامج لتدريب صحافيين مستقلين وتنظيم زيارات للطلبة المتخصصين في الصحافة إلى معاهد الصحافة والإعلام في البلدان العربية أو في بقية بلدان العالم . ويقف المشروع عند الفساد الذي لا بد من مكافحته ويمكن للمجتمع المدني أن يقوم بدور في هذا المجال إذا تم دعم منظماته المهتمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في مراقبة السلطة وكشف تجاوزاتها في مختلف المجالات .
النقطة الثانية من المشروع الأمريكي تتعلق بمجتمع المعرفة ، في هذا المجال يدعو المشروع إلى محو الأمية عبر تدعيم وتفعيل برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الأمية الذي أطلقته في 2003 تحت شعار " محو الأمية كحرية " مع التركيز على تدريب النساء على مهنة التعليم . ويرى المشروع في إصلاح التعليم ضرورة تستوجب عقد قمة الشرق الأوسط لإصلاح التعليم ، ولا يقل نشر الأنترنات أهمية عن ذلك وهو ما يقتضي ما يسميه المشروع تجسير الهوة الكمبيوترية كمدخل لتحديث التعليم والتجارة.
النقطة الثالثة من البرنامج الأمريكي المسمى ب "مشروع الشرق الأوسط الكبير" تحمل إسم توسيع الفرص الإقتصادية ، مدخل ذلك هوفسح المجال أمام القطاع الخاص ليتولى قيادة العملية الإقتصادية بعد إنهاء تدخل الدولة وهيمنتها على النشاط الإقتصادي ومن ثمة فإن المشروع يقترح برنامجا يقوم على إقراض المشاريع الصغيرة وخاصة تلك التي تتولاها نساء ، بعث مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير التي ستساعد على تنمية مشاريع على المستويين المتوسط والبعيد ، بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير بمساعدة مقرضين من الدول الغنية في المنطقة بهدف تولي مشاريع التنمية والتعمير على غرار البنك الأروبي للإعمار والتنمية ، الشراكة من أجل نظام مالي أفضل لإطلاق حرية الخدمات المالية وتوسيعها بالمنطقة للحد من سيطرة الدولة في مجال المال ورفع الحواجز على التعاملات المالية بين الدول وتوفير الوسائل المالية الداعمة لإقتصاد السوق ، تشجيع التجارة البينة بين دول الشرق الأوسط الكبير بعد إلغاء الحواجز القمرقية كمقدمة لدمجها في منظمة التجارة العالمية لتتحول وظيفتها إلى حماية حقوق الملكية الفكرية للشركات عابرة القومية ، إحداث منبر الفرص الإقتصادية للشرق الأوسط الكبير لجمع مسؤولين من مجموعة الثمانية ومن المنطقة المذكورة لمناقشة القضايا المتعلقة بالإصلاح الإقتصادي[30] .
لاشك أن مشروع الشرق الأوسط الكبير يستدعي التأمل والتفكير حول ما ورد فيه من أفكار :
- لقد إستند هذا المشروع إلى جملة من المعطيات والتشخيصات المستنبطة من واقع الدول العربية وحدها وردت في تقريري التنمية البشرية العربية فهي لا تنسحب على بلدان أخرى صنفها المشروع ضمن الشرق الأوسط الكبير مثل باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وهي مجتمعات تتفاوت لديها مؤشرات التنمية البشرية كما تتفاوت هذه المؤشرات بين الأقطار العربية نفسها
- يرمي المشروع إلى تنظيم الأسواق في هذه البلدان لفائدة الشركات العابرة القومية ، فهو لايشير من قريب أو من بعيد إلى التنمية الإقتصادية المستقلة لهذه البلدان أو إلى روافدها مثل التصنيع أوالنشاط الفلاحي في حين يعطي الأولوية المطلقة لتحرير التجارة والحد من دور الدولة
- يهدف المشروع إلى دمج "إسرائيل" في المحيط العربي بعد أن تبين فشلها في ذلك رغم توقيع إتفاقية كامب دافيد منذ 25 سنة مع الحكومة المصرية وإتفاقية وادي عربة بعد ذلك بأكثر من عقد مع الحكومة الأردنية وبعد سقوط إتجاه التطبيع في أسلو ومدريد وكوبنهاقن ، هذا علاوة إعطاء القيادة المالية للمشروع للدولة العبرية
- إن الديمقراطية والحكم الصالح في المنطقة العربية لا يمكن أن تدعمه الولايات المتحدة إلا شكلا لأنه يؤدي وبكل بساطة إلى كنس هذه الدولة ومصالحها من بلاد العرب لأن الشعب العربي هو الأكثر عداء للولايات المتحدة بسبب دعمها غير المحدود لدولة "إسرائيل" وبسبب تدمير العراق وشعبه الذي كان يمثل آخر ملاذات القوة العسكرية والعلمية التي يمكن تحتاجها الأمة العربية يوما ما في صراعها ضد الصهيونية ودولتها وكذلك بسبب حماية أمريكا لحماية الحكام العرب الذين ينظر إليهم على أنهم مجرد بيادق ينفذون سياسة هذه الدولة
- إن إصلاح التعليم وأدوات المعرفة والمعلومات لا يهدف في حقيقة الأمر إلا إلى تغيير مقومات الثقافة والهوية العربية الإسلامية للحد من التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة الدولية كما ورد في ديباجة المشروع وبالتالي تحقيق أحد أبرز أهداف الولايات المتحدة الذي غزت من أجله أفغانستان
- إن المشروع بات يمثل تحديا حقيقيا لحكام الدول العربية فهم أمام خيارين أحلاهما مر ، الأول تنفيذ الوصفة الأمريكية التي تحد من السلطة المطلقة لهؤلاء الحكام والثاني ترك كرسي السلطة لمن لا يرغب خاصة و أن جل الحكام لم يستوعبوا الدرس من غزو العراق وآحتلاله إلا بعد فوات الأوان
- إن المشروع الحقيقي الذي يجب الإلتفاف حوله هو مشروع الوطن العربي الكبير بدل مشروع الشرق الأوسط الكبير
خاتمة :
لعلنا لا نبالغ حين نستحضر مقولة كارل ماركس من أن التاريخ لا يعيد نفسه وإذا أعاد نفسه فإن ذلك لا يكون إلا في شكل مهزلة ، ذلك أن ما ردده بعض المستشرقين في القرون الماضية حول العرب والإسلام والمسلمين والنبيء محمد يتكرر على ألسنة كثير من "الساسة والعلماء" الأمريكان بعد 11 سبتمبر ، وإن الدور الذي قام به الإستعمار الأروبي التقليدي في الوطن العربي من نهب للثروات وقتل وتدمير للبشر يكرره الإستعمار الأمريكي المعاصر في العراق وفي غيره ، وأن ما إنتهت إليه أمريكا من طرح لمشروع الشرق الأوسط الكبير بعد إحتلال العراق شبيه بمعاهدة سايسبيكو التي أفرزت الإحتلال الأروبي للوطن العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى . إنه صراع الهيمنة الذي يختفي وراء مقولات الحرب الصليبية كما جاء على لسان بوش الصغير بعد 11 سبتمبر ، ومقولات صراع الحضارات ونهاية التاريخ التي روج لها قادة الرأي في أمريكا ، هذا الصراع الذي لا يستند إلى أي شكل من أشكال التوازن .


[1] ذياب (مها)تهديدات العولمة للوطن العربي المستقبل العربي عدد 276مركز دراسات الوحدة العربية بيروت فيفري 2002 ص152
[2] روزناو (جيمس)ديناميكية العولمة : نحو صياغة عملية ، مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية 1997 ، نقلا عن يسين (السيد) في مفهوم العولمة ضمن العرب والعولمة ط3 مركز دراسات الوحدة العربية بيروت أفريل 2000 ص26
[3] الأطرش (محمد)العرب والعولمة ما العمل ضمن العرب والعولمة … المرجع السابق ص412

[4] الأطرش …نفس المرجع ص413 - 414
[5] -أنظر: - مجلة الوحدة عدد 98 نوفمبر 1992 مقال للكاتب مسعود ظاهر بعنوان نهاية التاريخ
– فوكوياما (فرنسيس) نهاية التاريخ والإنسان الأخير مركز الإنماء القومي بيروت
[6] هانتنقتون صدام الحضارات مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق بيروت 1995 ص 18
[7] كوثراني (وجيه) فوكوياما ،هانتنغتون والإسلام ضمن مجلة الإجتهاد عدد 49 شتاء 2001 ص 174
[8] هانتنغتون ،مرجع سابق ص 25
[9] الشطي (إسماعيل) تحديات إستراتيجية بعد أحداث 11 أيلول المستقبل العربي عدد 283 لسنة 2002 ص 32
[10] نفس المرجع ص33 نقلا عن سعيد (إدوارد)تغطية الإسلام ترجمة سميرة نعيم خوري مؤسسة الأبحاث العربية بيروت
[11] نفس المرجع ص 34
[12] فرسون (سمير) جذور الحملة الأمريكية لمناهضة الإرهاب المستقبل العربي عدد 284 لسنة 2002 ص 6
[13] الشطي ،مرجع سابق ص 36
[14] نفس المرجع والصفحة
[15] فرسون ، مرجع سابق ص 14
[16] نفس المرجع والصفحة
[17] أنظر نص الوثيقة على شبكة الأنترنات ، موقع جريدة لموند lemonde.fr بتاريخ 14 –02 -2002
[18] أنظر تعليق إدوارد سعيد على الوثيقة ، نشر على شبكة الأنترنات موقع مؤسسة الأهرام المصرية
[19] بوكنان (باتريك) حرب من ؟ شؤون عربية عدد 114 لستة 2003 ص – ص 104 – 106
[20] بلقيز (عبد الإله) المشروع الممتنع :التفتيت في الغزوة الكلونيالية للعراق ،المستقبل العربي عدد291 لسنة 2003 ص ص55- 57
[21] إبراهيم(حسين توفيق) العولمة :الأبعاد والإنعكاسات مجلة عالم الفكر المجلد الثامن والعشرون العدد الثاني أكتوبر- ديسمبر 1999 ص ص 194 – 195
[22] الوالي (عبد الجليل كاظم) جدلية العولمة بين الإختيار والرفض المستقبل العربي عدد 275 لسنة 2002 ص 71
[23] أنظر بعض مقولات الإستشراق الأمريكي ضمن منصور( خيري) مقدمة في الإستشراق الأمريكي الفكر العربي المعاصر عدد 76 – 77 ماي جوان 1990 ص 103 .
[24] أنظر كلمة الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى بعنوان مؤتمر حوار الحضارات :تواصل لا صراع مجلة شؤون عربية عدد 109 ربيع 2002 ص 247
[25] إعلان ملتقى المفكرين العرب ،نفس المرجع ص ص 249 - 250
[26] بيخو(بارخ)الغرب وآخروه ترجمة ثائر ديب مجلة الإجتهاد عدد 49 شتاء 2001 ص 38
[27] نفس المرجع ص ص 40 – 41
[28] نفس المرجع ص 42
[29] أنظر تقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003
[30] أنظر نص مشروع الشرق الأوسط الكبير جريد الحياة بتاريخ 13 فيفري 2004 ص 10

بورقيبة واشكالية الهوية في تونس مقال منشور في كتاب السلطة وآليات الحكم في عصر الحبيب بورقيبة في تونس والبلاد العربية مؤسسة التميمي للبحث العلمي 2003

بورقيبة واشكالية الهوية في تونس

د. سالم لبيض
المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس

مقدمــــة :
لقد برزت مع نهاية فترة الحكم البورقيبي مقولة هامة وخطيرة في نفس الوقت هي ضرورة مصالحة تونس مع هويتها العربية الإسلامية ، فهذه المقولة التي تبنتها السلطة الجديدة تقر بحقيقة وهي أن " تونس البورقيبية " أو " تونس المستقلة " لم تكن متصالحة مع هويتها العربية الإسلامية بالرغم من أن الدستور التونسي يقر صراحة بأن اللغة الرسمية للدولة والمجتمع هي العربية و الدين هو الإسلام ، إلا أن الدعوة للمصالحة تحيلنا ضمنا إلى واقع التهميش الذي تعيشه كل من اللغة العربية والدين الإسلامي . إن ذلك يمثل عاملا كافيا للبحث في أسباب تهميش الهوية العربية الإسلامية والخلفية التي حكمت الرئيس بورقيبة في ذلك وما آنتهت إليه ممارساته من نتائج دعت إلى رفع شعار المصالحة .
I ـ هوية بورقيبة :
1ـ هوية بورقيبة الإثنية و أصوله التاريخية :
ينتمي "الحبيب بورقيبة " إلى عائلة بورقيبة ذات الأصول الطرابلسية .و ينحدر من قبيلة الدرافلة الليبية التي تنقسم إلى مجموعة من الفروع ( اللحمات )، هي النواصف ،الرضاونة ، المعاتقة ، أولاد رجب و السقاسف وهو الفصيل الذي تنتمي إليه عائلة "بورقيبة" [1].إستقرت هذه العائلة تاريخيا بمدينة مصراته الليبية ،تأثرت كما هو الحال بالنسبة للكثير من العائلات الطرابلسية بالصراع الحاد و الدامي الذي دار بين أفراد الأسرة القرمانلية (1711 – 1835)للظفر بالسلطة و الحكم ، وهو ما انعكس سلبيا على الحياة العامة وساعد على بروز حركات التمرد و الإنتفاضات المحلية التي كانت تهدف إلى التخلص من حكم أفراد هذه الأسرة خاصة بعد إثقال كاهل الأهالي بالضرائب و ما تزامن مع ذلك من إهمال لمختلف الأنشطة الإقتصادية [2].
لقد ساعدت هذه الظروف على هجرة العديد من العائلات الليبية إلى تونس ، فقد هاجر الجد الأعلى ل"بورقيبة " المدعو "الحاج محمد بورقيبة " إلى تونس سنة 1795 عن طريق البحر، حيث إستقر بمنطقة الساحل التونسي مصطحبا معه 40 من عبيده وخدمه .وقع إختياره على مدينة المنستير لتكون موطن إستقراره ضمن ما يعرف ب"حومة الطرابلسية" ، التي قد يكون من المساهمين الأوائل في تأسيسها [3].تشير بعض الدراسات إلى أن عائلة بورقيبة "المنستيرية" عرفت بتأييدها لإنتفاضة "علي بن غذاهم" سنة 1864 التي جاءت كرد فعل على خيارات الضرائب المجحفة التي فرضتها سياسة البايات والتي كانت من نتائجها حملة الجنرال زروق على الساحل وقمعه لسكانه ، كما نهبت وبأمر الجنرال زروق نفسه قطعان الماشية التي كانت على ملك الطرابلسية بمنطقة الأعراض .
وأمر الجنرال زروق في نفس الوقت بإدخال "علي بن الحاج محمد بورقيبة "ليشتغل بالجيش التونسي بين سنة 1864 و1881 وذلك قبل أن يقع تعيينه شيخا على حي الطرابلسية ومستشارا بلديا أثناء الفترة الإستعمارية[4] . في هذا المناخ المتميز ببحث عائلة بورقيبة (الوافدة من منطقة طرابلس) على مكانة إجتماعية متميزة وعلى نفوذ سياسي ولد "الحبيب بن علي بن الحاج محمد بورقيبة " بحي الطرابلسية بمدينة المنستير سنة 1903 !!!
2 – هوية بورقيبة الفكرية والأيديولوجية :
الحبيب بورقيبة هو أحد تلاميذ المعهد الصادقي قبل أن ينتقل للدراسة بالجامعات الفرنسية حيث تلقى تكوينا قانونيا أهله للإلتحاق بمهنة المحاماة بتونس . لقد أعجب بورقيبة بعالم مدينة باريس لفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى فقد عاش مضاعفاتها و أحداثها السياسية والفكرية والأيديولوجية ،وشارك في التظاهرات السياسية والمحاضرات النفسية التي كانت تلقى في مستشفى سانت – آن ، كما عرف عنه حضوره مناقشات مجلسي النواب والشيوخ الفرنسيين . تأثر بورقيبة أثناء فترة دراسته بفرنسا بالمدرسة الوضعية ومؤسسها "أقوست كونت" صاحب المقولة الشهيرة "عش للآخرين" التي كان بورقيبة يرددها كثيرا [5]. يعرف بورقيبة بسعة إطلاعه على تاريخ فرنسا وآدابها وحضارتها هذا علاوة على إطلاعه الواسع على تاريخ تونس منذ العصور القديمة . من الشخصيات التي حظيت بآهتمام بورقيبة ، وكان لها تأثير كبير على شخصيته كل من "حنبعل" و"يوغرطة" و"القديس أغسطينو" وبدرجة أقل مؤسس علم العمران البشري و الإجتماع الإنساني "عبد الرحمان بن خلدون" .ولم يكن بورقيبة يرى حرجا في إجراء المقارنة بينه وبين الرسول محمد (ص)معلنا تفوقه الشخصي عليه[6]. وهو ما دفعه إلى إعلان معاداته للشرق عموما وللعالم العربي الإسلامي خصوصا بسبب تخلفه!!! معتبرا أن تونس هي نقطة إلتقاء بين الشرق و الغرب .
3 – هوية بورقيبة السياسية :
إن ما يشد إنتباه الباحث أثناء قراءته لتجربة بورقيبة السياسية هو قدرته على إدارة الأزمات التي كان يتعرض لها وتحويل مواطن ضعفه إلى إنتصارات وقوة منافسيه ومناوئيه إلى هزائم وتراجعات . أولى التجارب التي خاضها بورقيبة في هذا المجال هي إنضمامه للحزب الحر الدستوري التونسي مع بقية "جماعة العمل التونسي " وذلك أثناء مؤتمر الحزب المنعقد في 12 – 13 ماي 1933بنهج الجبل بتونس إلا أن ذلك لن يستمر طويلا فقد قرر بورقيبة الإستقالة بسبب خلافاته الداخلية مع اللجنة التنفيذية للحزب قبل أن تمر سنة على إنضمامه إلى هذا الحزب وذلك بتاريخ 9 سبتمبر 1933 ، ليبدأ تجربة جديدة هي تجربة إنشاء الحزب الحر الدستوري الجديد الذي عقد مؤتمره التأسيسي بقصر هلال في 2 مارس 1934 الذي ضم ممثلي مجموعة من الشعب الدستورية في الساحل والعاصمة لم يتجاوزعددهم 50 نائبا في حين أن عدد الشعب المنتمية للحزب قد فاق المائتين آنذاك . تمكن الحزب الجديد الذي كان بورقيبة كاتبه العام حتى أحداث أفريل 1938 ثم رئيسه بعد هذا التاريخ أن يحقق لنفسه الإستمرارية والتواصل في حين أن محاولات إنشقاقية وإنقلابية أخرى شهدها الحزب الحر الدستوري لم يكتب لها النجاح من ذلك إنشقاق "حسن القلاتي "و"محمد النعمان "وتأسيسهما "الحزب الإصلاحي" سنة 1921، وإنشقاق "فرحات بن عياد" و"والطيب بن عيسى "و" الشاذلي المورالي" وتأسيسهم "الحزب الحر الدستوري المستقل "بعد ذلك بسنة ، هذا علاوة على المؤتمر الإستثنائي الذي عقده جماعة الحزب القديم في نهاية شهر أفريل من سنة 1934 محاولة منهم لإحتواء الأزمة التي يعيشها حزبهم [7].
المثال الثاني الأكثر وضوحا في نجاح بورقيبة في إدارة الأزمات السياسية هو الطريقة التي أدار بها ما يعرف بالأزمة اليوسفية ، نتيجة توقيعه إتفاقيات الإستقلال الداخلي سنة 1955 وبروتوكول إستقلال تونس سنة 1956 . إنقسم الشعب التونسي ومن ورائه جماعة الحزب الحر الدستوري الجديد نتيجة لذلك إلى قسمين ،قسم موال لرئيس الحزب الحبيب بورقيبة ولجماعة الديوان السياسي وقسم ثان موال للأمين العام صالح بن يوسف ولجماعة الأمانة العامة . تمكنت المجموعة الثانية من تعبئة الغالبية الكبرى من أفراد الشعب ومن منخرطي الحزب الحر الدستوري الجديد بإعلان 374 شعبة دستورية مقاطعتها للديوان السياسي ، منها 350 قررت الإنتماء لليوسفية من خلال إعلانات إنضمام نشرتها على أعمدة الصحف التونسية آنذاك [8]. إن ما يدعم هذا الموقف هو إنضمام الجامعة الدستورية للعاصمة التي تعد لوحدها 60000 منخرط من ضمن 321 ألف منخرط يتوزعون على 31 جامعة دستورية ، إلى الحركة اليوسفية [9]. لقد كانت اليوسفية إضافة إلى ذلك مدعومة بجناحها العسكري المتمثل في "جيش التحرير الوطني " وبتأييد جماعة باندونغ التي إنبثقت عنها حركة عدم الإنحياز وحركات التحرير الوطني والثورة الجزائرية والنظام الناصري . بالرغم من كل ذلك إنتهت اليوسفية إلى الفشل وإنتهى بورقيبة إلى النجاح، فإلى ماذا يعزى ذلك ؟
لقد رأى الكثير من الدارسين أن إنشقاق بورقيبة ورفاقه عن الحزب الحر الدستوري بعد أقل من سنة من إنضمامهم له وتأسيسهم للحزب الجديد الذي حقق نجاحات كبيرة في فترة وجيزة هو نتيجة مباشرة لما تتمتع به هذه المجموعة عامة وبورقيبة على وجه الخصوص من أفكار تحديثية وأساليب جديدة في الممارسة السياسية[10] بالرغم مما يتطلبه ذلك من وقت وتجربة لا شك أنها لم تتوفر لبورقيبة ورفاقه مما يدعو إلى السؤال الذي يتعمق مع خوض بورقيبة تجربة الصراع مع اليوسفية . فقد بينت هذه التجربة طبيعة بورقيبة الإنقلابية مرة أخرى وإعتقاده في صحة رأيه مهما كان فرديا ةخطإ الآخرين رغم تشكيلهم للأغلبية ، يتجسد ذلك في الموقف من توقيع إتفاقيات الإسقلال الداخلي الذي رفضته النسبة الغالبة من أفراد الشعب التونسي ومن الشعب الدستورية ولم يتوان في التحالف مع عدو الأمس أي الإستعمار الفرنسي من أجل تحقيق أهدافه في الوصول إلى هرم الحكم من ناحية والقضاء على جماعة الأمانة العامة وزعيمها "صالح بن يوسف" من ناحية أخرى . لقد تعلم بورقيبة كيف يكون براغماتيا – ميكافيليا فالسياسة لا تعرف غير المصالح أما الأخلاق و المبادئ فلا مكان لها في العمل السياسي ، تلك هي القاعدة التي يتعلمها المبتدئ في علم السياسة الليبرالي والغربي ، وهكذا كان بورقيبة صاحب التنشأة الغربية حتى أن أحد الدبلوماسيين الغربيين علق قائلا عند تنحيته من هرم الحكم في تونس " لم أر رجلا خارج فرنسا أقرب إليها من الرئيس بورقيبة ولم أر في العالم العربي رجلا أقل تشابها مع العرب منه " [11].
II - بورقيبة ومقومات الهوية :
1 – بورقيبة و الإسلام :
تشير بعض الدراسات إلى أن بورقيبة يمثل إمتدادا لمشروع تنويري تعود جذوره إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وهو مشروع يقوم على حجة القوة و الإقتداء بالغرب دون التفريط في مقومات الشخصية الإسلامية !!! إستنادا إلى الفكر الإصلاحي التونسي ممثلا في خير الدين وإبن أبي الضياف على وجه الخصوص[12].
يتسم الموقف البورقيبي من الإسلام بالتذبذب وعدم الإستقرار وقد إنقسم هذا الموقف إلى مرحلتين ، مرحلة قيادة الحزب الحر الدستوري الجديد والحركة الوطنية بين سنتي 1934 و 1956 ثم موقفه أثناء قيادته للدولة الحديثة بداية من سنة 1957 . خلال المرحلة الأولى لا نكاد نجد تصريحا لبورقيبة أو قولا أو تحركا ظاهرا منه يعارض مظهرا دينيا أو قاعدة إسلامية أو قانونا شرعيا . بل لقد جعل من الآية القرآنية "وقل إعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين " شارة لحزبه [13]. والملاحظ أن كل خطابات بورقيبة الشفوية والمكتوبة أثناء هذه المرحلة تبدأ بالبسملة وتتسم بدغدغة الشعور الديني عند تحريضه لقادة الحزب المحليين والقبائل على الكفاح ، هذا علاوة على موقفه الرافض للمؤتمر الأفخارستي ومسألة التجنيس .
مع إنطلاقة المرحلة الثانية وهي مرحلة قيادة بورقيبة للدولة الحديثة بدأت مواقف هذا الأخير تتسم بالإزدواجية ، فهناك إسلام بورقيبة البروتوكولي الذي كثيرا ما عبر عنه أثناء المناسبات الرسمية وغير الرسمية . جاء في إحدى خطبه في نهاية الخمسينات بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف " أخاطبكم من تحت قبة النور وأمام قبلة الهدى، فهذه أول بيت من بيوت الله في المغرب العربي ومنها إنبعث صوت الآذان الخالد " وجاء في إحدى أقواله " لا نعرض عن مبادئ الإسلام كما وقع الإعراض عنها في الماضي ولا ندعي أنها لا تفي بحاجة العصر ولكن نتفهمها حق التفهم " [14]. ولم يكتف بورقيبة بهذه الأقوال بل ذهب أكثر من ذلك عندما أشار أثناء إستقباله للملك فيصل بتونس سنة 1966 إلى أن الأساس الذي قامت عليه الدولة التونسية بعد إستقلالها وهو الأساس الذي قامت عليه الحركة التحريرية هو الإسلام . يمكن وصف "إسلام بورقيبة" بأنه إسلاما بروتوكوليا يتصف بشيء من النفعية والبراغماتية التي يتطلبها كسب الرأي العام على المستوى الوطني وكسب تأييد النخب السياسية والدوائر الإقتصادية و المالية في الدول الإسلامية.
لقد كانت لبورقيبة بالتوازي مع هذه المواقف مجموعة من الممارسات والرؤى العفوية أوما يمكن أن نطلق عليه تسمية "إسلام بورقيبة العفوي " ، تتلخص أبرز معالمه فيما يلي :
- وصف الصلاة بأنها " زقزقة مياه "وإنزال الرأس للأرض ويكون المصلي "يكب ويقعد"
- الدعوة إلى التخلي عن الحج لما ينجر عن ذلك من نزيف للعملة وتعويضه بالحج إلى مقام الصحابي أبي زمعة البلوي بالقيروان
- وصف الصيام بأنه مانع للعمل والإنتاج مع الدعوة للإفطار في شهر رمضان بل الدعوة إلى فتح المطاعم و الحانات أثناء هذا الشهر
- فتح باب الإجتهاد لكل إنسان له "فكر حر ومادة شخمة " فيقبل من الإسلام ما يراه صالحا ويترك ما لا يراه كذلك دون حاجة للمعرفة الدينية أو إلمام بالنصوص ومصادر التشريع التي تحتل مرتبة أكثر أهمية من الإجتهاد مثل القرآن والسنة النبوية
- التطاول على الأنبياء والرسل مثل النبيء إبراهيم بقوله "طلعت البخارية في رأسه" فنام نوما رأى فيه أحلامه والنبيء محمد (ص) الذي يعتبر نفسه متفوقا عليه ، هذا علاوة على السماح بآقتران إسمه معه في أناشيد إسلامية
- القضاء على كل المؤسسات ذات العلاقة بالدين الإسلامي وإصدار التشريعات المنافية له مثل حل جمعية الأحباس والتفويت في أملاكها لفائدة الخواص والدولة وتهميش دور المؤسسة الزيتونية بل القضاء عليها كمؤسسسة تعليمية ذات دور حضاري هام ، هذا إضافة إلى منع تعدد الزوجات بعد إصدار مجلة الأحوال الشخصية وإصدار المناشير التي تمنع الزي الإسلامي[15].
إن المتأمل في حقيقة موقف بورقيبة من الإسلام يصطدم بحقائق مثيرة وغريبة في نفس الوقت ، فالرجل لا يؤمن أصلا بالديانات بمعناها التقليدي ويعتبرها مجرد إختلاقات بشرية ومن ثمة فالرسل عنده ليسوا بمبعوثين من الله كما يدعون ، بل هم قوم ساعدتهم قدراتهم الشخصية وظروفهم الإجتماعية على حمل الرسالة كما يذهب إلى ذلك "محمود الذوادي".[16]
لا شك أن موقف بورقيبة من الإسلام كما تجسد لديه بصفة عفوية ينبع من ظاهرة الشخصنة وعبادة الذات التي ميزت سلوكه وهو ما يتافى مع مبادئ الديانة الإسلامية التي لا ترى في الرسل في نهاية الأمر سوى بشر يمشون في الأسواق ويأكلون . لقد وجهت هذه الديانة نقدا شديدا لكل من إدعى الألوهية مثل فرعون وغيره ، صحيح أن بورقيبة لم يدع الألوهية ولكن حجم تظخم الذات والشخصنة لديه يضعه على طرفي نقيض مع الإسلام الذي يرى في سلوك الأفراد الذبن ينشغلون بشؤون بناء صرح عظمتهم الشخصية ويعملون على تأليه أنفسهم بين الخليقة ، ضربا من ضروب الكفر [17].
لقد أثارت مواقف بورقيبة من الإسلام ردود فعل مختلفة فمنهم من إعتبر ذلك ضربا من ضروب الكفر مثل الشيخ "عبد الرحمان خليفي " الإمام الخطيب بجامع عقبة بالقيروان الذي أصدر كتابا يكفر فيه المفطر المتعمد في رمضان ويدعو إلى عدم الصلاة عليه بعد وفاته ، هذا علاوة على المظاهرة التي إندلعت يوم 16 جانفي 1961 بمدينة القيروان والتي أدت إلى سقوط ضحايا كرد فعل على إقالة الإمام من مهام الإمامة[18]، ومنهم من إعتبر موقف بورقيبة من الإسلام موقفا لائكيا ، يتعلق الأمر بموقف النخبة التونسية المعاصرة أمثال "عبد القادر الزغل " الذي يعتبر أن الدولة التونسية أثناء الفترة البورقيبية هي دولة لائيكية مستدلا على ذلك بأن التعليم والأمور المدنية ترجع إلى الدولة وليس إلى المؤسسة الدينية ،ونفس الموقف عبر عنه "هشام جعيط "وتبناه "عياض بن عاشور" معتبران أن بورقيبة يؤيد لائكية غير معادية لللإسلام [19]. هناك بعض المواقف التي يذهب أصحابها مذهبا آخر معتبرين أن بورقيبة هو إمتداد للحركة الإصلاحية التي جسدها مصلحين أمثال "خير الدين"و"محمد عبده" و"الأفغاني" و"رشيد رضا" وغيرهم بعد أن إستطاع أن يبلور "رؤية إسلامية " هي نتاج لتكوينه المزدوج العربي والغربي[20] !!! وهي رؤية مبالغ فيها ليس لأن بورقيبة لا يعد مفكرا فقط حتى يرتقي إلى مرتبة رواد الحركة الإصلاحية العربية بل هوأحد أكبر دعاة إعتماد النموذج الأروبي الغربي "المتقدم " كبديل للنموذج العربي الإسلامي الشرقي "المتخلف" سياسيا وثقافيا وكذلك تنمويا ولم تكن مواقفه وأقواله وممارساته "الإسلامبة " سوى خدمة لهذا التوجه كما أثبتنا ذلك سلفا .
2 – بورقيبة والعروبة :
إن ما ينطبق على الاسلام يكاد ينطبق على العروبة لدى بورقيبة ، فبعض المناسبات البروتوكولية والرسمية التي إستدعت كسب ود بعض القادة والمسؤولين العرب كانت تفرض عليه الإعتراف بآنتماء تونس للأمة العربية كقوله "نحن جزء من الأمة العربية"[21] أو الإعتراف بحق هذه الأمة في الوحدة السياسية " إن الوحدة هدف نصبو إليه جميعا وهي أمر حيوي بل ضرورة في عصر التكتلات "وهي " وسيلة إستراتيجية للدفاع عن السيادة تجاه الآخر ورد الأطماع والصمود تجاه الضغوط الخارجية "[22].
إن مواقف بورقيبة التي تبدو في ظاهرها مؤيدة للعروبة والوحدة العربية ليست سوى مواقف موجهة للإستهلاك السياسي ، فكثيرا ما أبدى بورقيبة رفضه المعلن للعروبة ولكل ما يمت لها بصلة وربما يرجع ذلك إلى صراعه مع "صالح بن يوسف " رمز التيار العروبي في تونس بداية من سنة 1955 والمعروف برفضه للنهج الذي تبناه بورقيبة القائم على توقيع إتفاقيات الإستقلال الداخلي وبروتوكول الإستقلال في 20 مارس 1956 الذي إعتبره "بن يوسف" كارثة جديدة و لذلك يدعو" الشعب العربي الأبي إلى الحذر واليقظة ومضاعفة الجهود ومواصلة الكفاح الشريف لتقويض صرح الإحتلال الأجنبي "[23]. ويعتبر الخلاف البورقيبي – الناصري وآنحياز جمال عبد الناصر إلى صالح بن يوسف عاملا آخر يضاف إلى عوامل رفض بورقيبة للعروبة بل للقومية العربية كخيار أيديولوجي وسياسي كان عبد الناصر أحد أبرز رواده مما ساعد على تأخر إندماج تونس في محيطها العربي وإنضمامها إلى جامعة الدول العربية [24]. لقد تدعم عداء بورقيبة للعروبة بسبب الأعمال المسلحة التي إستهدفت نظامه وكادت أن تطيح به والتي كانت تنتمي بشكل أوبآخر إلى تيار القومية العربية الذي شهد تناميا لأنصاره في تونس ، مثل محاولة الإنقلاب العسكري التي قادها "لزهر الشرايطي" سنة 1962أوالحركة المسلحة التي قامت بها مجموعة من الفصائل القومية بمدينة قفصة سنة 1980 بقيادة "أحمد المرغني "وبدعم من النظامين الليبي والجزائري .
وكرد فعل على كل ذلك كان بورقيبة يجد مبررا لعدائه للعروبة والقومية العربية فهو صاحب المقولة "إن ما يربطنا بالعرب ليس إلا من قبيل الذكريات التاريخية وأن مصلحة تونس أن ترتبط بالغرب وبفرنسا بصورة أخص وأن مرسيليا أقرب لنا من بغداد ودمشق و القاهرة وأن إجتياز البحر الأبيض المتوسط لأسهل من إجتياز الصحراء الليبية[25] ". وكبديل للعروبة و الإنتماء العربي وجد بورقيبة في "الأمة التونسية والشخصية التونسية " ما ينسجم مع توجهاته الفكرية وإختياراته الأيديولوجية ذات الخلفية الغربية ، فقد جاء في أحد أقواله " الوطن التونسي لا الوطن العربي لأن تونس لها شخصيتها منذ آلاف السنين منذ عهد قرطاج ، أما العرب فيشكلون عدة أمم لا أمة واحدة وهو ما يؤكد إنقسامهم إلى عدة دول [26]".
المستوى الثاني الذي يبرز من خلاله عداء بورقيبة للعروبة هو موقفه من اللغة العربية وإنحيازه للعامية بدل الفصحى ، فقد خطب في ملتقى هواة الأدب في المنستير يوم 29 جويلية 1968 قائلا :" إن اللغة التي يتكلمها الشعب ويفهمها كل تونسي مهما كان نصيبه من الثقافة ومهما كانت الجهة التي ينتمي إليها ومهما تباينت الجهات ليست الفصحى بل العامية لذلك من حق الأدب الشعبي والشعر الشعبي أن يحتلا مكانهما عند الشعب وأن يكون هما أدبه وشعره "[27]. لاشك أن هذا الموقف ليس موقفا عفويا بأي حال من الأحوال ذلك أن الموروث الإستعماري في مستوى الإدارة والتعليم يستوجب تبني سياسة تعريبية شاملة وسريعة للحد من ظاهرة الإزدولجية اللغوية التي أسست لها الإدارة الإستعمارية الفرنسية عموما والمدرسة الفرنكو- العربية على وجه الخصوص خاصة أن اللغة والثقافة العربية كما كانت تدرس بجامع الزيتونة كانت تتعرض للتحقير من طرف المدرسين الفرنسيين بالمدرسة الصادقية كما يروي ذلك الأستاذ" محمود المسعدي"[28] ، مما ساعد على تشويه "الشخصية التونسية " التي باتت ميالة إلى تمجيد لغة المستعمر. لقد حافظ بورقيبة أثناء فترة حكمه علىسياسة الإزدواجية اللغوية مع وضع لغة القرآن في المرتبة الثانية بل في المرتبة الثالثة بعد كل من الفرنسية و العامية التونسية !!! لقد إتسمت سياسات التعريب "البورقيبية" بالتذبذب والإضطراب والتراجع ،ولم يتردد بورقيبة في التصريح سنة 1987 بأن تعريب التعليم في تونس أدى إلى تردي مستوى التلاميذ والطلبة محاولا بذلك تبرير إختياراته في إلغاء التعليم الزيتوني كمربض للغة العربية وثقافتها ،والحد من البعثات الطلابية للمشرق العربي، وعدم القيام بأي حملات تحسيسية بأهمية اللغة العربية كلغة وطنية يجب الإعتزاز بها وإعطائها الأولوية في الإستعمال ،وعلى خلاف ذلك كانت هذه الحملات تشمل ميادين أخرى مثل تنظيم النسل والنصائح الصحية. وقد كان هذا الموقف يشمل الطاقم الحكومي البورقيبي حتى أن وزير أول سابق عرف عنه أنه قال كرد فعل على حركة التعريب بأن ما يهم تونس في المقام الأول هو التقدم ولوكان ذلك عن طريق إستعمال اللغة الصينية[29]، أما التعريب الشامل فذلك لا يعتبر من أولويات السياسة البورقيبية التي حافظت على اللغة الفرنسية كلغة رسمية في الإدارة التونسية بالرغم من أن الدستور التونسي ينص صراحة على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد التونسية وما يتطلبه ذلك من إعتماد لهذه اللغة في كافة المجلات التعليمية والإدارية بين التونسيين هذا علاوة على إعتمادها في تخاطبهم وتراسلهم الرسمي .
3 – بورقيبة والقضية الفلسطينة :
تقدم لنا الدراسة الهامة التي نشرها الدكتور "عبد الجليل التميمي " تحت عنوان "المسألة الفلسطينية وعلاقات الحبيب بورقيبة بالمؤتمر اليهودي العالمي " متابعة دقيقة لتطورعلاقة بورقيبة بالمنظمة الصهيونية العالمية عبر أحد أبرز تنظيماتها وهو المؤتمر اليهودي العالمي وموقفه من نشأة دولة إسرائيل التي هي ثمار نشاط هذا المؤتمر وغيره من التنظيمات الصهيونية ، وهي دراسة لاغنىعنها في فهم هذه المسألة . ملخص ذلك هو أن موقف بورقيبة الذي عبر عنه ضمن ما يعرف بخطاب أريحا سنة 1965 والذي تضمن النقاط التالية :
- ضرورة قبول التسوية التي نادت بها الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين فلسطينية ويهودية
- ضرورة قبول الفلسطنيين مبدأ الحوار مع إسرائيل بدل الحل العسكري
- لا بد على العرب من الإعتراف بالأمر الواقع ووضع حد للسياسة اللاعقلانية لزعمائهم الذين يصفهم بورقيبة بالغباء[30] !!!
وما أثارته هذه التصريحات من إعتداء على عواطف العرب وحقهم في أرضهم المغتصبة وما أنتجه ذلك من ردود أفعال تراوحت بين التصدي المباشر وإتهام الرجل بالخيانة والمطالبة بمحاكمته وإعدامه كما طالب بذلك " أحمد الشقيري " رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك ، ليس موقفا عفويا وليد اللحظة يريد أن يجنب العرب والفلسطنيين شر القتال ، بل هو نتاج لتكوين بورقيبة الذي تلقاه في فرنسا منذ أن كان طالب حقوق هناك ثم تربصه على أيدي أحد المحامين اليهود بتونس وهو "أندريه شمامه " بعد عودته إلى تونس سنة 1927 ، لقد كان بورقيبة من أنصار فكرة التعايش السلمي الإسلامي - اليهودي ، وأحد أكبر المنددين بمن أفشلوا محاضرة حول "الإبحار اليهودي" سنة 1938 والإحتجاج عليهم ونعتهم بذوي العقلية المتأخرة ، وهوما دفع أنصار الحزب الحر الدستوري التونسي القديم وهي الجهة التي وقفت وراء ذلك إلى إعتبار بورقيبة " عميل المعمرين الفرنسيين والصهيونيين وحليف اليهود ضد المسلمين "[31].وبالرغم من ذلك إستمر بورقيبة في محاولة تبرير دفاعه على الطائفة اليهودية بل ذهب أكثر من ذلك سنة 1952أي بعد أربع سنوات من قيام الدولة الصهيونية على أرض فلسطين عندما صرح لجريدة القناص "...أعتقد أنه من الضروري الإرتباط بعلاقات حسنة مع إسرائيل ولو كنا أحرارا لناضلنا في العالم العربي من أجل هذا الهدف "[32]. إن العلاقة بين بورقيبة والمؤتمر اليهودي العالمي بدأت سنة 1954 كما يشير إلى ذلك قولدمان في تصريح له بتل أبيب سنة 1965 وإستمرت بعد ذلك في شكل لقاءات منتظمة بتونس وأروبا طيلة فترة حكمه وقد كان المؤتمر اليهودي العالمي يراهن على الدور الذي يمكن يلعبه بورقيبة في الترويج" للمشروع الصهيوني" في كل من المغرب العربي والوطن العربي فقد وصفه "إيسترمان "السكريتير السياسي للمؤتمر اليهودي العالمي بأنه " أهم رجل دولة ديمقراطي في إفريقيا الشمالية وحتى في العالم العربي ،لممارسة تأثيره لتحقيق السلام في الشرق الأوسط "[33] . وكان بورقيبة يعي جيدا الدور المنوط بعهدته فبالإضافة لما قام به من ترويج حول إمكانية التعايش مع دولة الصهاينة إسرائيل ضمن أحداث أريحا لسنة 1965 المشار إليها ساعد بورقيبة هذه الدولة بالطاقات البشرية من اليهود التونسيين مقرا "بحق اليهود التونسيين المطلق في الهجرة إلى إسرائيل مؤكدا على أن هذا الأمر سيستمر " وهو ما أقره وزير داخليته مصرحا بأن "هجرة اليهود التونسيين سوف تستمر دون عوائق أو قيود من طرف السلطات الرسمية .. ولن أتدخل في شؤون يهود البلد، ومن هذا الجانب لا تقلقوا أبدا حول مسألة مغادرتهم البلاد ...وأنه لا يمانع في وصول يهود آخرين شريطة أن يكون العدد ضروريا وأساسيا لنشاط الوكالة اليهودية " ، وقد وصل عدد المهاجرين من اليهود التونسيين إلى ما يفوق الخمسين ألفا [34].
يقودنا كل ما سلف إلى مناقشة دور بورقيبة فيما يسمى بعملية السلام ، إذ يذهب بعض الدارسين وكذلك بعض مؤيدي بورقيبة ومريديه إلى أن الرجل كان مستشرفا للمستقبل وصاحب رؤية ثاقبة لما ستؤول إليه الأحداث من إتفاقات وتوقيع معاهدات سلام مع دولة إسرائيل عدو الأمس ، ويمكن أن يكون ذلك صحيحا بناءا على فرضيتين إثنتين:
- الفرضية الأولى : أن يكون بورقيبة خاليا من رصيده السياسي المؤيد والمرتبط بنشاط بعض التنظيمات التي لها علاقة بالنشاط الصهيوني أو هي إحدى أدواته مثل المؤتمر اليهودي العالمي الذي تمكن من أن يكسب تأييد بورقيبة لهجرة اليهود التونسيين هذا علاوة أن الرجل هو أول عربي يؤيد قيام دولة إسرائيل وما يعنيه من ذلك تحويل لوجهة الصراع بين العرب وعدوهم وإلغاء للحواجز السياسية والنفسية في مرحلة كانت حاجة العرب إلى حشد القوة ودعم المقاومة وليس التلويح بسلام يفرضه قانون الغالب على المغلوب حسب لغة إبن خلدون ، الغالب هو محتل الأرض والمغلوب هو صاحب الأرض الحقيقي .
- الفرضية الثانية : أن يكون السلام و التعايش قد حصل بين العرب وإسرائيل بعد تلك الحروب الطويلة التي عرفتها المنطقة ، لقد بينت الأحداث أن مقولة التعايش هي مقولة وهمية وأن إتفاقات السلام التي بدأت بكامب دافيد المصرية الإسرائيلية ووادي عربة الأردنية الإسرائيلية وقبلها إتفاقيات أوسلو الفلسطينية الإسرائيلية هي في واقع الأمر إتفاقات ورقية أما على الأرض فهناك مغلوب وهناك غالب ،أما الغالب فهو ذلك الذي يفرض شروطه على أرض إحتلها ويقتل أهلها وليس له إستعداد للتفريط في شبر واحد منها بل وليست له إستراتيجية سلام بل له إستراتجية حرب وجوسسة وتخريب لم ينج منها مجالا من مجالات الحياة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية ، وأما المغلوب فهو ذلك المسلوب الأرض والعرض والقوة وهو المقتول والفاقد لجميع الحقوق ، وما بين هذا وذاك نمت تلك الأعشاب الطفيلية التي أطلق عليها جماعات السلام مثل جماعة كوبن هاقن وجمعيات السلام التي ظهرت في كثير من الأقطار العربية بالتوازي مع مؤتمر مدريد وإتفاقيات أوسلو وآختفت بآختفائها مع إنطلاقة الإنتفاضة الفلسطينية الثانية . فهل كان بورقيبة مستشرفا لمستقبل الصراع بين العرب وإسرائيل أم كان ممهدا لتسرب الصهيونية للعقل العربي؟
III - الهوية البورقيبية :
1 – تحديث سياسي مرضي :
يقصد بالتحديث السياسي إقامة نظام ديمقراطي بإعتبار ذلك ضرورة من ضرورات هذا العصر وهو مقوم ضروري للإنسان المعاصر الذي لم يعد مجرد فرد في رعية بل أصبح مواطنا يتحدد كيانه بجملة من الحقوق هي الحقوق الديمقراطية التي في مقدمتها الحق في إختيار الحاكمين ومراقبتهم وعزلهم فضلا عن حق الحرية ، حرية التعبير والتفكير والإجتماع وإنشاء الأحزاب [35]. فهل إستجابت البورقيبية لذلك ؟ إن هذا السؤال يستمد شرعيته من أن بورقيبة داعية التحديث و العقلانية وهي الأرضية التي قامت عليها الليبرالية السياسية الغربية ترك تراثا سياسيا غنيا بمعادات الديمقراطية وإطلاق العنان لهيمنة الحزب الواحد ورفض أي شكل من أشكال التعددية الحزبية وذلك حسب رأيه راجع إلى أن "الواقع والظروف الحالية جعلت قيام حزب آخر أمرا غير معقول ، إذ لم يوجد تكتل له طريقة أخرى وأهداف أخرى ووسائل أخرى توفي بالصالح العام وتجمع حولها جانبا عظيما أو حتى متوسطا من الشعب التونسي "معتبرا أن التعددية السياسية هي مولدة للصراعات والمزايدات والديماغوجية والتخريب ، خاصة و أن الظروف التي عرفتها تونس منذ 1933 لا تسمح بظهور قائمات أخرى ، من يمكن لها أن ترشح أفضل مما قدمنا ؟وماذا عساها أن تقدم كنتائج أثرى مما فعلنا ؟ومن أين لها أن تدافع عن برنامج أصلح من برنامجنا .[36] لقد كان بورقيبة يعتبر الشعب التونسي شعبا متخلفا عن مقتضيات الممارسة الديمقراطية بل يعتبر ذلك طامة كبرى بالنسبة لشعب متخلف ذهنيا ونفسيا مثل الشعب التونسي[37].ويذهب بورقيبة نفس المذهب بالنسبة للحرية التي يؤدي "فتح بابها على مصراعيه إلى أن يلجه من لايستحق الحرية ويستعملها للهدم وزرع بذور الحقد والكراهية وتشتيت شمل الأمة وتقويض أسس الدولة وما من سبيل لمنح الحرية الكاملة على نحو ما هو موجود في بريطانيا إلا حين يصل مستوانا إلى مستوى الشعب البريطاني [38]". لقد كانت تلك الخطب والمواقف هي الخلفية التي حكمت المجتمع التونسي عامة والمجتمع السياسي على وجه الخصوص فالتجربة السياسية لتونس أثناء الفترة البورقيبية تبين أن التحديث السياسي المتمثل في وضع دستور ومجموعة من النصوص القانونية الأخرى المكملة مثل مجلة الصحافة أوالمجلة الإنتخابية أوغيرها لتنظيم الحياة الحياة السياسية لم تكن سوى إجراءات بروتوكولية لأن الرجل لا يؤمن أصلا بحق الشعب في الحرية و الديمقراطية طالما أن هذا الشعب متخلفا ، مما أدى إلى إرساء تجربة سياسية تتميزبسيطرة الحزب الواحد الذي هوالحزب الإشتراكي الدستوري وبالتداخل الكامل بين الحزب والدولة وهو ما سيؤدي إلى دولنة المجتمع بصفة مطلقة كل ذلك من أجل هيمنة بورقيبة على الجميع وآختزال كل من الدولة والمجتمع في شخصه ، ألم يقل "النظام أنا "[39] . لقد حولت شخصنة بورقيبة للدولة مؤسسات هذه الأخيرة إلى مجرد أجهزة كاريكاتورية فارغة من أي محتوى فرئيس الحكومة هو مجرد رئيس لديوان بورقيبة ومنفذا لسياساته ، والبرلمان ذو اللون الواحد هو مجرد حجرة لتسجيل القوانين التي تتقدم بها الحكومة ومقولة فصل السلط هي مقولة شكلية لأن السلطة القضائية تحولت إلى مجرد جهاز من أجهزة السلطة التنفيذية وظف في حالات كثيرة لإجتثاث المعارضات السياسية هذا علاوة على تحويل مؤسسات الدولة إلى إقطاعات خاصة يتصرف فيها ذوي النفوذ في الحزب – الدولة دون رقابة أي كان [40].وفيما يتعلق بنظرة بورقيبة للمجتمع فإن تخلف هذا الأخير قد جعل منه مجرد ورشة يجري فيها بورقيبة تجاربه السياساته المختلفة فهو أب الإستقلال التونسي وهوصاحب فضل تأسيس الدولة الحديثة !!! الذي يفعل ما يحلو له ، حتى تحول المجتمع التونسي تحت تأثير ذلك إلى مجرد جوقة دائمة تزين مناسبات بورقيبة العامة مثل الحملات الإنتخابية (الرئاسية و التشريعية والبلدية) وزياراته وخطبه في الجهات أثناء المناسبات والذكريات الوطنية وأعياده الخاصة مثل عيد ميلاده الذي تستمر الإحتفالات به كامل شهر أوت (إلقاء المحاضرات ، إلقاء الأشعار لاسيما الشعبية منها وإقامة حفلات الطرب ) ، كما جعل من شوارع المدن التونسية فضاءات لنصب تماثيله وما يعكسه ذلك من تظخيم للذات بل وعباداتها [41].مستفيدا في ذلك من طبقة سياسية ونخبة فكرية إنتهازية [42]لم تكتف بمحاولة إضفاء الشرعية على ممارسات سياسية تتنافى مع قيم الديمقراطية الساسية و مع أخلاق المجتمع وقيمه ومقومات هويته بل عملت على تنظير مقولات طوباوية مثل مقولة "الأمة التونسية"[43].لا شك أن بورقيبة لم يكن يؤسس فقط لدولة كليانية ذات لون واحد ترفض أي تنوع أوتعدد أوإختلاف سياسي أو تداول على السلطة وإنما إضافة إلى ذلك كان يعيد إنتاج مفهوم سياسي "قروسطي "وهو مفهوم "الشعب القطيع " الذي يرتبط مصيره بمصير حاكمه مما يدفعه إلى منح حاكمه ورئيسه حق الرآسة مدى الحياة . إن إرساء بورقيبة قواعد الحكم المطلق والإستبداد السياسي يمثل الأرضية الخصبة لتهميش أية مطالبة من طرف المجتمع والمجتمع السياسي للإندماج والتواصل مع المحيط المغاربي والعربي تجسيما للروابط العربية الإسلامية .
2 – البورقيبية وحركات الهوية في تونس :
لاشك أن مواقف بورقيبة من الحركات السياسية لن تكون محكومة برؤيته السياسية القائمة على الإستبداد ورفض إسناد الشرعية لأي كيان سياسي يمكن أن ينافسه أو ينافس حزبه في تسيير شؤون البلاد فقط وإنما إضافة إلى ذلك رفض شرعية الحركات التي تستند إلى شرعية الهوية . فعندما إضطر النظام البورقيبي إلى الإعتراف ببعض الأحزاب السياسية ومنحها الشرعية القانونية بعد الأزمة مع الحركة العمالية والنقابية سنة 1978 والحركة المسلحة التي شهدتها مدينة قفصة سنة 1980 ، إكتفى هذا النظام بالإعتراف بالأحزاب التي نشأت وترعرعت في أحشاء الحزب الإشتراكي الدستوري مثل " حركة الإشتراكيين الديمقراطيين "و" حركة الوحدة الشعبية " ، إذا ما آستثنينا الحزب الشيوعي التونسي الذي يستمد شرعيته وجوده التاريخي بالرغم من حضر نشاطه ما بين 1963 و1981. أما أحزاب الهوية ونقصد بذلك الأحزاب التي تتخذ من القومية العربية أوالفكر الديني الإسلامي مرجعية لها ، فقد أغلق الباب أمامها منذ البداية أي منذ أن صدر قانون الأحزاب الذي يرفض قيام أحزاب تستند إلى شرعية اللغة أو الدين بإعتبار أن تلك قواسم مشتركة بين جميع التونسيين ،وقد نسي بورقيبة وأجهزة حكمه أو تناسى أن التراث السياسي الليبرالي الغربي يحتوي شواهد كثيرة على وجود أحزاب غربية كثيرة تستند في خلفيتها الفكرية والسياسية إلى الديانة المسيحية أو إحدى القوميات الأروبية .وبالرغم من الشروط المجحفة التي وضعت أمام الحركات ذات الهوية القومية أوالإسلامية فقد تقدمت هذه الحركات بمطالب إلى سلطة الإشراف لنيل تأشيرة العمل القانوني بداية من سنة 1981 أي بعد إعلان بورقيبة في المؤتمر الإستثنائي للحزب الإشتراكي الدستوري من أنه " لا يرى مانعا من ظهور تنظيمات وطنية سياسية كانت أو إجتماعية بشرط أن تلتزم بالمصلحة العليا للبلاد والشرعية الدستورية وحماية المكاسي القومية ونبذ العنف والعصبية وعدم الولاء أيديولوجيا وماديا للخارج "[44] وما أضافه محمد مزالي من ضرورة الإعتراف بالشرعية البورقيبية ورآسته مدى الحياة ، بالرغم من ذلك فقد رفضت السلطة مطلب التأشيرة الذي تقدم به الأستاذ "البشير الصيد " لحركته "حركة التجمع القومي العربي " حتى تمارس نشاطها بصورة معلنة و قانونية وتصدر الحركة الجريدة الناطقة بإسمها وهي جريدة "النداء العربي " ، كما تعرض الأستاذ الصيد مؤسس هذه الحركة إلى المحاكمة و السجن [45]. الطرف الثاني من حركات الهوية الذي تقدم بطلب تأشيرة حزب قانوني هو "حركة الإتجاه الإسلامي " الذي إضافة إلى رفض حقه في العمل القانوني وإصدار جريدة ناطقة بإسمه تعرض كوادره للمحاكمة والسجن في السنوات 1981 و1982 و1983 وإغلاق منابره الفكرية مثل مجلة المعرفة بل ودفع هذه الحركة إلى خيار العنف من جديد [46].
إن المتأمل في تجربة بورقيبة الفكرية والسياسية يلاحظ أن الرجل كان محكوما بالإرث الزيتوني فهو يدرك أن الجامع الأعظم كان المنبر الذي دعم جماعة الحزب القديم كما دعم مشائخه حركة الأمانة العامة اليوسفية وكانت منظمة " صوت الطالب الزيتوني " المنظمة الطلابية التي نشأت في أروقة هذا الجامع الطرف المعادي لبورقيبة وتوجهات حزبه التفاوضية ، وهو ما دفعه إلى وضع حد لنشاطه العلمي والسياسي ، ومن ثمة فهو يعلم أن حركات الهوية في تونس لن تكون إلا سليلة الحركات التي نشأت بالجامع الأعظم والحركة اليوسفية التي وجدت تأييد الناصرية في مصر ذلك العدو القديم الذي وجد بورقيبة شعاراته ومبادئه تتكرر ضمن برامج الحركات القومية الناشئة .
3 – أزمة البورقيبية :
إن مأزق البورقيبية يتجد بصورة رئيسية في عجزها على إعادة إنتاج ذاتها في شكل تيار فكري وسياسي بعد أن إنتهت كتجربة في مقاومة الإستعمار!!! وفي السلطة والحكم . لقد كان بورقيبة يعمل على أن يكون ندا لـ "جمال عبد الناصر " هذا علاوة على أنه خصمه التقليدي ، إلا أن الملاحظ أن تجربة عبد الناصر في الحكم وما تركه من آثار فكرية وسياسية من خطب ومؤلفات (فلسفة الثورة ،الميثاق وبيان 30 مارس) قد كان لها تأثيرا واسعا في النخب السياسية والفكرية العربية بإعتبارها تمثل حلقة من حلقات حركة النهضة العربية فنشأت التنظيمات والحركات الناصرية وبرز المنظرون الناصريون على أيام عبد الناصر وما بعدها حتى أن بعض شباب هذه الحركات قد ولد بعد وفاة عبد الناصر لقد باتت الناصرية تيارا واسعا في الوطن العربي بأكمله وهي نموذج للتجربة الوطنية في الحكم في معادات الإستعمار والعدالة توزيع الثروة ...إلخ فماذا عن البورقيبية ؟ إذا ما إستثنينا بعض المذكرات التي كتبها بعض وزراء بورقيبة السابقين التي هي أقرب إلى رد الإعتبار لذواتهم التي تعرضت إلى الإهانة وسوء المعاملة وبعض البحوث العلمية التي وضعاها أكاديميون ضمن قراءاتهم للتحولات التي يعيشها المجتمع التونسي لاسيما ما يقوم به الأستاذ "عبد الجليل التميمي " من مؤتمرات علمية حول التجربة البورقيبية فإننا لا نكاد نعثرعلى تيار بورقيبي ولا على تنظيرات ولا أقول نظرية بورقيبية في تونس أو خارجها ولعل ذلك يعود إلى البورقيبية لم تشكل في أي وقت من الأوقات نموذجا يحتذى ولعل ذلك يعود إلى أن صاحبها أراد لها أن تكون نقيضا للهوية ومقوماتها الرئيسية أي العروبة والإسلام .
خاتمـــــــــة:
خلاصة هذه الدراسة هو أن الحبيب بورقيبة لم يكن معصوما من الخطإ ويرتقي بتجربته فوق النقد ، لقد بدأ حياته مناضلا سياسيا بعد أن نشأ في أسرة ذات أصول طربلسية إستقرت بالمنستير في نهاية القرن الثامن عشر ودرس في المعهد الصادقي ثم بالجامعة الفرنسية ،وإنتهى به الأمر رجل دولة طيلة ثلاثين سنة كاملة وما بينهما لم يتوان عن إعلان عدائه للهوية العربية الإسلامية ومقوماتها الرئيسية المتجسدة في العروبة والإسلام بسبب خلافه العميق مع الحركة اليوسفية وبسبب ما تلقاه من تكوين غربي أراد أن يقوم بتحديث المجتمع على ضوءه فجاء تحديثا مرضيا نتيجة عقلية الإقصاء التي مارسها ضد مكونات المجتمع السياسي وخاصة أحزاب وحركات الهوية .

[1] أغسطيني (هنريكو)سكان ليبيا القسم الخاص بطرابلس ،تعريب التليسي (محمد خليفة) دار الثقافة بيروت 1975 ص 267
[2] بن إسماعيل (عمر) إنهيار حكم الأسرة القرمانلية في ليبيا مكتبة الفرجاني طرابلس 1966 ص 15
[3] إبراهيم ( أبو القاسم أحمد) المهاجرون الليبيون بالبلاد التونسية مؤسسة عبد الكريم بن عبد الله للنشر تونس 1992 ص 61
- ورد في هذا المؤلف أن عائلة بورقيبة المستقرة بمدينة مصراته الليبية من العائلات الثرية ، و إنعكس ذلك على سلوك الجد الأعلى لبورقيبة بعد هجرته للمنستير حيث عرفت هذه العائلة بتقديمها مائدة أكل للفقراء كل يوم جمعة بحومة الطرابلسية ، هذا علاوة على عتق الحاج "محجد بورقيبة " لعبيده الأربعين سنة 1846.
[4] نفس المرجع و الصفحة
[5] كريم (مصطفى) تأملات في شخصية بورقيبة تعريب (التميمي ) عبد الجليل ضمن الحبيب بورقيبة وإنشاء الدولة الوطنية قراءات علمية للبورقيبية منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي و المعلومات أفريل 2000 ص 13
[6] نفس المرجع و الصفحة
[7] جلاب (الهادي)مؤتمر 2مارس 1934 قطيعة أم تواصل ضمن مؤتمر قصر هلال إعداد عبد المجيد كريم ، حسين رؤوف حمزة والهادي جلاب منشورات المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية ص ص 5 - 6
[8] الشابي (منصف )صالح بن يوسف دار الأقواس للنشر 1990 ص 185
[9] واردة (منجي) جذور اليوسفية المجلة التاريخية المغاربية عدد 71 – 72 ماي 1993 ص 502
[10] Khaddar (Moncef) Parti unique et violence politique en Tunisie memoire de D E S Universite de Paris I 1971 p10
[11] الذوادي (محمود) العلاقة بين شخصية بورقيبة وأزمة الهوية في المجتمع التونسي الحديث مجلة دراسات عربية عدد 11-12 \ 32 سبتمبر - أكتوبر 1996 ص 116
[12] الكيلاني (مصطفى ) المضامين الثقافية ورموزها في عهد بورقيبة ضمن الحبيب بورقيبة و إنشاء الدولة ...مرجع سابق ص ص 169 – 170
[13] الهيلة (محمد الحبيب ) بورقيبة و الإسلام ضمن الحبيب بورقيبة ... مرجع سابق ص 179
[14] نقلا عن الهيلة ...المرجع السابق ص ص 180 - 181
[15] الهيلة ...مرجع سابق ص 183 ، كريم ، تأملات ... مرجع سابق ص 16
[16] الذوادي، العلاقة بين شخصية ... مرجع سابق ص 116
[17] الذوادي ... نفس المرجع ص 117
[18] العلاني (علية) الخلفيات الدينية والسياسية لمظاهرة 1961 بالقيروان ضمن أعمال المؤتمر الثاني حول بورقيبة والبورقيبيون وبناء الدولة الوطنية مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات سبتمبر 2001 ص 119
[19] نقلا عن سعد (منيرة) بورقيبة و الإسلام ضمن بورقيبة والبورقيبيون ...المرجع السابق ص 187
Zghal ,A bdelkader , “l islam ,les janissaires et le destour “ in Tunisie au present une modernite au dessus de tout soupcon CNRS Paris 1987 p p 371 – 384
Ben Achour ,Yadh , ‘Islam perdu ,islam retrouve ‘ in le maghreb musulman CNRS Paris 1981 pp 65 - 75
[20]Hajji(Lotfi) Pour une relecture critique de la relation de bourguiba a l islam in Realites n 850 \11-17 \4\2002 p23
[21] خطاب بورقيبة يوم 13 ديسمبر 1963
[22] خطاب بورقيبة بمناسبة زيارة العقيد القذافي إلى تونس
[23] التركي (عروسية ) الطاهر لسود بين بورقيبة بن يوسف وعبد الناصر مجلة الوطن عدد4 1997 ص 12
[24] الكتاب الأبيض في الصراع بين الجمهورية التونسية والجمهورية العربية المتحدة ، كتابة الدولة للشؤون الخارجية التونسية ديسمبر 1958 ص ص 34 - 36
[25] عبد الله (الطاهر)الحركة الوطنية التونسية رؤية شعبية قومية جديدة مكتبة الجماهير بيروت 1976 ص ص 155
[26] الحناشي (عبد اللطيف ) موقف الحبيب بورقيبة من قضايا الوحدة العربية والمغاربية ضمن أعمال مؤتمر بورقيبة والبورقيبيون ...مرجع سابق ص ص 88 - 89
[27] نقلا عن البالغ (الهادي) الخصوصية اللغوية والثقافية ضمن الذاتية العربية بين الوحدة والتنوع ،مركز البحوث و الدراسات الإقتصادية والإجتماعية بتونس 1979 ص 76
[28] الذوادي (محمود) التخلف الآخر الأطلسية النشر جانفي 2002 ص 183
[29] نفس المرجع ص ص 184 - 185
[30] التميمي (عبد الجليل )المسألة الفلسطينية وعلاقات الحبيب بورقيبة بالمؤتمر اليهودي العالمي ضمن الحبيب بورقيبة وإنشاء الدولة ... مرجع سابق ص38
[31] نفس المرجع ص صر43 - 44
[32] نقلا عن المرجع السابق ص ص 47 – 48 جريدة Le franc – tireur بتاريخ 7 فيفري 1952
[33] أنظر نص التقرير الذي نشره الأستاذ التميمي ضمن دراسته السالفة الذكر ص 58
[34] التميمي ... نفس المرجع ص 50
[35] الجابري (محمد عابد) إشكالية الديمقراطية والمجتمع الكدني في الوطن العربي مجلة المستقبل العربي عدد 167 –1 – 1993 ص 13
[36] أنظر خطابات بورقيبة على التوالي في 11ماي و29 جويلية 1963 و7 ديسمبر 1965
[37] خطاب بورقيبة في 26 أفريل 1966
[38] خطاب بورقيبة في 18 جانفي 1963
[39] وناس (منصف ) الدولة والمسألة الثقافية في المغرب العربي سراس للنشر ص 8
[40] الصغير (عميرة علية )هل نجح بورقيبة في مشروعه التحديثي ضمن أعمال المؤتمر الثاني حول بورقيبة والبورقيبيون ...مرجع سابق ص 111
[41] الذوادي ... مرجع سابق ص 116 ، أنظر كذلك الذوادي (محمود) تأملات في العهد البورقيبي في ضوء كتاب رسالة مفتوحة إلى الحبيب بورقيبة ، دراسات عربية عدد 1 ج 24 سيتمبر 1988 ص 130
[42] بوقرة (عبد الجليل) هل بورقيبة مستبد ؟ ضمن بورقيبة والبورقيبيون ... مرجع سابق ص 67
[43] المبروك (مهدي ) هل نحن أمة ، أزمة الإنتماء لدى النخب التونسية دار البراق للنشر 1989 ص ص 26 – 31
[44] خطاب بورقيبة في المؤتمر الإستثنائي للحزب الإشتراكي الدستوري جريدة الصياح 11 أفريل 1981
[45] مقابلة مع الأستاذ البشير الصيد أجرتها معه مجلة الشراع اللبنانية بتاريخ 24 – 12 1984
[46] أنظر مقالنا التحولات في أنماط الخطاب الديني في المغرب العربي المجلة التاريخية المغاربية عدد 95 – 96 ص ص 595 – 597