عرس الذيب... أو مستنقع العنف والجنس في السينما التونسية
بقلم: د.سالم لبيض
بقلم: د.سالم لبيض
أستاذ علم الاجتماع جامعة تونس المنار
الأفلام التونسية قليلة الظهور لأسباب عدة لعل أهمها محدودية سوقها وهو من العوامل الهيكلية التي تخرج عن نطاق إرادة المشتغلين بها مما يقلل من إمكانيات رواجها وبالتالي تمويلها أو دعمها. وعندما يولد مولود سينمائي جديد فذلك بدون شك بدعم من دافعي الضرائب في تونس حيث باتت مساهمة وزارة الثقافة تتجاوز النصف مليار من المليمات من الموازنة المقررة لهذا الفلم أو ذاك. والخلفية التي تحكم الوزارة أو الجهة الداعمة للنشاط السينمائي مثل إدارة التلفزة، تبقى دائما محكومة بما سيروج له من "ثقافة وخصوصية تونسية".
لقد شدّ انتباهي احتفاء بعض القاعات بالعاصمة بمولود سينمائي جديد هو عرس الذئب للمخرج الجيلاني السعدي. الاسم لم يكن مألوفا في عالم السينما لاسيما التونسية منها وذلك بسبب محدودية التجربة فهو لم يبرز إلا منذ أربع سنوات بفلم "خورما". وكان الانطباع الحاصل من أول وهلة هو أن الرجل قد يكون مجددا ومدافعا عن قضية ما في عالم سينمائي محكوم بالأيديولوجيا والبراغماتية وإن روّج لنقيض ذلك، عالم شديد التنافس خاصة في ظلّ الخدمات المجانية التي باتت تقدمها الفضائيات بألوانها وهوياتها ورسائلها المختلفة. لكن الأمر تغير منذ الدقائق الأولى من الفرجة. فالمشاهد الأولى من الفلم كانت تنبئ بأحداث حبلى بالعنف والجنس.وكأني بالسينما التونسية تكرر نفسها منذ البداية إذ بدت مغرقة في تصوير مشاهد العنف. وللعنف أشكال عديدة في الفلم مادية ورمزية وشفوية، وهو عنف تمارسه المرأة كما الرجل، الشاب كما الفتاة، الكبير كما الصغير. إن المجتمع الذي يصوره الفيلم والشرائح التي يعالج قضيتها إن كان الفيلم يعالج قضية فعلا لا تعرف سوى العنف وسيلة لحل مشاكلها. أشكاله متعددة فهي لا تقتصر على الضرب المبرح والخفيف والسبّ وبذاءة القول وعنف اللسان ويصل الأمر حدّ الإلقاء بالمزابل بل والقتل. تبدو أحداث الفلم سلسلة من ممارسات العنف والعنف المضاد بأشكاله المختلفة ودوافعه المتنوعة وكأن المجتمع الذي تنتمي إليه مختلف الشرائح الممثلة في الفلم لا يعرف غير العنف وسيلة للتواصل فهو يخترق كافة الفضاءات، عنف في الشارع، وفي البيت، وفي المستشفى نعم في المستشفى إنها صورة لا يمكن إلا أن تحطّ من تلك المؤسسة وتجرّدها من جوهرها الإنساني وتدين كافة المشتغلين بها والقائمين عليها مجتمعا ودولة.
تدور وقائع الفلم في ثلاثة فضاءات رئيسية هي المدينة العتيقة والخمارة ومحطة القطار. المدينة العتيقة هي الأكثر حضورا من بين تلك الفضاءات. عقدة تلك المدينة لا تغيب عن الكثير من المخرجين التونسيين هي عقدة ذنب دائم، يكاد لا يوجد فلم تونسي لا يتمثل ذلك الفضاء. ولا ندري هل هو انتقام من رمزية تلك المدينة وتاريخيتها لحداثة موهومة حالت الطبيعة العربية الإسلامية للحاضرة دون تحققها ومن ثمة تدنيس قدسيتها المستمدة من طابعها الديني باعتبارها إحدى إفرازات جامع الزيتونة الأعظم. أم أن ذلك محض صدفة ؟ وكأني بلسان حال أولائك المخرجين يقول لنا إن المدينة التي نشأت حول الجامع الأعظم الذي تأسس منذ القرن الأول للهجرة هي مكان ينتج المدنس. رسالة روجت لها أفلام عديدة مثل حلفاوين ويا سلطان المدينة وهاهو عرس الذئب يعيد إنتاجها. الفضاء المقدس لم يعد مقدسا دنسته ممارسات العربدة والاغتصاب إنه فضاء مظلم، قاتم، مخيف لم يعد ينتج إلا مثل تلك الممارسات. رسالة واضحة لا لبس فيها ولا غبار عليها. وبذلك يكون من اليسير تجريده من قدسيته ورمزيته التاريخية. إن الانتقام مستبطن لا محالة. ولنا أن نتساءل عن أسباب قتامة وسواد وهامشية المدينة التاريخية في أذهان مخرجينا، في حين أنها محلّ فخر واعتزاز أمام السيّاح الوافدين من الأوطان الغربية لزيارتها والتمتع بعبقها الضارب في القدم. لسنا في حاجة إلى التذكير بأهمية تلك المدينة وبالأدوار التي لعبتها على مرّ القرون سياسة واقتصادا وثقافة ودفاعا عن هوية الشعب ولا تزال بعض تلك الوظائف حاضرة إلى يوم الناس هذا.
الفضاء الثاني الذي تدور فيه الأحداث هو الخمارة، يحتلّ المرتبة الثانية من حيث الأهمية. الخمر قيمة ثابتة في الفلم، شربه من العادات اليومية، قليلا ما يصادف المرء فلما تونسيا لا يمجد تلك القيمة ولا يضعها في مكان الصدارة. وكأن الأمر يتعلق بقيمة ثابتة في المجتمع. صحيح أن الأمر يتعلق بما هو خاص في حياة الفرد، لكن الفلم يظهر لنا قدرة لدى أولئك الشباب على توفير متطلباتهم الخمرية في واقع يحتلون فيه موقع الهامشية وما يعنيه ذلك من بطالة وفقر وانحراف حتى أنه يتضمن نوعا من التثمين لاستيلاء بل سرقة أحدهم مال والده الذي كان قد طرده من المنزل بسبب بطالته المزمنة. القدرة على توفير الخمر لا تقابلها مقدرة على تلبية الحاجات المتجددة التي تفرضها الحياة اليومية. الخمارة تحظى بمركزية لا تضاهى في الفلم فهي قبلة غالبية شرائح المجتمع. مبالغة لافتة بسبب وجود موانع كثيرة منها ما هو ظاهر ومنها ما هو مستبطن. الأول يتعلق بالعجز المالي، فتلك المادة لا تستهلكها بصفة منتظمة إلا شرائح قليلة تعيش الثراء والرفاهية فهي مادة مرتفعة الثمن لا يقدر عليها أي كان لاسيما أولائك المهمشين الذين يتناولهم الفيلم كمثال للشباب في تونس. إن الشرائح المهمّشة قد انحدرت بوسائل تسليتها و"عبثيتها"إلى مادون ذلك المستوى من مواد سكر وتخدير. أما الثاني فيتعلق بالقيم التي يتربى عليها الشاب في العائلة والمدرسة وهي قيم لا تمجد بأي حال من الأحوال مكانة الخمر بل منها ما يدينه إدانة صريحة وهي القيم الدينية. لقد أثث المخرج وهو صاحب السيناريو مجرى الأحداث داخل الخمارة بمقاطع شرقية هي بعض أغاني أم كلثوم الكلاسيكية كانت تؤديها مطربة شابة، ربما يعكس ذلك حنين قديم إلى الشرق وعبقريته كادت أيام الهجرة التي قضّاها صاحب الفلم بفرنسا أن تذهب بريحه.
الفضاء الثالث هو محطة القطار وهو فضاء احتل مكانة ثانوية ولكنه يرمز إلى السفر والهجرة بل والهرب من مواجهة الواقع على الرغم من أن المخرج اعتمده كوسيلة للانتحار، انتحار من لا يوفر له المجتمع إمكانية الاندماج والعيش بكرامة فهل يحيل السفر على الانتحار فعلا ؟ وهل هي إدانة للمجتمع أم للمنتحر؟
في الفلم مكانة متميزة للمرأة، يظهرها بصفة ثانوية للغاية كأم لها غيرة على ابنها وإحساس بمعاناته المتأتية من البطالة والتهميش. لكنه يبرزها بصفة رئيسية كامرأة بغي لعوب تحترف العهر والبغاء وتمتهن الرقص بالخمارات والملاهي. الفتاة اغتصبت بطريقة حيوانية فظّة من قبل ثلاثة شبّان بصفة متتالية مشهد قلّما يتكرر في الحياة اليومية فهو من الفظاعة بما لا يسمح بتكراره. إن تكراره يعني انتشاره وتحوله إلى مشهد مألوف مما يضع المنظومة التربوية وكافة القيم الأخلاقية والمدنية للمجتمع لاسيما ما يتعلق بحقوق المرأة موضع المساءلة. المرأة لا تحيل إلا على الجنس في تصور المخرج فهي جسد بدون أحاسيس ولا مشاعر ولا ذات مريدة. لم يولّد فيها ذلك الحدث الكارثي سوى الرغبة في الانتقام. أما الدنس الذي ترتب عن عمليه الاغتصاب فهو بسيط وقابل أن يمحى بواسطة الاغتسال أو هكذا بدت رمزية الاغتسال في الفلم. لتعود الفتاة الراقصة مباشرة إلى سالف عملها بعد أن أرجع لها الانتقام كل ما خسرته فهي اغتصبت ولم تخسر شيئا، إذ لا يشير الفلم إلى قضية شرف أو فقدان عذرية أثيرت لديها مجرد الإثارة فالأفلام التونسية أو معظمها دأبت على تجاهل تلك المسألة ووضعها خلف الستار. فلا مكان لشرف المرأة وقدسية جسدها ورهافة أحاسيسها فهي لا تعني في رسالة الفلم غير الجنس عنوة أو طواعية. ولنا أن نسأل المخرج هل انتقمت الفتاة لشرفها المهدور أم لمجرد الاعتداء عليها ؟ يجيب الفلم بأنه انتقام ضدّ إكراهها على ممارسة الجنس مع من لا ترغب. والدليل أنها عادت طبيعية راقصة لاهية منتشية في آخر الليل. كم يتطلب مثل ذلك العنف أو أي عنف يمارس على الإنسان من وقت للتعافي منه ؟ صورة على درجة عالية من الإجحاف والاعتداء في حق المرأة خاصة وأن بقية النساء في الفلم لم يتجاوز دورهن اللهو في الخمارة. يبدو أن المخرج لم يكن يستبطن سوى صورة المرأة الجسد أما المرأة-الإنسان بكل ما في الكلمة من دلالات فلا مكان لها في الفلم. إن المرأة هي نتاج ثقافة مجتمعها ومهما يكن حجم المسألة الجنسية في مجتمعنا فلا نعتقد أن هذا المجتمع قد لقّن نساءه مبادئ تقديس الجنس بصرف النظر عن القيم والضوابط التي تنظمه. ولعل الانتهاء بالفلم إلى تلك المصالحة التي حلّت محلّ الرغبة في الانتقام والتي سيمارس فيها الجنس مجددا ينطوي على تساهل في التعامل مع تلك المسألة واختزالية لا تعكسها الوقائع فليس من اليسير أن تتحول المرأة الباغية العاهرة إلى فتاة قابلة الزواج، ولعلّ المخرج يدرك جيدا أن الشاب اليوم أكثر ميلا للزواج بفتاة ليس له معها علاقة سالفة. ثم إن هذا التسامح الذي أبدته الفتاة كما أبداه الشاب أليس تسامحا مبالغا فيه؟
الشريحة الأخرى التي تحظى بالتبجيل في الفلم هي شريحة الشباب لكن المخرج لا يتمثّلها سوى كفئة منحرفة تحترف الجريمة والانحراف فهي مجرد مجموعة من العصابات المتصارعة المنتمية إلى هذا الحي أو ذاك. لقد جرّد المخرج الحي - الحومة من أي تضامن بين أفراده. فاعتداء مجموعة من الشباب على بنت الحومة لا يمت للواقع بصلة، أبناء الحومة كثيرا ما يغارون بل يتحمسون للدفاع على بنات حيهم إذا تعرضن لمكروه. ثم منذ متى يكون الشاب وهو في عنفوان شبابه مثالا للخوف والهرب إذا ما ارتكب خطيئة ما. ألم تكن الشجاعة التي تصل درجة الاندفاع هي ميزة الفترة الشبابية في حياة الإنسان مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك. لقد قدّم لنا المخرج صورة مخالفة لكل ذلك من خلال هرب الشباب مذعورين عاجزين عن أي مواجهة أو تحمل أي مسؤولية تجاه ما ارتكبوه من خطيئة واعتداء.
في النهاية لابد من أن نتساءل عن الرسالة التي أراد المخرج إبلاغها. هل يريد القول إن المجتمع الذي نعيش فيه هو عبارة عن غابة يسودها العنف والجنس الحيواني؟ هل هو مجرد ذئاب بشرية ضحيتها هم ضعاف المجتمع ؟ يبدو أن كل أحداث الفلم تنحو هذا المنحى. لكن من الأهمية تذكير المخرج أن ذلك الطرح لم يعد جديدا وقد قطع معه في الفكر العربي والأوربي على حدّ السواء. قطع معه ابن خلدون منذ ستة قرون عندما كتب "لابد من وازع يزع الناس بعضهم عن بعض". وقطع معه فكر الأنوار الأوربي بواسطة مقولة العقد الاجتماعي.
الأفلام التونسية قليلة الظهور لأسباب عدة لعل أهمها محدودية سوقها وهو من العوامل الهيكلية التي تخرج عن نطاق إرادة المشتغلين بها مما يقلل من إمكانيات رواجها وبالتالي تمويلها أو دعمها. وعندما يولد مولود سينمائي جديد فذلك بدون شك بدعم من دافعي الضرائب في تونس حيث باتت مساهمة وزارة الثقافة تتجاوز النصف مليار من المليمات من الموازنة المقررة لهذا الفلم أو ذاك. والخلفية التي تحكم الوزارة أو الجهة الداعمة للنشاط السينمائي مثل إدارة التلفزة، تبقى دائما محكومة بما سيروج له من "ثقافة وخصوصية تونسية".
لقد شدّ انتباهي احتفاء بعض القاعات بالعاصمة بمولود سينمائي جديد هو عرس الذئب للمخرج الجيلاني السعدي. الاسم لم يكن مألوفا في عالم السينما لاسيما التونسية منها وذلك بسبب محدودية التجربة فهو لم يبرز إلا منذ أربع سنوات بفلم "خورما". وكان الانطباع الحاصل من أول وهلة هو أن الرجل قد يكون مجددا ومدافعا عن قضية ما في عالم سينمائي محكوم بالأيديولوجيا والبراغماتية وإن روّج لنقيض ذلك، عالم شديد التنافس خاصة في ظلّ الخدمات المجانية التي باتت تقدمها الفضائيات بألوانها وهوياتها ورسائلها المختلفة. لكن الأمر تغير منذ الدقائق الأولى من الفرجة. فالمشاهد الأولى من الفلم كانت تنبئ بأحداث حبلى بالعنف والجنس.وكأني بالسينما التونسية تكرر نفسها منذ البداية إذ بدت مغرقة في تصوير مشاهد العنف. وللعنف أشكال عديدة في الفلم مادية ورمزية وشفوية، وهو عنف تمارسه المرأة كما الرجل، الشاب كما الفتاة، الكبير كما الصغير. إن المجتمع الذي يصوره الفيلم والشرائح التي يعالج قضيتها إن كان الفيلم يعالج قضية فعلا لا تعرف سوى العنف وسيلة لحل مشاكلها. أشكاله متعددة فهي لا تقتصر على الضرب المبرح والخفيف والسبّ وبذاءة القول وعنف اللسان ويصل الأمر حدّ الإلقاء بالمزابل بل والقتل. تبدو أحداث الفلم سلسلة من ممارسات العنف والعنف المضاد بأشكاله المختلفة ودوافعه المتنوعة وكأن المجتمع الذي تنتمي إليه مختلف الشرائح الممثلة في الفلم لا يعرف غير العنف وسيلة للتواصل فهو يخترق كافة الفضاءات، عنف في الشارع، وفي البيت، وفي المستشفى نعم في المستشفى إنها صورة لا يمكن إلا أن تحطّ من تلك المؤسسة وتجرّدها من جوهرها الإنساني وتدين كافة المشتغلين بها والقائمين عليها مجتمعا ودولة.
تدور وقائع الفلم في ثلاثة فضاءات رئيسية هي المدينة العتيقة والخمارة ومحطة القطار. المدينة العتيقة هي الأكثر حضورا من بين تلك الفضاءات. عقدة تلك المدينة لا تغيب عن الكثير من المخرجين التونسيين هي عقدة ذنب دائم، يكاد لا يوجد فلم تونسي لا يتمثل ذلك الفضاء. ولا ندري هل هو انتقام من رمزية تلك المدينة وتاريخيتها لحداثة موهومة حالت الطبيعة العربية الإسلامية للحاضرة دون تحققها ومن ثمة تدنيس قدسيتها المستمدة من طابعها الديني باعتبارها إحدى إفرازات جامع الزيتونة الأعظم. أم أن ذلك محض صدفة ؟ وكأني بلسان حال أولائك المخرجين يقول لنا إن المدينة التي نشأت حول الجامع الأعظم الذي تأسس منذ القرن الأول للهجرة هي مكان ينتج المدنس. رسالة روجت لها أفلام عديدة مثل حلفاوين ويا سلطان المدينة وهاهو عرس الذئب يعيد إنتاجها. الفضاء المقدس لم يعد مقدسا دنسته ممارسات العربدة والاغتصاب إنه فضاء مظلم، قاتم، مخيف لم يعد ينتج إلا مثل تلك الممارسات. رسالة واضحة لا لبس فيها ولا غبار عليها. وبذلك يكون من اليسير تجريده من قدسيته ورمزيته التاريخية. إن الانتقام مستبطن لا محالة. ولنا أن نتساءل عن أسباب قتامة وسواد وهامشية المدينة التاريخية في أذهان مخرجينا، في حين أنها محلّ فخر واعتزاز أمام السيّاح الوافدين من الأوطان الغربية لزيارتها والتمتع بعبقها الضارب في القدم. لسنا في حاجة إلى التذكير بأهمية تلك المدينة وبالأدوار التي لعبتها على مرّ القرون سياسة واقتصادا وثقافة ودفاعا عن هوية الشعب ولا تزال بعض تلك الوظائف حاضرة إلى يوم الناس هذا.
الفضاء الثاني الذي تدور فيه الأحداث هو الخمارة، يحتلّ المرتبة الثانية من حيث الأهمية. الخمر قيمة ثابتة في الفلم، شربه من العادات اليومية، قليلا ما يصادف المرء فلما تونسيا لا يمجد تلك القيمة ولا يضعها في مكان الصدارة. وكأن الأمر يتعلق بقيمة ثابتة في المجتمع. صحيح أن الأمر يتعلق بما هو خاص في حياة الفرد، لكن الفلم يظهر لنا قدرة لدى أولئك الشباب على توفير متطلباتهم الخمرية في واقع يحتلون فيه موقع الهامشية وما يعنيه ذلك من بطالة وفقر وانحراف حتى أنه يتضمن نوعا من التثمين لاستيلاء بل سرقة أحدهم مال والده الذي كان قد طرده من المنزل بسبب بطالته المزمنة. القدرة على توفير الخمر لا تقابلها مقدرة على تلبية الحاجات المتجددة التي تفرضها الحياة اليومية. الخمارة تحظى بمركزية لا تضاهى في الفلم فهي قبلة غالبية شرائح المجتمع. مبالغة لافتة بسبب وجود موانع كثيرة منها ما هو ظاهر ومنها ما هو مستبطن. الأول يتعلق بالعجز المالي، فتلك المادة لا تستهلكها بصفة منتظمة إلا شرائح قليلة تعيش الثراء والرفاهية فهي مادة مرتفعة الثمن لا يقدر عليها أي كان لاسيما أولائك المهمشين الذين يتناولهم الفيلم كمثال للشباب في تونس. إن الشرائح المهمّشة قد انحدرت بوسائل تسليتها و"عبثيتها"إلى مادون ذلك المستوى من مواد سكر وتخدير. أما الثاني فيتعلق بالقيم التي يتربى عليها الشاب في العائلة والمدرسة وهي قيم لا تمجد بأي حال من الأحوال مكانة الخمر بل منها ما يدينه إدانة صريحة وهي القيم الدينية. لقد أثث المخرج وهو صاحب السيناريو مجرى الأحداث داخل الخمارة بمقاطع شرقية هي بعض أغاني أم كلثوم الكلاسيكية كانت تؤديها مطربة شابة، ربما يعكس ذلك حنين قديم إلى الشرق وعبقريته كادت أيام الهجرة التي قضّاها صاحب الفلم بفرنسا أن تذهب بريحه.
الفضاء الثالث هو محطة القطار وهو فضاء احتل مكانة ثانوية ولكنه يرمز إلى السفر والهجرة بل والهرب من مواجهة الواقع على الرغم من أن المخرج اعتمده كوسيلة للانتحار، انتحار من لا يوفر له المجتمع إمكانية الاندماج والعيش بكرامة فهل يحيل السفر على الانتحار فعلا ؟ وهل هي إدانة للمجتمع أم للمنتحر؟
في الفلم مكانة متميزة للمرأة، يظهرها بصفة ثانوية للغاية كأم لها غيرة على ابنها وإحساس بمعاناته المتأتية من البطالة والتهميش. لكنه يبرزها بصفة رئيسية كامرأة بغي لعوب تحترف العهر والبغاء وتمتهن الرقص بالخمارات والملاهي. الفتاة اغتصبت بطريقة حيوانية فظّة من قبل ثلاثة شبّان بصفة متتالية مشهد قلّما يتكرر في الحياة اليومية فهو من الفظاعة بما لا يسمح بتكراره. إن تكراره يعني انتشاره وتحوله إلى مشهد مألوف مما يضع المنظومة التربوية وكافة القيم الأخلاقية والمدنية للمجتمع لاسيما ما يتعلق بحقوق المرأة موضع المساءلة. المرأة لا تحيل إلا على الجنس في تصور المخرج فهي جسد بدون أحاسيس ولا مشاعر ولا ذات مريدة. لم يولّد فيها ذلك الحدث الكارثي سوى الرغبة في الانتقام. أما الدنس الذي ترتب عن عمليه الاغتصاب فهو بسيط وقابل أن يمحى بواسطة الاغتسال أو هكذا بدت رمزية الاغتسال في الفلم. لتعود الفتاة الراقصة مباشرة إلى سالف عملها بعد أن أرجع لها الانتقام كل ما خسرته فهي اغتصبت ولم تخسر شيئا، إذ لا يشير الفلم إلى قضية شرف أو فقدان عذرية أثيرت لديها مجرد الإثارة فالأفلام التونسية أو معظمها دأبت على تجاهل تلك المسألة ووضعها خلف الستار. فلا مكان لشرف المرأة وقدسية جسدها ورهافة أحاسيسها فهي لا تعني في رسالة الفلم غير الجنس عنوة أو طواعية. ولنا أن نسأل المخرج هل انتقمت الفتاة لشرفها المهدور أم لمجرد الاعتداء عليها ؟ يجيب الفلم بأنه انتقام ضدّ إكراهها على ممارسة الجنس مع من لا ترغب. والدليل أنها عادت طبيعية راقصة لاهية منتشية في آخر الليل. كم يتطلب مثل ذلك العنف أو أي عنف يمارس على الإنسان من وقت للتعافي منه ؟ صورة على درجة عالية من الإجحاف والاعتداء في حق المرأة خاصة وأن بقية النساء في الفلم لم يتجاوز دورهن اللهو في الخمارة. يبدو أن المخرج لم يكن يستبطن سوى صورة المرأة الجسد أما المرأة-الإنسان بكل ما في الكلمة من دلالات فلا مكان لها في الفلم. إن المرأة هي نتاج ثقافة مجتمعها ومهما يكن حجم المسألة الجنسية في مجتمعنا فلا نعتقد أن هذا المجتمع قد لقّن نساءه مبادئ تقديس الجنس بصرف النظر عن القيم والضوابط التي تنظمه. ولعل الانتهاء بالفلم إلى تلك المصالحة التي حلّت محلّ الرغبة في الانتقام والتي سيمارس فيها الجنس مجددا ينطوي على تساهل في التعامل مع تلك المسألة واختزالية لا تعكسها الوقائع فليس من اليسير أن تتحول المرأة الباغية العاهرة إلى فتاة قابلة الزواج، ولعلّ المخرج يدرك جيدا أن الشاب اليوم أكثر ميلا للزواج بفتاة ليس له معها علاقة سالفة. ثم إن هذا التسامح الذي أبدته الفتاة كما أبداه الشاب أليس تسامحا مبالغا فيه؟
الشريحة الأخرى التي تحظى بالتبجيل في الفلم هي شريحة الشباب لكن المخرج لا يتمثّلها سوى كفئة منحرفة تحترف الجريمة والانحراف فهي مجرد مجموعة من العصابات المتصارعة المنتمية إلى هذا الحي أو ذاك. لقد جرّد المخرج الحي - الحومة من أي تضامن بين أفراده. فاعتداء مجموعة من الشباب على بنت الحومة لا يمت للواقع بصلة، أبناء الحومة كثيرا ما يغارون بل يتحمسون للدفاع على بنات حيهم إذا تعرضن لمكروه. ثم منذ متى يكون الشاب وهو في عنفوان شبابه مثالا للخوف والهرب إذا ما ارتكب خطيئة ما. ألم تكن الشجاعة التي تصل درجة الاندفاع هي ميزة الفترة الشبابية في حياة الإنسان مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك. لقد قدّم لنا المخرج صورة مخالفة لكل ذلك من خلال هرب الشباب مذعورين عاجزين عن أي مواجهة أو تحمل أي مسؤولية تجاه ما ارتكبوه من خطيئة واعتداء.
في النهاية لابد من أن نتساءل عن الرسالة التي أراد المخرج إبلاغها. هل يريد القول إن المجتمع الذي نعيش فيه هو عبارة عن غابة يسودها العنف والجنس الحيواني؟ هل هو مجرد ذئاب بشرية ضحيتها هم ضعاف المجتمع ؟ يبدو أن كل أحداث الفلم تنحو هذا المنحى. لكن من الأهمية تذكير المخرج أن ذلك الطرح لم يعد جديدا وقد قطع معه في الفكر العربي والأوربي على حدّ السواء. قطع معه ابن خلدون منذ ستة قرون عندما كتب "لابد من وازع يزع الناس بعضهم عن بعض". وقطع معه فكر الأنوار الأوربي بواسطة مقولة العقد الاجتماعي.