ردّا على صديقي الفيلسوف:
من رميم غزّة تنبعث الإنسانية المغايرة
د.سالم لبيض
أستاذ محاضر في علم الاجتماع
كم كنت أود لو أن الأستاذ عادل مطيمط استحضر البديهة التي عهدتها فيه وهو يناقش في مقال له نشرته جريدة الصباح بتاريخ 25 جانفي 2009 بعنوان "على هامش مأساة غزة: هل يذهب الأمر ببعضنا إلى حدّ رفض القول بوحدة الإنسانية"، وهو مشكور على ذلك، مقالي الذي نشرته جريدة الوطن في عددها الثامن والستين وعنوانه "محرقة غزّة تنهي أسطورة المحرقة". بديهة كانت ستنقذ فهمه مما وقع فيه من التباس في التأويل أظن أنه نتاج لما تعلّمه في درسه الفلسفي الأول، حول المنطق الصوري، مما جعله يستحضر آليات ذلك المنطق لاستنباط ما بدا له تناقضا بين مقدمات مقالنا ونتائجه. ونحن في ذلك نشفق عليه من الأسر الذي وضع نفسه فيه، أسر مرده اعتقاده – اعتقاد الطفل في قول معلمه- في مقولات ما أنتجه الغرب من أفكار فلسفية قديمة تم تجاوز الكثير منها حتى في الغرب نفسه على أرضية مبدأ المغايرة والحق في الاختلاف والآخرية. وفي صميم تلك الآخرية نشأت مقولة الإنسانية المغايرة التي عبّرت عنها بوضوح في الفقرة الأخيرة من مقالي السالف الذكر بعد أن كنت اكتفيت بالتلميح إليها في بقية الفقرات. وأنا أدرك أنه يقرّ بها لما يختلي إلى نفسه ويتأمّلها ويقرأ الأشياء بتمعن وفي راحة من البال وبشيء من الحرية وبعيدا عن تابوهاته الفلسفية. لكن سرعان ما يحجب عنه منطقه الصوري الذي يحتكم إليه في تأويل الحقائق المذهلة المفجعة التي تعيشها الإنسانية بسبب تلك المغايرة. وقبل الغوص في تلك القضايا الهامة الواردة في مقالي والتي أثارت حفيظة صديقي أستاذ الفلسفة لا بد من توضيح بعض الجوانب الشكلية.
إن مشاعرك النبيلة العربية والإنسانية التي عبرت عن اشتراكك معي فيها تجاه القتل الممنهج الذي وقع لأبناء جلدتنا في غزة كان يجب أن تحرّك عواطفك وعقلك وخاصة قلمك وهو أضعف إيمان النخب في القيام بدورها كتابة وتنديدا بتلك المحارق غير المسبوقة. لكن قريحتك وشاعريتك انبلجت لما تعرضت بعض المفاهيم النظرية المتهاوية أصلا للنقد وإعادة البناء ولم يوقظها الفسفور الأبيض وهو يلتهم أجساد الأطفال الطرية ويشوه خلقتهم التي خلقوا عليها. وكان الأجدر لوم النفس أولا عمّا قدمّت تجاه أولئك الأطفال قبل إلقاء المسؤولية على الغير من اتحاد المحامين العرب الذي وان اكتفى بالخطب كما تقول فقد عبّر عن موقف وهو أفضل بكافة المقاييس من الصمت وقد انطبق عليك هذه المرّة القول القرآني "يأمرون الناس بالمعروف وينسون أنفسهم"، بل كان لابد من التوجه بهذا اللوم إلى فصيلتك التي تؤويك وتؤويني وهم أساتذة الجامعات وماذا قدموا لهذه القضية.
إن وصف مجمل المقال بأنه أشبه بالخطبة السياسية أو بحديث صحفي لزعيم حركة سياسية أو لصحفي في جريدة القدس اللندنية يتحدث من على منبر الجزيرة، هو وصف أقل ما يقال فيه أن صاحبه غير متمرّس بالكتابة على صفحات الجرائد وهو أولي التجربة في هذا الميدان ولكن مع ذلك فإن الانخراط في هذه المنابر الموصومة لديه بشتى النعوت يعبّر عن انتقال إيجابي لفائدة قرّاء الصحف فالتنازل من العلياء ومخاطبتهم من داخل منابرهم التي يفقهون هو لصالحهم بكافة المقاييس. ولكن بما أن الأستاذ لا يزال طارئا على هذا الصنف من الكتابة فلا بد من الانتباه إلى أن اللغة الأكاديمية الشديدة الدقة الموصوفة بالعلمية المتجمّدة لا مكان لها ولا يفقهها إلا قلّة من الناس لا يطلّعون على الجرائد بانتظام ولا يجدون فيها حاجة من حوائجهم الضرورية وهم بطبيعتهم قليلو التأثير في الرأي العام وإن توهموا أنهم الأكثر فعلا في تاريخ الإنسانية ومصيرها. ومن ثمّ يكون اعتماد لغة سلسة مبسطة قابلة للفهم والتأويل هو الخيار الأفضل. أما من يرى غير ذلك فعليه أن يثبت جدارته في الدوريات المحكّمة والمنابر الأكاديمية وأن يملأ على دور النشر فراغها الذي تعيش، ويترك الصحف للمشتغلين بالغرض اليومي وهو في رأينا مشغل سوسيولوجي هام كتب فيه أباطرة علم الاجتماع وأحيل في هذا المجال على بورديو في كتابهInterventions 1961 – 2001 من 487 صفحة وهو تجميع لمقالات صحفية وخطب سياسية احتضنتها وسائل إعلام أو تظاهرات لحركات اجتماعية عدّة ، لم يترك شاردة ولا واردة تتعلق بمجتمعه أو بغيره من المجتمعات من قضايا عصره لم يتحدث فيها. كما لم يترك فنّا في الكتابة لم يستعمله بما في ذلك الخطابة والتحريض السياسي وتكفي الإشارة هنا إلى كتابه الذائع الصيت "بؤس العالم". وليسمح لي صديقي بأن أعلّق على قضية الخطابة التي هي فنّ وعلم قائم بذاته على حد تعبير "ابن خلدون" الذي عرّفه بأنه "الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدّهم عنه" وهو علم قديم متجدد له مكانه المرموق في كل الثقافات وعبر مختلف الأزمنة. ومن حيث يدري أو لا يدري فإن الأستاذ مطيمط قد كان بارعا في استخدام آليات هذا العلم والفن العريق. فقد انتصب خطيبا يتحدث عن "دماء الأبرياء التي أسالتها الدولة المصطنعة غريبة الأطوار المزروعة في خاصرة الوطن العربي والمسمّاة إسرائيل..المدّعى لها بأنها جزيرة الديمقراطية..". ولو لا معرفتنا بصاحب هذا الكلام لخلنا أنه صادر عن زعيم بارز في حزب قومي عربي يتحدث سنة 1948 أو سنة 1967. ومع ذلك لا شيء يمنع من استثمار معرفة أيديولوجية وسياسية يكتبها "فيلسوف" بل "مؤرخ" ذكّرنا بوقائع تاريخية نسيناها أو تناسيناها مثل مجزرة قرية الشيخ في سنة 1947 ومجزرة اللّد في سنة 1948 وخان يونس 1 وخان يونس 2 وصولا إلى بيروت 1982 وما عرفته تلك الأزمنة من مجازر، وهو الذي يتهمنا بالوقائعية في الكتابة والتحليل.
فيما يتعلق بمضمون الردّ فليسمح لي صديقي الفيلسوف بأن أبدأ النقاش معه على أرضية منهجية مغايرة تنطلق مما هو عام في اتجاه الخاص أو مما هو نظري في اتجاه ما هو واقع ملموس بدلا من الركض وراء الأفكار والوقائع تفاديا للتكرار الذي وقع فيه.
لقد كنت أنتظر من صديقي الفيلسوف أن يؤثث أفكاره داخل نسق يستند إلى أقوال وطروحات معلميه وأقصد هنا فلاسفة التنوير انطلاقا من لوك وصولا إلى كانط فهو يعتقد فيهم اعتقاد المريد في شيخه. لكنه أشار لهم إشارات عابرة ملتبسة غامضة مبررا مواقفهم" الهجينة" من الآخر وهو لبّ الإشكال التاريخي والنقاشي الدائر منذ سقوط غرناطة سنة 1492 إلى العدوان على غزة في سنة 2009 .
صحيح أن لوك قد أقرّ بأن العقل هو جوهر الإنسان الذي يفرقه عن غيره. لكن عقلانية الإنسان لا تتحقق إلا إذا كان صناعيا ونشطا، أي أن يستغلّ الأرض كلّها .. وميزة الحياة العقلانية لديه هي وجود مؤسسة الملكية الخاصة التي تمثل حافزا لتطوير موارد الأرض والإحساس بالفردية والحرية مع ضرورة الاستجابة للوازع الديني الذي يحث على الإثمار والإكثار والذي لا يتحقق إلا بواسطة الارتقاء بالعلوم والفنون. ومن ميزات المجتمع العقلاني لدى لوك امتلاك المجتمع لحدود إقليمية واضحة وبنية للسلطة متراصة فضلا عن الرغبة في الاستمرار كجماعة مستقلة. وكل ذلك لا يتوفر في طريقة الحياة الهندية (يقصد ما كان يعرف بالهند الغربية أي أمريكا حاليا) فالهنود حسب رأيه كسالى وانفعاليون وجامحون وبعيدون عن الانضباط وبرّيون وعنيفون ويفتقرون إلى مؤسسة الملكية الخاصة ولا تجد لديهم فنونا وعلوما وثقافة ..ويفتقرون للمقومات المعروفة للدولة. ولأنهم بعيدون عن أي إحساس بالملكية الخاصة فإن أرضهم خالية حقا ومفتوحة ومهجورة ويمكن أخذها دون إذنهم أو موافقتهم .. والإنقليزي ليس حرا وحسب في أن يأخذ ريع الأرض الهندية ويتدخل في حياة الهنود وإنما ذلك واجب عليه. فقد أعطى الله الإنسان الأرض شريطة أن يستثمرها إلى النهاية وأعطاه العقل منتظرا منه أن يحي حياة مدنية يحكمها القانون. وبما أن الهنود لم يفعلوا أيا من هذين الأمرين فقد نقضوا أوامر الله وعاشوا بعيدا عن الانضباط والتعلم. وبغية نقلهم إلى المدنية فإن الاستعمار الإنقليزي هو ضرورة لا غنى عنها ولذا فإن هذا الاستعمار مبرر تماما.
وفي نفس السياق تقريبا كتب فيلسوف العقل كانط ردّا بالغ الحدة والقسوة على "هردر" الذي أبدى إعجابا بسكان تاهيتي السعداء، فتساءل "ما هو مبرر وجودهم أصلا، هل يختلف الوضع لو أن هذه الجزيرة كانت مسكونة من قبل خراف وأبقار سعيدة بدلا من هذه الكائنات البشرية التي تستمدّ سعادتها من اللذّة الحسية".
إن هذا النمط من الخطاب يحتل المكانة الأبرز في الفكر الفلسفي الغربي وقد كان له "شرف التأسيس" لمغايرة ولآخرية تحقيرية تنعت المختلف من الشعوب بالدونية الثقافية وبالانتماء إلى مرحلة الطبيعة واللذة الحسية وعدم الوصول إلى مرحلة المأسسة في المجال السياسي والتشريعي والاقتصادي، وتستند إلى تأويل ديني مسيحي كما أكد ذلك لوك. ولعل الموجات اللاحقة التي قامت بتطوير هذا الفكر وآلياته في التحليل لم تتوقف. فقد خاطب "توكفيل" منظّر الديمقراطية في أمريكا أحد أصدقائه الإنقليز "لم أشك.. ولو للحظة واحدة بانتصاركم، الذي هو انتصار للمسيحية والمدنية". وقد اعتمد لاحقا الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان نظرية التفاضلية الجنسية أساسا لتحليلاته الفلسفية فدافع عن فكرة التفاضل بين فصيلتين آرية وأخرى سامية وذلك في مستوى المرتبة الحضارية والقابليات العقلية، ولمّا كان موقع الساميين هو في الدرجة الدنيا وهو يقصد بالأساس العرب فلا يمكن مطالبتهم بإنشاء دروس في الفلسفة فهم لا يمتلكون عقلا مبدعا خلاّقا أما الفلسفة العربية فهي مجرد نقل لما ورد في الفلسفة اليونانية حسب رأيه. وقد بنى قوتيه أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر ثنائية أخرى تعتمد نفس الأساس التفاضلي فحواها وجود عقل آري يرى الأشياء مترابطة وآخر سامي لا يراها إلا مفككة. وانطلاقا من ذلك التحليل في حلقاته المتسلسلة تطور الإستشراق وظهر الفكر المركزي الأوروبي وانتشرت الأنثروبولوجيا الاستعمارية في الاستكشاف "العلمي" للشعوب غير الأوروبية ومن ثم تبني مقولة المسؤولية الأخلاقية والحضارية على تمدين تلك الشعوب، وهي أشياء باتت مألوفة في المعرفة الإنسانية ولا حاجة للتدليل عليها. وهذا التمشي معتمد لدى بعض فلاسفة مدرسة فرنكفورت ولا أظنه يخفى عن صديقي الفيلسوف. فقد استحالت الأنوار و"العقل العلمي الغربي" عامة طبقا لتلك المدرسة عقلا آداتيا يستخدم في نهاية الأمر أداة للسيطرة والهيمنة. وليسمح لي زميلي أستاذ الفلسفة محسن الخوني بآقتباس الفقرة التالية من مقاله "آخر التنوير أو من الأنوار إلى الاستعمار" الوارد في كتاب "نحن والأنوار وكانط" تحرير الأستاذ عبد العزيز لبيب.".. لو تسنّى لنا اليوم تخيل التنوير جسما مشعا لصح أيضا تصوره غير مستنير بأكمله إذ تتراءى على سطحه تجاويف وعتمات كما تتراءى الأنوار المنبعثة منه تاركة خلفها وحولها دياجير وغياهب وظلالا عميقة وشاسعة.. لقد بدت لنا الأنوار على هذا الشكل غير المبهر. والخطوط الأولى لهذه الصورة ارتسمت خلال نفس العصر وذلك مع انتشار موجة الرّيبية والمادية والتفسخ واكتملت ملامحها مع ما تنشره موجة ما بعد الحداثيين. فكتب نيتشه عن تورط العقل منذ اللوغس الاغريقي في إخفاء القيم التي توجهه ودشن بداية عصر حرب الآلهة. وكشف كيركيغارد عن تجفيف العقل لمنابع الروح وأوقفنا لوكاتش على مشهد تحطيم العقل وبيّن ماركس كيف تحولت كل أبعاد الوجود إلى صنم السلعة في النمط الرأسمالي كما بيّن فيبر أن المعقولية العلمية الحديثة تفقد القيم موضوعيتها.. وسار فوكو في اتجاه أن العقل ليس إلا سلاحا آخر في ميدان المعركة هو سلاح القمع..إلخ. ولكن أنصار التنوير عندما تواجههم مثل تلك المقولات التي تضعهم موضع الشك ينأون بأنفسهم بالاحتماء داخل مقولة كانط سنة 1784 التي عفا عنها الزمن "إنما نحن نعيش في حقبة انتشار الأنوار" إلى ما لا نهاية.
إذن من داخل حقول المعرفة الفلسفية نفسها يظهر جليا كيف بدأ التفكير"العقلاني التنويري" لا غيريا لا آخريا ... لا إنسانيا لا إنسانيا لا إنسانيا..لا عقلانيا.. وبما أن حركة الأفكار هي المحرك لحركة المجتمع وهي المؤثر في صيرورته فإن ذلك التيار اللاإنساني القائم على تفاضلية المجتمعات استحال دون أدنى شك ممارسة سياسية وأخلاقية.
يقودنا كل ذلك إلى المرور إلى المستوى الثاني من النقاش وهو المستوى السياسي. فالمعروف تاريخيا أن المجتمعات الغربية هي مجتمعات لا تعرف غير الحروب أداة لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية ولسنا في حاجة إلى التدليل على حجم الحروب التي خاضتها تلك المجتمعات فيما بينها ولا عن عدد الضحايا كما لسنا في حاجة إلى التدليل على حجم الحروب الاستعمارية التي لولاها لما تمكّنت أوروبا وأمريكا لاحقا من السيطرة على العالم. وكم من دماء سالت وكم من ضحايا سقطوا وكم من أطفال حرقوا أو قتلوا أو يتّموا وكم من نساء وكم من شيوخ...الخ من أجل اكتمال المشهد العام لتلك السيطرة . مجتمعات بأكملها قبرت وحلت محلها أخرى بسبب ذلك الفعل الاستعماري. مجتمعات أخرى شوّهت ملامحها وثقافاتها وقيمها ولغاتها وأديانها واستحالت أداة للمتعة واللّذة الحسية للشعوب الغربية بعد أن نهشت لحمها نهشا وأكلته بأسنانها وحولت عاداتها وأعرافها إلى فولكلور وشواطئها إلى "كيبوتزات" مغلقة في شكل منتجعات سياحية، والأمثلة كثيرة على ذلك بل إن إفريقيا السوداء كلها مثالا على ذلك. فمن أجل منجم للذهب أو الماس أو حقل بترول أو غاز يقتل شعب بكامله أو يستغل على أبشع صورة في أحسن الأحوال.
سيقول صديقي الفيلسوف ما علاقة كل هذا بما نناقشه من قضايا. لابد لك يا صديقي أن تعلم أن الغرب هو كل لا يتجزأ من حيث الأفكار والسياسة والدين والأخلاق والعسكريتاريا وأن الحداثة الغربية التي أنتجها ذلك الكل بعد التنوير كانت حداثة لديهم وتحديثا علينا فهم من قاموا بتحديثنا وفق ما يخدم مصالحهم ووفق ما يضمن استمرارية ذلك. ولما حاولت بعض نخبنا السياسية أن تتقمص مثل تلك الحداثة وأن تبني تنمية وطنية مستقلة تضمن استقلال القرار السياسي دكت دكا كما هو الحال في تجارب مصر محمد علي ومصر عبد الناصر وعراق صدام حسين، أو عرقلت وحوصرت إلى حد الفشل كما هو أمر تونس خير الدين وجزائر بومدين. إن الشعوب الغربية تمارس الديمقراطية ولا تسمح لنا بممارستها وأمثلة انتخابات الجزائر والانتخابات الفلسطينية أحسن الأدلّة، وهي تتداول على السلطة وتسوق لنا رموز الحكم المطلق غير المحدد في الزمان ولها صحافة وإعلام ولنا دعاية واغتصاب عقول ولها تنمية مستقلة ولنا تبعية دائمة. هي تراقبنا، تفرض علينا برامجنا العلمية والتعليمية، تحدد لنا نمط اقتصادنا فنحن لا نصلح إلا لاقتصاد الخدمات. تفتخر بإنتاجها الرأس النووي والغواصة النووية لا أدري رقم كم وتراقب مولدات كهربائنا مصدر طاقتنا المتقادمة أصلا ولا حق لنا في الحديث عن طاقة نووية مهما كانت طبيعتها سلمية أوعسكرية. كل ما تبيحه تلك المجتمعات لنفسها تمنعنا منه. قاتل أجدادنا في صفوف جيوشهم الاستعمارية في جميع أصقاع الدنيا عنوة وساهموا في انتصاراتهم. وردّوا الحسنى بأحسن منها !!! عندما فتحوا حدودهم لأوروبا الشرقية التي لا تعرف لغاتهم وتختلف مع ثقافاتهم في حين أن أبناء أولئك المحاربين القدامى يصطفون في طوابير للحصول على تأشيرة دخول إلى الدول الغربية وكم من امتهان يتعرضون له وغالبا ما يكون الرفض هو سيد الموقف . وكم من أرواح بشرية زهقت في البحار بسبب ذلك أما الذين يصلون إلى شواطئ تلك البلدان فإن قانون العار المسمى بالميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء المصادق عليه من قبل رؤساء أوروبا الموحدة في 16 أكتوبر 2008 ينتظرهم بمعسكراته التي سيحشر فيها النساء والأطفال والشبان مدة 18 شهرا قبل ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية وهم الذين أجبرتهم مدارسهم على تعلم اللغة الفرنسية أو الانقليزية عقودا طويلة من الزمن حتى جعلت منهم أسرى ثقافات تلك اللغات فانتزعتهم من هويتهم وانتماءهم. صحيح أن أوروبا وأمريكا الشمالية قد طورت مفاهيم وقوانين حقوق الإنسان من ذلك اللوائح التاريخية المسماة إعلان المبادئ الفرنسي لسنة 1789 وإعلان الحقوق الأمريكي لسنة 1776 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 ، ولكنها طورتها لنفسها ومن أجل أبنائها ولا حق لغيرهم فيها وإلا لما سمحت بارتكاب المجازر والمحارق منذ إبادة الهنود على بكرة أبيهم في أمريكا مع بداية النصف الثاني من القرن السادس عشر إلى إبادة "شعب غزة الأعزل". ولا بد من التذكير في هذا الإطار بما قاله جورج واشنطن حول إبادة الهنود من أن "طردهم من أوطانهم بقوة السلاح لا يختلف عن طرد الوحوش المفترسة من غاباتها"، ونحن نعلم من هو جورج واشنطن وماذا يمثل للأمريكيين. لا بد من التذكير أيضا أن بعض الشعوب الغربية في بريطانيا والولايات المتحدة هي التي أعادت انتخاب كل من بوش الصغير وبلير بعد أن دمّروا بلدا بكامله وقتلوا وحرقوا أكثر من مليون عراقي وهجّروا الملايين الأخرى. ألا ينتمي إلى تلك الشعوب النخب المتشبّعة بمبادئ حقوق الإنسان وباحترام الآخر وحقه في الحياة الكريمة. نحن نعلم أن تلك الشعوب واقعة تحت التأثير المضلّل للصهيونية ولكن لا عذر لجاهل بجهله خاصة في تلك المجتمعات التي تنتج المعرفة وأدواتها وكثيرا ما تحتكرها.
بعد كل ذلك وقبله كان على صديقي الفيلسوف أن يعلم أو يتعلّم أن القول بوحدة الإنسانية الذي يزعم هو خرافة لا أساس لها وأن الإنسان هو متعدد وواحد، فهو الأبيض والأسود والأحمر والأصفر وهو الطويل والقصير وهو البدين والنحيف وهو الصغير والمسن وهو الرجل والمرأة وهو المتعلم والأمي وهو القوي والضعيف وبذلك يكون مختلفا شكلا أما الإشارة إلى اختلاف دمه فلا تخلو من رمزية وهو في كنهه إنسان واحد رغم تلك الاختلافات الشكلية. وهذا القول صحيح ما دام الإنسان خاما على هيئته الأولى لم يخرج من مرحلة الانتماء الطبيعي، أما وقد خرج من ذلك المستوى إلى التنشئة والثقافة فإن الأمر سيكون مختلفا لا شك في ذلك. وستلعب الثقافة دورا رئيسيا في تعليم الإنسان ماهيته وماذا يريد ولكن الأهم من ذلك أنها تعلمه إنسانيته التي يجب أن يكون عليها. إن الإنسانية التي تبلورت في ظل كثير من تيارات ومدارس الفكر الغربي منذ عصر النهضة الأوروبية هي إنسانية الأنا وليست إنسانية الآخر لذلك انعدم الاحتجاج على المجازر التي عرفها العرب وغيرهم من الشعوب في تاريخهم المعاصر والتي تقف وراءها بشكل مباشر أو غير مباشر حكومات غربية ولا أدري إن كانت محرقة غزة آخرها. وفي مقابل إنسانية الأنا الغربية المشحونة بالدم والقتل التي تقيم الدنيا على احتجاز أو قتل أحد رعاياها في مكان ما من أصقاع الدنيا حيث جبهاتها القتالية المفتوحة وقواعدها العسكرية الدائمة، ولا ترى في محارق الشعوب الأخرى جريمة ترتكب فترعى المعتدي القاتل وتوفر له الحماية كما هو الحال بالنسبة للدولة العسكرية الصهيونية التي بات رعاياها يستبطنون المحرقة إلى درجة إعادة إنتاجها، والتي لا أخال صديقي الفيلسوف ينتصب مدافعا عن مثل تلك الإنسانية. في مقابل ذلك توجد الإنسانية الأخرى المغايرة المختلفة التي لا تؤسس للاعتداء والقتل فكريا أو نظريا وليس لها موروث تاريخي من التلذذ بدماء الآخرين. هي بدون شك ليست إنسانية من قتلوا 45 ألف إنسان في يوم واحد أو قتلوا مليونا ونصف في أقل من عشر سنوات في الجزائر ولا هي إنسانية من حرقوا مدينتي هيروشيما ونقزاكي وأبادوا أهلها على بكرة أبيهم في اليابان ولا هي إنسانية قتلة شعب فيتنام ولا هي إنسانية إبادة الفلاحين الأفغان في مزارعهم بتعلّة مقاومة الإرهاب ولا هي إنسانية قتل الأبرياء الذي طردوا من وطنهم في فلسطين فلاحقوهم في كل مكان وشرّدوهم وقتلوهم في مجازر أكبر من أن تحصى وشواهدها لا تنمحي. إن الإنسانية الأخرى المغايرة التي نؤمن بها هي إنسانية غير معتدية وهي المجسدة لإنسانية الإنسان إن كان فعلا للإنسان إنسانية واحدة. ينتمي إلى تلك الإنسانية كافة الشعوب المغلوبة على أمرها المحتلة أراضيها الواقعة تحت الاستبداد والهيمنة الداخلية أو الخارجية في الوطن العربي وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وكل الأحرار في أوروبا وأمريكا الشمالية من مناهضي الاستعمار والعولمة والقتل المنظم للبشر في كثير من أصقاع الدنيا.تنتمي إلى إنسانيتنا المغايرة فنزويلا ورئيسها وبوليفيا ورئيسها وتركيا وأردوغانها وإيران وشعبها والمفكّرين والساسة الأحرار أمثال تشومسكي وزيقلر ونوشي وقلاوي وغيرهم . تنتمي إلى إنسانيتنا كل الجمعيات الحقوقية التي طالبت بجلب قادة الدولة العنصرية اليهودية إلى محاكم جرائم الحرب وكل الحقوقيين الذين تبنوا ذلك الموقف البطولي. ينتمي إلى إنسانيتنا كل الأطباء الذين تحملوا المشاق والمخاطر فغامروا بالدخول إلى غزة لإنقاذ من يمكن إنقاذه. تنتمي إلى إنسانيتنا العقائد والأديان والشرائع التي لا تحقّر الناس ولا تميز بينهم من إسلام لا يقبل التطرف والعنف ومسيحية غير متصهنينة ويهودية لا تبشّر بالأرض الموعودة وغيرها من ديانات الشرق السماوية والوضعية التي يجمعها التسامح ورفض قتل الإنسان. ينتمي إلى إنسانيتنا كل من احتج على العدوان على غزة بالتظاهر أو الدعم بالمال أو بالدم أو حتى بمجرد المعاناة. وينتمي إلى إنسانيتهم كل من ساهم في حصار غزة أو الاعتداء عليها وقتل أبنائها، من الحكّام والنخب والإعلاميين والعسكريين. من رميم غزة انبعثت إنسانيتنا، برميم غزة انكشفت إنسانيتهم فسقط وهم الإنسانية الواحدة.
من رميم غزّة تنبعث الإنسانية المغايرة
د.سالم لبيض
أستاذ محاضر في علم الاجتماع
كم كنت أود لو أن الأستاذ عادل مطيمط استحضر البديهة التي عهدتها فيه وهو يناقش في مقال له نشرته جريدة الصباح بتاريخ 25 جانفي 2009 بعنوان "على هامش مأساة غزة: هل يذهب الأمر ببعضنا إلى حدّ رفض القول بوحدة الإنسانية"، وهو مشكور على ذلك، مقالي الذي نشرته جريدة الوطن في عددها الثامن والستين وعنوانه "محرقة غزّة تنهي أسطورة المحرقة". بديهة كانت ستنقذ فهمه مما وقع فيه من التباس في التأويل أظن أنه نتاج لما تعلّمه في درسه الفلسفي الأول، حول المنطق الصوري، مما جعله يستحضر آليات ذلك المنطق لاستنباط ما بدا له تناقضا بين مقدمات مقالنا ونتائجه. ونحن في ذلك نشفق عليه من الأسر الذي وضع نفسه فيه، أسر مرده اعتقاده – اعتقاد الطفل في قول معلمه- في مقولات ما أنتجه الغرب من أفكار فلسفية قديمة تم تجاوز الكثير منها حتى في الغرب نفسه على أرضية مبدأ المغايرة والحق في الاختلاف والآخرية. وفي صميم تلك الآخرية نشأت مقولة الإنسانية المغايرة التي عبّرت عنها بوضوح في الفقرة الأخيرة من مقالي السالف الذكر بعد أن كنت اكتفيت بالتلميح إليها في بقية الفقرات. وأنا أدرك أنه يقرّ بها لما يختلي إلى نفسه ويتأمّلها ويقرأ الأشياء بتمعن وفي راحة من البال وبشيء من الحرية وبعيدا عن تابوهاته الفلسفية. لكن سرعان ما يحجب عنه منطقه الصوري الذي يحتكم إليه في تأويل الحقائق المذهلة المفجعة التي تعيشها الإنسانية بسبب تلك المغايرة. وقبل الغوص في تلك القضايا الهامة الواردة في مقالي والتي أثارت حفيظة صديقي أستاذ الفلسفة لا بد من توضيح بعض الجوانب الشكلية.
إن مشاعرك النبيلة العربية والإنسانية التي عبرت عن اشتراكك معي فيها تجاه القتل الممنهج الذي وقع لأبناء جلدتنا في غزة كان يجب أن تحرّك عواطفك وعقلك وخاصة قلمك وهو أضعف إيمان النخب في القيام بدورها كتابة وتنديدا بتلك المحارق غير المسبوقة. لكن قريحتك وشاعريتك انبلجت لما تعرضت بعض المفاهيم النظرية المتهاوية أصلا للنقد وإعادة البناء ولم يوقظها الفسفور الأبيض وهو يلتهم أجساد الأطفال الطرية ويشوه خلقتهم التي خلقوا عليها. وكان الأجدر لوم النفس أولا عمّا قدمّت تجاه أولئك الأطفال قبل إلقاء المسؤولية على الغير من اتحاد المحامين العرب الذي وان اكتفى بالخطب كما تقول فقد عبّر عن موقف وهو أفضل بكافة المقاييس من الصمت وقد انطبق عليك هذه المرّة القول القرآني "يأمرون الناس بالمعروف وينسون أنفسهم"، بل كان لابد من التوجه بهذا اللوم إلى فصيلتك التي تؤويك وتؤويني وهم أساتذة الجامعات وماذا قدموا لهذه القضية.
إن وصف مجمل المقال بأنه أشبه بالخطبة السياسية أو بحديث صحفي لزعيم حركة سياسية أو لصحفي في جريدة القدس اللندنية يتحدث من على منبر الجزيرة، هو وصف أقل ما يقال فيه أن صاحبه غير متمرّس بالكتابة على صفحات الجرائد وهو أولي التجربة في هذا الميدان ولكن مع ذلك فإن الانخراط في هذه المنابر الموصومة لديه بشتى النعوت يعبّر عن انتقال إيجابي لفائدة قرّاء الصحف فالتنازل من العلياء ومخاطبتهم من داخل منابرهم التي يفقهون هو لصالحهم بكافة المقاييس. ولكن بما أن الأستاذ لا يزال طارئا على هذا الصنف من الكتابة فلا بد من الانتباه إلى أن اللغة الأكاديمية الشديدة الدقة الموصوفة بالعلمية المتجمّدة لا مكان لها ولا يفقهها إلا قلّة من الناس لا يطلّعون على الجرائد بانتظام ولا يجدون فيها حاجة من حوائجهم الضرورية وهم بطبيعتهم قليلو التأثير في الرأي العام وإن توهموا أنهم الأكثر فعلا في تاريخ الإنسانية ومصيرها. ومن ثمّ يكون اعتماد لغة سلسة مبسطة قابلة للفهم والتأويل هو الخيار الأفضل. أما من يرى غير ذلك فعليه أن يثبت جدارته في الدوريات المحكّمة والمنابر الأكاديمية وأن يملأ على دور النشر فراغها الذي تعيش، ويترك الصحف للمشتغلين بالغرض اليومي وهو في رأينا مشغل سوسيولوجي هام كتب فيه أباطرة علم الاجتماع وأحيل في هذا المجال على بورديو في كتابهInterventions 1961 – 2001 من 487 صفحة وهو تجميع لمقالات صحفية وخطب سياسية احتضنتها وسائل إعلام أو تظاهرات لحركات اجتماعية عدّة ، لم يترك شاردة ولا واردة تتعلق بمجتمعه أو بغيره من المجتمعات من قضايا عصره لم يتحدث فيها. كما لم يترك فنّا في الكتابة لم يستعمله بما في ذلك الخطابة والتحريض السياسي وتكفي الإشارة هنا إلى كتابه الذائع الصيت "بؤس العالم". وليسمح لي صديقي بأن أعلّق على قضية الخطابة التي هي فنّ وعلم قائم بذاته على حد تعبير "ابن خلدون" الذي عرّفه بأنه "الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدّهم عنه" وهو علم قديم متجدد له مكانه المرموق في كل الثقافات وعبر مختلف الأزمنة. ومن حيث يدري أو لا يدري فإن الأستاذ مطيمط قد كان بارعا في استخدام آليات هذا العلم والفن العريق. فقد انتصب خطيبا يتحدث عن "دماء الأبرياء التي أسالتها الدولة المصطنعة غريبة الأطوار المزروعة في خاصرة الوطن العربي والمسمّاة إسرائيل..المدّعى لها بأنها جزيرة الديمقراطية..". ولو لا معرفتنا بصاحب هذا الكلام لخلنا أنه صادر عن زعيم بارز في حزب قومي عربي يتحدث سنة 1948 أو سنة 1967. ومع ذلك لا شيء يمنع من استثمار معرفة أيديولوجية وسياسية يكتبها "فيلسوف" بل "مؤرخ" ذكّرنا بوقائع تاريخية نسيناها أو تناسيناها مثل مجزرة قرية الشيخ في سنة 1947 ومجزرة اللّد في سنة 1948 وخان يونس 1 وخان يونس 2 وصولا إلى بيروت 1982 وما عرفته تلك الأزمنة من مجازر، وهو الذي يتهمنا بالوقائعية في الكتابة والتحليل.
فيما يتعلق بمضمون الردّ فليسمح لي صديقي الفيلسوف بأن أبدأ النقاش معه على أرضية منهجية مغايرة تنطلق مما هو عام في اتجاه الخاص أو مما هو نظري في اتجاه ما هو واقع ملموس بدلا من الركض وراء الأفكار والوقائع تفاديا للتكرار الذي وقع فيه.
لقد كنت أنتظر من صديقي الفيلسوف أن يؤثث أفكاره داخل نسق يستند إلى أقوال وطروحات معلميه وأقصد هنا فلاسفة التنوير انطلاقا من لوك وصولا إلى كانط فهو يعتقد فيهم اعتقاد المريد في شيخه. لكنه أشار لهم إشارات عابرة ملتبسة غامضة مبررا مواقفهم" الهجينة" من الآخر وهو لبّ الإشكال التاريخي والنقاشي الدائر منذ سقوط غرناطة سنة 1492 إلى العدوان على غزة في سنة 2009 .
صحيح أن لوك قد أقرّ بأن العقل هو جوهر الإنسان الذي يفرقه عن غيره. لكن عقلانية الإنسان لا تتحقق إلا إذا كان صناعيا ونشطا، أي أن يستغلّ الأرض كلّها .. وميزة الحياة العقلانية لديه هي وجود مؤسسة الملكية الخاصة التي تمثل حافزا لتطوير موارد الأرض والإحساس بالفردية والحرية مع ضرورة الاستجابة للوازع الديني الذي يحث على الإثمار والإكثار والذي لا يتحقق إلا بواسطة الارتقاء بالعلوم والفنون. ومن ميزات المجتمع العقلاني لدى لوك امتلاك المجتمع لحدود إقليمية واضحة وبنية للسلطة متراصة فضلا عن الرغبة في الاستمرار كجماعة مستقلة. وكل ذلك لا يتوفر في طريقة الحياة الهندية (يقصد ما كان يعرف بالهند الغربية أي أمريكا حاليا) فالهنود حسب رأيه كسالى وانفعاليون وجامحون وبعيدون عن الانضباط وبرّيون وعنيفون ويفتقرون إلى مؤسسة الملكية الخاصة ولا تجد لديهم فنونا وعلوما وثقافة ..ويفتقرون للمقومات المعروفة للدولة. ولأنهم بعيدون عن أي إحساس بالملكية الخاصة فإن أرضهم خالية حقا ومفتوحة ومهجورة ويمكن أخذها دون إذنهم أو موافقتهم .. والإنقليزي ليس حرا وحسب في أن يأخذ ريع الأرض الهندية ويتدخل في حياة الهنود وإنما ذلك واجب عليه. فقد أعطى الله الإنسان الأرض شريطة أن يستثمرها إلى النهاية وأعطاه العقل منتظرا منه أن يحي حياة مدنية يحكمها القانون. وبما أن الهنود لم يفعلوا أيا من هذين الأمرين فقد نقضوا أوامر الله وعاشوا بعيدا عن الانضباط والتعلم. وبغية نقلهم إلى المدنية فإن الاستعمار الإنقليزي هو ضرورة لا غنى عنها ولذا فإن هذا الاستعمار مبرر تماما.
وفي نفس السياق تقريبا كتب فيلسوف العقل كانط ردّا بالغ الحدة والقسوة على "هردر" الذي أبدى إعجابا بسكان تاهيتي السعداء، فتساءل "ما هو مبرر وجودهم أصلا، هل يختلف الوضع لو أن هذه الجزيرة كانت مسكونة من قبل خراف وأبقار سعيدة بدلا من هذه الكائنات البشرية التي تستمدّ سعادتها من اللذّة الحسية".
إن هذا النمط من الخطاب يحتل المكانة الأبرز في الفكر الفلسفي الغربي وقد كان له "شرف التأسيس" لمغايرة ولآخرية تحقيرية تنعت المختلف من الشعوب بالدونية الثقافية وبالانتماء إلى مرحلة الطبيعة واللذة الحسية وعدم الوصول إلى مرحلة المأسسة في المجال السياسي والتشريعي والاقتصادي، وتستند إلى تأويل ديني مسيحي كما أكد ذلك لوك. ولعل الموجات اللاحقة التي قامت بتطوير هذا الفكر وآلياته في التحليل لم تتوقف. فقد خاطب "توكفيل" منظّر الديمقراطية في أمريكا أحد أصدقائه الإنقليز "لم أشك.. ولو للحظة واحدة بانتصاركم، الذي هو انتصار للمسيحية والمدنية". وقد اعتمد لاحقا الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان نظرية التفاضلية الجنسية أساسا لتحليلاته الفلسفية فدافع عن فكرة التفاضل بين فصيلتين آرية وأخرى سامية وذلك في مستوى المرتبة الحضارية والقابليات العقلية، ولمّا كان موقع الساميين هو في الدرجة الدنيا وهو يقصد بالأساس العرب فلا يمكن مطالبتهم بإنشاء دروس في الفلسفة فهم لا يمتلكون عقلا مبدعا خلاّقا أما الفلسفة العربية فهي مجرد نقل لما ورد في الفلسفة اليونانية حسب رأيه. وقد بنى قوتيه أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر ثنائية أخرى تعتمد نفس الأساس التفاضلي فحواها وجود عقل آري يرى الأشياء مترابطة وآخر سامي لا يراها إلا مفككة. وانطلاقا من ذلك التحليل في حلقاته المتسلسلة تطور الإستشراق وظهر الفكر المركزي الأوروبي وانتشرت الأنثروبولوجيا الاستعمارية في الاستكشاف "العلمي" للشعوب غير الأوروبية ومن ثم تبني مقولة المسؤولية الأخلاقية والحضارية على تمدين تلك الشعوب، وهي أشياء باتت مألوفة في المعرفة الإنسانية ولا حاجة للتدليل عليها. وهذا التمشي معتمد لدى بعض فلاسفة مدرسة فرنكفورت ولا أظنه يخفى عن صديقي الفيلسوف. فقد استحالت الأنوار و"العقل العلمي الغربي" عامة طبقا لتلك المدرسة عقلا آداتيا يستخدم في نهاية الأمر أداة للسيطرة والهيمنة. وليسمح لي زميلي أستاذ الفلسفة محسن الخوني بآقتباس الفقرة التالية من مقاله "آخر التنوير أو من الأنوار إلى الاستعمار" الوارد في كتاب "نحن والأنوار وكانط" تحرير الأستاذ عبد العزيز لبيب.".. لو تسنّى لنا اليوم تخيل التنوير جسما مشعا لصح أيضا تصوره غير مستنير بأكمله إذ تتراءى على سطحه تجاويف وعتمات كما تتراءى الأنوار المنبعثة منه تاركة خلفها وحولها دياجير وغياهب وظلالا عميقة وشاسعة.. لقد بدت لنا الأنوار على هذا الشكل غير المبهر. والخطوط الأولى لهذه الصورة ارتسمت خلال نفس العصر وذلك مع انتشار موجة الرّيبية والمادية والتفسخ واكتملت ملامحها مع ما تنشره موجة ما بعد الحداثيين. فكتب نيتشه عن تورط العقل منذ اللوغس الاغريقي في إخفاء القيم التي توجهه ودشن بداية عصر حرب الآلهة. وكشف كيركيغارد عن تجفيف العقل لمنابع الروح وأوقفنا لوكاتش على مشهد تحطيم العقل وبيّن ماركس كيف تحولت كل أبعاد الوجود إلى صنم السلعة في النمط الرأسمالي كما بيّن فيبر أن المعقولية العلمية الحديثة تفقد القيم موضوعيتها.. وسار فوكو في اتجاه أن العقل ليس إلا سلاحا آخر في ميدان المعركة هو سلاح القمع..إلخ. ولكن أنصار التنوير عندما تواجههم مثل تلك المقولات التي تضعهم موضع الشك ينأون بأنفسهم بالاحتماء داخل مقولة كانط سنة 1784 التي عفا عنها الزمن "إنما نحن نعيش في حقبة انتشار الأنوار" إلى ما لا نهاية.
إذن من داخل حقول المعرفة الفلسفية نفسها يظهر جليا كيف بدأ التفكير"العقلاني التنويري" لا غيريا لا آخريا ... لا إنسانيا لا إنسانيا لا إنسانيا..لا عقلانيا.. وبما أن حركة الأفكار هي المحرك لحركة المجتمع وهي المؤثر في صيرورته فإن ذلك التيار اللاإنساني القائم على تفاضلية المجتمعات استحال دون أدنى شك ممارسة سياسية وأخلاقية.
يقودنا كل ذلك إلى المرور إلى المستوى الثاني من النقاش وهو المستوى السياسي. فالمعروف تاريخيا أن المجتمعات الغربية هي مجتمعات لا تعرف غير الحروب أداة لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية ولسنا في حاجة إلى التدليل على حجم الحروب التي خاضتها تلك المجتمعات فيما بينها ولا عن عدد الضحايا كما لسنا في حاجة إلى التدليل على حجم الحروب الاستعمارية التي لولاها لما تمكّنت أوروبا وأمريكا لاحقا من السيطرة على العالم. وكم من دماء سالت وكم من ضحايا سقطوا وكم من أطفال حرقوا أو قتلوا أو يتّموا وكم من نساء وكم من شيوخ...الخ من أجل اكتمال المشهد العام لتلك السيطرة . مجتمعات بأكملها قبرت وحلت محلها أخرى بسبب ذلك الفعل الاستعماري. مجتمعات أخرى شوّهت ملامحها وثقافاتها وقيمها ولغاتها وأديانها واستحالت أداة للمتعة واللّذة الحسية للشعوب الغربية بعد أن نهشت لحمها نهشا وأكلته بأسنانها وحولت عاداتها وأعرافها إلى فولكلور وشواطئها إلى "كيبوتزات" مغلقة في شكل منتجعات سياحية، والأمثلة كثيرة على ذلك بل إن إفريقيا السوداء كلها مثالا على ذلك. فمن أجل منجم للذهب أو الماس أو حقل بترول أو غاز يقتل شعب بكامله أو يستغل على أبشع صورة في أحسن الأحوال.
سيقول صديقي الفيلسوف ما علاقة كل هذا بما نناقشه من قضايا. لابد لك يا صديقي أن تعلم أن الغرب هو كل لا يتجزأ من حيث الأفكار والسياسة والدين والأخلاق والعسكريتاريا وأن الحداثة الغربية التي أنتجها ذلك الكل بعد التنوير كانت حداثة لديهم وتحديثا علينا فهم من قاموا بتحديثنا وفق ما يخدم مصالحهم ووفق ما يضمن استمرارية ذلك. ولما حاولت بعض نخبنا السياسية أن تتقمص مثل تلك الحداثة وأن تبني تنمية وطنية مستقلة تضمن استقلال القرار السياسي دكت دكا كما هو الحال في تجارب مصر محمد علي ومصر عبد الناصر وعراق صدام حسين، أو عرقلت وحوصرت إلى حد الفشل كما هو أمر تونس خير الدين وجزائر بومدين. إن الشعوب الغربية تمارس الديمقراطية ولا تسمح لنا بممارستها وأمثلة انتخابات الجزائر والانتخابات الفلسطينية أحسن الأدلّة، وهي تتداول على السلطة وتسوق لنا رموز الحكم المطلق غير المحدد في الزمان ولها صحافة وإعلام ولنا دعاية واغتصاب عقول ولها تنمية مستقلة ولنا تبعية دائمة. هي تراقبنا، تفرض علينا برامجنا العلمية والتعليمية، تحدد لنا نمط اقتصادنا فنحن لا نصلح إلا لاقتصاد الخدمات. تفتخر بإنتاجها الرأس النووي والغواصة النووية لا أدري رقم كم وتراقب مولدات كهربائنا مصدر طاقتنا المتقادمة أصلا ولا حق لنا في الحديث عن طاقة نووية مهما كانت طبيعتها سلمية أوعسكرية. كل ما تبيحه تلك المجتمعات لنفسها تمنعنا منه. قاتل أجدادنا في صفوف جيوشهم الاستعمارية في جميع أصقاع الدنيا عنوة وساهموا في انتصاراتهم. وردّوا الحسنى بأحسن منها !!! عندما فتحوا حدودهم لأوروبا الشرقية التي لا تعرف لغاتهم وتختلف مع ثقافاتهم في حين أن أبناء أولئك المحاربين القدامى يصطفون في طوابير للحصول على تأشيرة دخول إلى الدول الغربية وكم من امتهان يتعرضون له وغالبا ما يكون الرفض هو سيد الموقف . وكم من أرواح بشرية زهقت في البحار بسبب ذلك أما الذين يصلون إلى شواطئ تلك البلدان فإن قانون العار المسمى بالميثاق الأوروبي للهجرة واللجوء المصادق عليه من قبل رؤساء أوروبا الموحدة في 16 أكتوبر 2008 ينتظرهم بمعسكراته التي سيحشر فيها النساء والأطفال والشبان مدة 18 شهرا قبل ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية وهم الذين أجبرتهم مدارسهم على تعلم اللغة الفرنسية أو الانقليزية عقودا طويلة من الزمن حتى جعلت منهم أسرى ثقافات تلك اللغات فانتزعتهم من هويتهم وانتماءهم. صحيح أن أوروبا وأمريكا الشمالية قد طورت مفاهيم وقوانين حقوق الإنسان من ذلك اللوائح التاريخية المسماة إعلان المبادئ الفرنسي لسنة 1789 وإعلان الحقوق الأمريكي لسنة 1776 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 ، ولكنها طورتها لنفسها ومن أجل أبنائها ولا حق لغيرهم فيها وإلا لما سمحت بارتكاب المجازر والمحارق منذ إبادة الهنود على بكرة أبيهم في أمريكا مع بداية النصف الثاني من القرن السادس عشر إلى إبادة "شعب غزة الأعزل". ولا بد من التذكير في هذا الإطار بما قاله جورج واشنطن حول إبادة الهنود من أن "طردهم من أوطانهم بقوة السلاح لا يختلف عن طرد الوحوش المفترسة من غاباتها"، ونحن نعلم من هو جورج واشنطن وماذا يمثل للأمريكيين. لا بد من التذكير أيضا أن بعض الشعوب الغربية في بريطانيا والولايات المتحدة هي التي أعادت انتخاب كل من بوش الصغير وبلير بعد أن دمّروا بلدا بكامله وقتلوا وحرقوا أكثر من مليون عراقي وهجّروا الملايين الأخرى. ألا ينتمي إلى تلك الشعوب النخب المتشبّعة بمبادئ حقوق الإنسان وباحترام الآخر وحقه في الحياة الكريمة. نحن نعلم أن تلك الشعوب واقعة تحت التأثير المضلّل للصهيونية ولكن لا عذر لجاهل بجهله خاصة في تلك المجتمعات التي تنتج المعرفة وأدواتها وكثيرا ما تحتكرها.
بعد كل ذلك وقبله كان على صديقي الفيلسوف أن يعلم أو يتعلّم أن القول بوحدة الإنسانية الذي يزعم هو خرافة لا أساس لها وأن الإنسان هو متعدد وواحد، فهو الأبيض والأسود والأحمر والأصفر وهو الطويل والقصير وهو البدين والنحيف وهو الصغير والمسن وهو الرجل والمرأة وهو المتعلم والأمي وهو القوي والضعيف وبذلك يكون مختلفا شكلا أما الإشارة إلى اختلاف دمه فلا تخلو من رمزية وهو في كنهه إنسان واحد رغم تلك الاختلافات الشكلية. وهذا القول صحيح ما دام الإنسان خاما على هيئته الأولى لم يخرج من مرحلة الانتماء الطبيعي، أما وقد خرج من ذلك المستوى إلى التنشئة والثقافة فإن الأمر سيكون مختلفا لا شك في ذلك. وستلعب الثقافة دورا رئيسيا في تعليم الإنسان ماهيته وماذا يريد ولكن الأهم من ذلك أنها تعلمه إنسانيته التي يجب أن يكون عليها. إن الإنسانية التي تبلورت في ظل كثير من تيارات ومدارس الفكر الغربي منذ عصر النهضة الأوروبية هي إنسانية الأنا وليست إنسانية الآخر لذلك انعدم الاحتجاج على المجازر التي عرفها العرب وغيرهم من الشعوب في تاريخهم المعاصر والتي تقف وراءها بشكل مباشر أو غير مباشر حكومات غربية ولا أدري إن كانت محرقة غزة آخرها. وفي مقابل إنسانية الأنا الغربية المشحونة بالدم والقتل التي تقيم الدنيا على احتجاز أو قتل أحد رعاياها في مكان ما من أصقاع الدنيا حيث جبهاتها القتالية المفتوحة وقواعدها العسكرية الدائمة، ولا ترى في محارق الشعوب الأخرى جريمة ترتكب فترعى المعتدي القاتل وتوفر له الحماية كما هو الحال بالنسبة للدولة العسكرية الصهيونية التي بات رعاياها يستبطنون المحرقة إلى درجة إعادة إنتاجها، والتي لا أخال صديقي الفيلسوف ينتصب مدافعا عن مثل تلك الإنسانية. في مقابل ذلك توجد الإنسانية الأخرى المغايرة المختلفة التي لا تؤسس للاعتداء والقتل فكريا أو نظريا وليس لها موروث تاريخي من التلذذ بدماء الآخرين. هي بدون شك ليست إنسانية من قتلوا 45 ألف إنسان في يوم واحد أو قتلوا مليونا ونصف في أقل من عشر سنوات في الجزائر ولا هي إنسانية من حرقوا مدينتي هيروشيما ونقزاكي وأبادوا أهلها على بكرة أبيهم في اليابان ولا هي إنسانية قتلة شعب فيتنام ولا هي إنسانية إبادة الفلاحين الأفغان في مزارعهم بتعلّة مقاومة الإرهاب ولا هي إنسانية قتل الأبرياء الذي طردوا من وطنهم في فلسطين فلاحقوهم في كل مكان وشرّدوهم وقتلوهم في مجازر أكبر من أن تحصى وشواهدها لا تنمحي. إن الإنسانية الأخرى المغايرة التي نؤمن بها هي إنسانية غير معتدية وهي المجسدة لإنسانية الإنسان إن كان فعلا للإنسان إنسانية واحدة. ينتمي إلى تلك الإنسانية كافة الشعوب المغلوبة على أمرها المحتلة أراضيها الواقعة تحت الاستبداد والهيمنة الداخلية أو الخارجية في الوطن العربي وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وكل الأحرار في أوروبا وأمريكا الشمالية من مناهضي الاستعمار والعولمة والقتل المنظم للبشر في كثير من أصقاع الدنيا.تنتمي إلى إنسانيتنا المغايرة فنزويلا ورئيسها وبوليفيا ورئيسها وتركيا وأردوغانها وإيران وشعبها والمفكّرين والساسة الأحرار أمثال تشومسكي وزيقلر ونوشي وقلاوي وغيرهم . تنتمي إلى إنسانيتنا كل الجمعيات الحقوقية التي طالبت بجلب قادة الدولة العنصرية اليهودية إلى محاكم جرائم الحرب وكل الحقوقيين الذين تبنوا ذلك الموقف البطولي. ينتمي إلى إنسانيتنا كل الأطباء الذين تحملوا المشاق والمخاطر فغامروا بالدخول إلى غزة لإنقاذ من يمكن إنقاذه. تنتمي إلى إنسانيتنا العقائد والأديان والشرائع التي لا تحقّر الناس ولا تميز بينهم من إسلام لا يقبل التطرف والعنف ومسيحية غير متصهنينة ويهودية لا تبشّر بالأرض الموعودة وغيرها من ديانات الشرق السماوية والوضعية التي يجمعها التسامح ورفض قتل الإنسان. ينتمي إلى إنسانيتنا كل من احتج على العدوان على غزة بالتظاهر أو الدعم بالمال أو بالدم أو حتى بمجرد المعاناة. وينتمي إلى إنسانيتهم كل من ساهم في حصار غزة أو الاعتداء عليها وقتل أبنائها، من الحكّام والنخب والإعلاميين والعسكريين. من رميم غزة انبعثت إنسانيتنا، برميم غزة انكشفت إنسانيتهم فسقط وهم الإنسانية الواحدة.