السبت، 4 أبريل 2009

الهوية في الخطاب السياسي التونسي : محاولة فهم سوسيولوجي مقال منشور في جريدة الوطن بتاريخ 4 - 5 - 2007


الهوية في الخطاب السياسي التونسي : محاولة فهم سوسيولوجي
د.سالم لبيض
قسم علم الاجتماع
المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس

يقول "كلود ديبار" أحد رموز علم الاجتماع الغربي المعاصر إن "الهوية ليست معطاة ولكنها تبنى"، ولكن بناء الهوية ليس أمرا يخضع لهوى الأفراد وبالتالي يسهل قياس وتفصيل الهويات بما ينسجم مع المصالح الخاصة للأفراد والجماعات . إن الهوية كما نعتمدها في هذا المقال تستند إلى مقولة سوسيولوجية هامة "هي الحس المشترك" بالنسبة لأفراد المجتمع الواحد ومن ثمة لابد من البحث عن مكونات ذلك الحس نظرا أن الهويات التي تبنى اليوم على أساس مهني أو عرقي أو على أساس العادات والتقاليد واللهجات التي تميز المجموعات محدودة وجزئية وليست مجتمعية . لقد تبين من خلال البحث أن الحس المشترك في "الهوية التونسية" أو كما يختزلها الخطاب السياسي هو اللغة والدين . لقد استندنا إلى ما قاله السوسيولوجي الفرنسي العلامة جاك بارك حول اللغة العربية من أن" إن الشرق هو موطن" وأن " اللغة العربية لا تكاد تنتمي إلى عالم الإنسان ، إذ يبدو أنها بالأحرى معارة له ... إن فضيلة الكلمة مستمدة من شكلها وصوتها وإيقاعها أكثر مما هي مستمدة من نوع تطابقها مع حقائق الحياة اليومية" ومما قاله المؤرخ "عبد العزيز الدوري"حول الإسلام " فهو دين الغالبية العظمى من العرب وهو الذي وحدهم وحملهم رسالة وأعطاهم قاعدة فكرية وأيديولوجية وبه كونوا دولة ". وفي إرث الهوية في تونس يتناول المقال أثر اللغة العربية والدين الإسلامي في التعبئة ضد الاستعمار الفرنسي خاصة إبان محطات تاريخية كانت الهوية بهذا المعنى عرضة للتشويه من قبل الإدارة الاستعمارية في أحداث الزلاج في 1911 والتجنيس في 1923 والمؤتمر الأفخارستي سنة 1930 .ولم تكن النخب تفهم موضوع الهوية طيلة الفترة الاستعمارية خارج ذلك الإطار حتى أن الشيخ الفاضل بن عاشور خطب في مؤتمر ليلة القدر سنة 1946 قائلا :" من يومئذ انطبعت الروح الشعبية في تونس بطابع مصوغ من مادة الروح الثقافية للجامعة الزيتونية فهي مادة الرابطة القومية الواسعة والحرص على الالتزام مع الأمم الإسلامية الشرقية وخاصة الأمة العربية فاصبح الإتجاهان السياسي والثقافي يسيران على خطة واحدة هي خطة طلب الذاتية القومية التونسية ومقوماتها في الاندماج في العالم العربي وأصبحت الجامعة العربية باعتبار ناحيتها الثقافية والسياسية الغاية التي يتجه كل عمل فكري واجتماعي في تونس إلى تحقيقها". ولكن الهوية في تونس ستتأثر بالصراعات السياسية التي شهدتها فترة أواسط الخمسينات بين التيارين البورقيبي واليوسفي في الحركة الوطنية وسيكون لانتصار بورقيبة وتوليه مقاليد السلطة كبير الأثر بعد التخلص من المؤسسات الراعية للهوية ومن التشريعات والقوانين الداعمة والقوى الساندة لها وذلك باسم التحديث ولكن الأمر سيتحول إلى موقف من الهوية وقضاياها سينعكس ذلك في المداولات المتعلقة بوضع دستور 1959 حول مكانة اللغة والدين كما سيبرز ذلك في الخطاب السياسي البورقيبي الذي تعامل مع هاتين المسألتين ببرغماتية السياسي المحنك فهو من ناحية حامي حمى الدين والمدافع عن العروبة عندما يزوره أحد رجال السلطة من العرب أو المسلمين وهو في نفس الوقت صاحب المواقف التالية :
- وصف الصلاة بأنها "زقزقة مياه" وإنزال الرأس للأرض ويكون المصلي "يكب ويقعد"
- الدعوة إلى التخلي عن الحج لما ينجر عن ذلك من نزيف للعملة وتعويضه بالحج إلى مقام الصحابي أبي زمعة البلوي بالقيروان
- فتح باب الاجتهاد لكل إنسان له "فكر حر ومادة شخمة" فيقبل من الإسلام ما يراه صالحا ويترك ما لا يراه دون حاجة إلى المعرفة الدينية وإلمام بالنصوص ومصادر التشريع التي تحتل المرتبة الأكثر أهمية من الاجتهاد مثل القرآن والسنة حتى أنه دعا إلى تغيير قانون الإرث في هذا الإطار وقد جاء في قوله " فهل يكون من المنطق في شيء أن ترث الشقيقة نصف ما يرثه شقيقها (...) فعلينا أن نتوخى طريق الاجتهاد في تحليلنا لهذه المسألة وأن نبادر بتطوير الأحكام التشريعية بحسب ما يقتضيه تطور المجتمع وقد سبق لنا أن حجرنا تعدد الزوجات بالاجتهاد في مفهوم الآية الكريمة ...إلخ".
- التطاول على الأنبياء والرسل مثل النبي إبراهيم بقوله "طلعت البوخارية في رأسه"فنام نوما رأى فيه أحلامه ، والنبي محمد (ص) الذي يعتبر نفسه متفوقا عليه هذا علاوة على اقتران اسمه معه في أناشيد إسلامية .
- التشكيك في القصص القرآني فهو القائل "مثل قصة عصا موسى التي ألقى بها فإذا هي حية تسعى وقد كان الإيمان بأن الحية يمكن أن تخرج من الجماد سائدا في أوروبا أيضا ولكنه انقرض تماما منذ عهد باستور ، ومن هذه الأساطير التي ظلت موضع إيمان الناس في البلاد العربية دهرا قصة أهل الكهف الذين لبثوا رقودا مئات السنين ثم انبعثت فيهم الحياة ".
وعلى الرغم من إقرار الدستور بأن العربية هي اللغة الوحيدة لتونس وأن الإسلام هو الدين الوحيد لها فإنه من الصعب أن تحظى تلك العناصر بالاحترام في ظل نظام سياسي لا يتوانى هرمه على التطاول بل واحتقار دينه ولغته ولعل ذلك ما يبرر المكانة الهامة التي حظيت بها الهوية في نص الميثاق الوطني والمناشير الصادرة حول تعريب الإدارة في فترة ما بعد المرحلة البورقيبية استجابة لمطلب غالبية المجمع المدني والسياسي آنذاك وهي ضرورة مصالحة تونس مع هويتها العربية الإسلامية. وقد تبين أن خطاب جميع القوى السياسية بما فيها التنظيمات الشيوعية التي نشأت في تونس منذ بداية الدولة الاستعمارية إلى اليوم ومن خلال عملية جرد لخطابها المتعلق بالدين واللغة ، تبين أنها سارت نحو التبني الكامل على اختلاف مشاربها الأيديولوجية لعنصري الهوية، أوفي أقصى الحالات لأحد العناصر والقضايا المتصلة به . والهام في كل ما قيل هو أن الدولة وجميع الأحزاب السياسية بقدر ما تقدمت نحو ذلك الاستعمال للهوية فإن أزمة الهوية لا تزال قائمة في هذا البلد بسبب التهميش الذي يمس اللغة بصفة خاصة يبرز ذلك عندما يقدر حجم الإنفاق الهائل الذي يخصص من ميزانية الدولة التي هي من أموال الضرائب التي يؤديها المواطن ، على لغة دولة أجنبية هي الفرنسية في التعليم بمستوياته والإعلام والإدارة والقطاع الخاص . لو قمنا بجرد منذ الاستقلال إلى اليوم سنجد أن ملايير الملايير من الدنانير قد أقطعت لفائدة فرنسا أولا وليس لفائدة الشعب التونسي ولا نعتقد أنه يوجد في العالم اليوم من هو سخي بهذه السذاجة ليمنح أموال شعبه للغة دولة أجنبية باسم الانفتاح والتفتح وإذا كان ذلك صحيحا لماذا لا توضع اللغات الأجنبية الأخرى وهي أكثر أهمية مثل الأنقليزية والصينية على قدر المساواة مع الفرنسية التي هي أشبه بالميتة في مستوى قيمتها الكونية أما إذا كانت الفرنسية جزء من ذاتية هذا الشعب ومن هويته فلتكن لنا الشجاعة على إعلانها لغة وطنية ثانية ومن ثمة تحوير الدستور في هذا الاتجاه وتصبح حمايتها من قبل نخب الستينات والسبعينات الفرنكفونية المتمترسة في أجهزة الدولة علنية وليست خفية . من القضايا المثارة كذلك هي علاقة الهوية بالديموقراطية وحقوق الإنسان ولكن الوصلة ظاهرة فالمتأمل في الديمقراطيات الموجودة في العالم اليوم بمركزه أو محيطه يلاحظ أنها تشتغل بلسان أعجمي سواء كان إنقليزيا أو فرنسيا أو أسبانيا أو إيطاليا في أوروبا ومستعمراتها القديمة أو فارسيا أو تركيا أو حتى عبريا وكرديا في بعض المناطق الأخرى من العالم أما أن تكون ديمقراطية تداولية لسانها عربي فذلك ما لا يكون !!!