ديمقراطيات الغرب واستبداديات الشرق
على محك غزة:ديمقراطيات الغرب واستبداديات الشرق
د. سالم لبيض أستاذ محاضر في علم الاجتماع بجامعة تونس
ديمقراطية غربية ناصعة البياض واستبداد شرقي حالك السواد. برلمانات منتخبة وأخرى منصبة. رؤساء منتخبون وآخرون معيّنون، مورّثون. ممالك وجمهوريات وجملكيات. إعلانات ومواثيق ومؤسسات حقوق الإنسان والمواطن وأخريات مستنسخات على شاكلتها. دساتير ومعاهدات واتفاقيات وشبيهاتها. التقى الجمعان على سحق غزّة سحقا وإبادتها كاملة. المقاطعة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحة وبشرا وحجرا حجم مدينة متوسطة في سلم قياس مدن اليوم. حصل الإجماع بين ديمقراطيتهم واستبدادنا. غزة تخلّ باشتغال العولمة ونظامها الدولي فتفسد على الحلفاء ومن والاهم نصرهم الدائم المستمر منذ أكثر من نصف قرن. من غزّة تشتمّ رائحة كريهة غير مصنفة في روائح العولمة. في غزة تشتم رائحة المقاومة. زيّفت القواميس العولمية المصطلح فصارت المقاومة إرهابا. وأعدت الطبخة التقليدية الحصار فالدمار ثم الأعمار . ثلاثية باتت معلومة في العراق وفي لبنان لتلتحق بها فلسطين. غزّة هي المحطة الأخيرة في تلك الحبكة. لكن المشهد ضبابي والرموز مطلسمة والمسالك مموّهة. في غزّة تترسب المقاومة في أدق وأصغر خلايا المجتمع الغزّاوي وتخترق مكوناته المجهرية. غزّة اليوم بكاملها مقاومة. كلّ يقاوم بيمناه ويسراه، بزينة الدنيا من مال وبنين، بالمتاع والنفوس، مقاومة بالأسلحة الضروس. في غزة لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة. في غزة الأكل مقاومة والشرب مقاومة واليقظة مقاومة والنوم مقاومة والعمل مقاومة والمقدس مقاومة والمدنس مقاومة. في غزّة الحياة مقاومة والموت مقاومة. كل شيء في غزة مقاومة، حيوان وحجر أرض وبشر فلا مكان لغير المقاومة. أهالي غزة وفلسطين، أبطالها، رجالها ونساؤها وأطفالها وشيوخها ومرضاها وجرحاها وشهداؤها، يعلمون علم اليقين أنهم لا يعرفون غير المقاومة، مهما كانت المسميات ومهما تعددت المسوّغات فهي لا تحتاج إلى تزكية أو مباركة. المقاومة في الكتب السماوية والوضعية، في الشرائع والأعراف، في المعتقدات والأديان، في المواثيق الإنسانية والإبداعات البشرية، في الموروثات الثقافية، في الفنون والآداب، في الفلسفات والأفكار. المقاومة حق مشروع لكل من انتزعت أراضيه واغتصبت أوطانه واعتدي عليه واضطهد. المقاومة حق لا يسقط بمرور الزمن فلا ينسى ولا يتناسى. المقاومة قيمة أساسية في إيطيقا البشرية تنتقل من جيل إلى جيل. عرفتها جلّ المجتمعات إلا فيما ندر. في فلسطين مقاومة غير كل المقاومات. فلسطين تقاتل نيابة عن كل المقاومين وعدوها هو عدو كل الشعوب والأوطان. عدو لا مثيل له في الزمان والمكان. عدو يقتل على اللغة والهوية والانتماء، عن البشرة ولون الشعر والعينين، عن الرأي والدين والمعتقد، عن اللباس، عن العادات والتقاليد. عدو فلسطين يقتل الحياة فوق الأرض وينتج الممات.المقاومة في غزة، ألوانها وأيديولوجياتها وفصائلها وقواها وكتائبها وعقائدها وأهدافها وبرامجها. مسمياتها متعددة، لكن كلها مقاومة. بالأمس كانت فتح والجبهة الشعبية والديمقراطية والنضال الشعبي ثم حماس والجهاد. وهي اليوم كتائب القسّام وكتائب الأقصى وسرايا القدس وكتائب أبو على مصطفى وكتائب جهاد جبريل وآخرون.. . كلها مقاومة لا تستثني أحدا. تتغير الأيديولوجيات والعقائد والأفكار والتنظيمات والقيادات وتبقى المقاومة. ذهب القادة المؤسسون، الشقيري وأبو جهاد وأبو إياد وأبو عمار وجورج حبش وأبو علي مصطفى وأحمد ياسين والرنتيسي، وبقيت المقاومة فهي باقية إلى نهاية المحتلين، فيها ولادة لفلسطين وبها وأد لعدوها المبين.على غزة تلتقي ديمقراطية الغرب واستبداد الشرق. على غزة يلتقي ساستهم وحكامنا. على غزة تلتقي مؤسساتهم وأجهزتنا. على غزة تلتقي تشريعاتهم وقوانيننا. على غزة يلتقي إعلامهم واغتصاب عقولنا. غزة إرهاب وليست مقاومة وعليها الركوع والمساومة. في غزة قطعت الأجساد تقطيعا وحرقت الأبدان حرقا ودمرت المباني تدميرا. في غزة هدمت المدارس والجامعات والمعاهد والثانويات فهي ليست في حاجة للقلم ومن يسطرون. في غزة وئدت البنات وأدا ودفن الأطفال أحياء وانتشرت الأشلاء ورائحة الشواء. في غزة اجتثت المساجد اجتثاثا وقصفت المقابر فلم يسلم الأموات ولا الأحياء. في غزة أحرقت المشافي ومخازن المؤونة والدواء. القتل والدمار في غزة يستعصي عن الوصف والإملاء.مدرسة تعلّم فنّ القتل وأساليبه المستحدثة. مدرسة ضحاياها قتلاها هنود حمر وجزائريون ويابانيون في هيروشيما ونقازاكي وفتناميون وصوماليون وأفغان ولبنانيون وعراقيون. مدرسة ضحاياها فلسطينيون. القتل والإبادة في غزة من الفنون الجميلة التي تؤمّنها أكاديميات عريقة وتنقلها شاشات البلازما ذات الصور اللامتناهية الدقة. نسي القتلة أن الموت في غزة شهادة يتبارى من أجلها المتبارون ويتنافس المتنافسون. الشهادة في غزة مقدسة فلا تفنى ولا تنتهي، هي في صميم معتقدات الشعوب وطقوسها ودياناتها. في غزة اكتمل المشهد أو يكاد. خراب منظّم للعمران وقتل منهجي للإنسان. لكن السؤال بقي على هيئته الأولى ما الذي حققته الدولة العسكرية الصهيونية ومن والاها من الديمقراطيين غربا ومن وثق بها من المستبدين شرقا. لقد تمكنت غزّة من الصمود لمدة ثلاثة أسابيع بكاملها أو يزيد في حين هزمت ثلاثة جيوش عربية في ستة أيام سنة 1967 وما يعنيه ذلك من رمزية الخلق والعدم بالنسبة للدولة العسكرية الصهيونية. ما زالت غزّة موطنا للمقاومة وللتنظيمات التي تتولىّ تأمينها. مازالت مدن الدولة العسكرية وقراها على مرمى حجر من النيران الغزّاوية ومن صواريخ الفصائل الفلسطينية. لم تتمكن الدولة العسكرية من اعتقال أي من القيادات السياسية أو الوطنية أو العسكرية للمقاومة. لم تستطع الدولة العسكرية احتلال أي من المواقع التي ترمز إلى السيادة، ولو تحقق لها كل ذلك لسارعت شاشاتها إلى عرضه واستثماره سياسيا وإعلاميا. وفي حين سقطت أسطورة الحمامة البيضاء في الشرق الأوسط وأعيد للقضية الفلسطينية بريقها بعد أن التقت عليها الدول الغربية والعربية وكادت أن تذهب بريحها. رصّت الصفوف من أجل غزة فاصطفت الشعوب إلى جانبها. تجاوز الأمر العرب إلى شعوب أخرى كانت إلى وقت قريب احتياطيا استراتيجيا لدولة العسكر الصهيونية. تجرأ المتظاهرون على السير نحو سفارات تلك الدولة والعمل على مهاجمتها في الأردن والمملكة المتحدة وفرنسا والنرويج بعد أن كانت خطوطا حمراء. كسبت القضية الفلسطينية مساحات جديدة ذات أهمية كبرى بعد أن اخترقت المحيط الأطلسي فانضمت دول أمريكا اللاتينية تعاطفا ودعما وقطعا للعلاقات الدبلوماسية مع الدولة العسكرية وهو أمر فاق خيال ديمقراطيات أو روبا الساهرة على استمرار وبقاء تلك الدولة، واستبداديات العرب المحتفظة بعلاقات دبلوماسية ومعاهدات معها. وكما أصبحت المدن الصهيونية هدفا مباشرا لصواريخ المقاومة فإن إلغاء السفارات وطرد السفراء وإنهاء اتفاقيات وادي عربة وكامب دافيد لم تعد حلما وإنما باتت أمرا ممكنا.لقد قدمت غزة تضحيات تفوق التقدير من البشر والإمكانيات ولكنها جلبت عدوها إلى مستنقع لن يخرج منه إلا منهزما. فإن انسحبوا دون تحقيق الأهداف وهي لم تتحقق، إلا إذا كان القتل والدمار هدفا في حد ذاته، فإن ذلك هزيمة نكراء لمن تحرّك بتلك القوة العسكرية العاتية لمنع انطلاق الصواريخ وتدمير الكتائب العسكرية لفصائل المقاومة. وإن بقيت القوة العسكرية في الأماكن التي احتلّتها في غزّة أو على تخومها فإن حرب استنزاف تنتظرها وهي منهزمة فيها لا محالة. وبذلك تترسخ نهاية الأسطورة الصهيونية دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل بعد أن كانت أنهتها المقاومة اللبنانية في صيف 2006. خطر محدق تنادى من أجله صناع الآثام في شرم الشيخ من قادة أوروبا الديمقراطيين ومن التّبع المستبدين أن لا تخافي ولا تحزني يا إسرائيل فتجدد انقلاب المفاهيم وتزييف الحقائق والمعايير. وبذلك فإن الهزيمة لم ولن تحلّ فقط بالدولة الصهيونية وحدها وإنما شملت وتشمل كذلك ديموقراطيات الغرب بعد أن خرج المجتمع المدني والسياسي فيها وجزء كبير من شعوبها في مظاهرات هي بمثابة الاستفتاء قابلته أنظمة الحكم بتأييد العدوان وإخفائه إعلاميا حتى لا تتصاعد موجات الضغط الشعبي. والتقت في ذلك مع مستبدّي الشرق الذين رغم خروج شعوبهم على بكرة أبيها إلى الشوارع لإنهاء أي علاقة مع الدولة العسكرية وفتح كل أبواب الدعم أمامهم فإنها قوبلت بمزيد من صم الآذان بل وممارسة القمع والعدوان. فأي فرق اليوم بين ديمقراطية الديمقراطيين واستبداد المستبدين، الجواب هذه المرّة عنوانه غزة.