لوجوه... والأزمنة... والأمكنة... للوجوه... والأزمنة... والأمكنة..... | ![]() |
![]() في الأقاصي، في الأفق البعيد، في تخوم المكان، على حدود البلاد، التقت الذات بالمعنى فأعطت عملا فنيا متميزا استوحى اسمه من الجغرافيا القديمة. جرجيس اسم ضارب في القدم، مدينة عريقة تذكرها مخطوطات المؤرخين وخطوط الجغرافيين، زمرّدة صغيرة وصفها أدب الرّحّالين، مدينة حديثة تُشدّ إليها رحال القادمين والغادين. جرجيس أو زرزيس منطوقة بلسان ذويها استحالت عنوانا سينمائيا تسّابق في عرضه مهرجانات السينما وقاعاتها وتتبارى في وصفه أقلام الكتّاب والنقّاد. في جرجيس بدأت رحلة محمد الزرن مع السينما، فيلم قصير يسمى «كسّار الحصى»، انتهت شريطا طويلا اسمه «زرزيس»، وبين هذا وذاك نحت المخرج الشاب اسمه على ألواح الفن الأصيل بـشريطيه «السّيدة» و»الأمير». وكأني بمحمد الزرن يؤسس لسينما اجتماعية أو هي سينما الواقع تنبعث من رماد الوقائع والأحداث اليومية ومن سير الأشخاص والجماعات ومن ذاكرة الأمكنة والأحياء ومن خصوصيات الأزقة والشوارع ومن رموز المدن والقرى، هي سينما من هم اقل حظّا ومكانة وغنيمة وحكومة ودعاية وتأثيرا. هي منبرهم ولسان حالهم وأداة حفظ تاريخهم وتراثهم والتعبير عن يوميّهم وعن حقهم في أن يكونوا على هيئتهم التي جُبلوا عليها. اجتباهم محمد الزرن موضوعا لفنّه فكشفوا له عن تفاصيلهم وخصوصياتهم وحميمياتهم وعلاقتهم بالمكان ومعرفتهم به وواثق اتصالهم معه وغيرتهم التي لا تضاهيها غيرة في الدفاع عنه. نجحت تجربة التأسيس بعد أن خرجت عن المألوف وعبرت الممنوع. فكأني بمحمد الزرن يصرخ عاليا كفانا سينما البايات، كفانا سينما الحكومات، كفانا سينما الحمّامات، كفانا سينما الجنس والقصور والبيوتات، كفانا سينما الأموات، كفانا سينما السلاطين والزوايا والترّهات، كفاكم تزويرا للتاريخ والحكايات فهناك من هم أجدر بالكاميرا وسحرها، إنهم أولئك الذين فقدوا مكانهم في سلّم التصنيف الاجتماعي فاستحالوا في هامش أنساقه وأنظمته، شرائح اجتماعية وأمكنتها، مدن وقرى تبدو بغير معنى في زمن المحاباة. لكن محمد الزرن قرأ في درس الأنثروبولوجيا الأول أن المحلي يمكن أن يستحيل عالميا إذا توفرت نواميسه وأن الجزئي له أن يكون كليّا إذا حضرت الحكمة في القياسات. فحمل كاميراه عينا انثروبولوجية لا تترك شاردة أو واردة إلا دوّنتها صورة هي موضوع تأويل لا يتجاسر على خفاياه سوى الراسخين في العلم الاجتماعي والاتصالي العارفين بمناهجه وأدواته ونظرياته. «زرزيس» هو آخر ثمار كاميرا محمد الزرن ولكنه الثمرة التي نضجت واكتملت بامتياز، هو خلاصة تجربته وروحها التي حملت ختم التأسيس المنشود. ولا شك أن محمد الزرن قد استفاد من جميع تمارينه السينمائية ومن كل الخبرة التي أكتسبها في ثنايا الشهرة والمشاركة والعرض والإعلام والنقد. ولد «زرزيس» من رحم سينما الواقع، فهو مجموعة من الأحداث وإن بدت متنافرة، فقد نظمها المخرج في سلسلة من الوقائع والمواقف، جمعها المكان بجماله المعتاد ووحّدتها القضايا والأهداف، فجاء عرضها مراوحا بين التصريح والتلميح وبين الحس والرمز، لكن لا مناص مع ذلك من الاعتراف بأن جلّ القضايا التي أثارها الفيلم كانت متحررة من تابوهات الكتابة والصورة ومن محرّمات السياسة والعقيدة، عبّر عنها المخرج على ألسنة شخصياته الأربع الرئيسية التي اختارها من صميم المعيش اليومي. كلّ له تجربته الخاصة المتفرّدة المتميزة المختلفة عن الآخر وعن الآخرين. لم يكن اختيار الشخصيات مرجعه سلطان مال أو أعمال أو سياسة أو جاه أو عرق ونسب. فالفاعلون هم ممن لا قرار لهم، ممن سكنوا التخوم والرُّبى، ممن خرجوا عن الأنساق والأنظمة بمعناها البنيوي، ممن لا وظيفة لهم بنفس المعنى، ولكن مع كل ذلك فلهم تأثيرهم الخاص وسحرهم وهوّاتهم ومريدوهم، فهم ممن يستطيع التعبير عن كل ما يجول في خواطر الآخرين ويعتمل في أذهانهم فيأبى الانسياب إلى الفضاء العام متحررا من سلطة المراجع والأئمة والقادة والساسة بمعانيها اللامتناهية. شخصيات أربع جمعها المكانالأول معلّم متعلّم عالم بخفايا السياسة والأفكار والعلاقات. متأبّط هموم الآخرين وفيٌ لكل ما حفظه في زمن المقاومة والصعود وفي زمن الاختلاف والتعدد والصمود، مهموم بكافة قضايا الكون مدافع عن آلام المضطهدين، ناقد لكل ما يأبى العقل والعرف والقانون التسليم به. الثالث فنّان تشكيلي وإن بدا غريبا عن المكان غربة لا يخفيها المخرج نفسه بسبب ضمور فنّه السينمائي وما لحق دار السينما الوحيدة بجرجيس من دمار وخراب شبيه بما يصيب المجتمعات في أزمنة الجدب والحروب، فإن محمد الزرن لا يستطيع رؤية الأشياء خارج ريشة الفنان التشكيلي، فهو الوحيد الذي لم يغب عن أفلامه، هو منطلق»زرزيس» وخاتمة المسك. بعينه رأى جرجيس وبريشته رسمها مدينة ساحرة الجمال بثلاثيتها النادرة واحة على ضفاف البحر تحدها غابة زياتين مترامية الأطراف. وبوعيه كان محاجّا لوّاما لما لحقها من فوضى الإسمنت المسلّح التي صارت مألوفة لدى الحواس بعد أن استشرت في العقول واطمأنت لها الأذواق. الرابع «بزناس» الشخصية المرموقة التي ولدت في خضمّ التفاعل بين إفرازات السياحة وضرورات المجتمع المحلي، فهو مقتنص فرص بامتياز يمتلك القدرة على اصطياد فريسته المؤهلة لدفع الثمن مهما كان طبعه. مال وجنس وبضاعة وبقايا ملابس وحلي وعقود عمل وزواج للالتحاق بالمركز وحوالات مالية ومساكن وقصور تشترى وتباع، مشاريع اقتصادية تنبعث وتختفي وتحايل أدّى إلى قضايا تعجّ بها المحاكم، يقابل كلّ ذلك فحولة متوقدة أو هي القدرة على بيع الجنس لمن يقدر على شرائه مهما اختلف الثمن. صنفان من «البزناسة» يستحضرهما «زرزيس». «البزناس» الشيخ الذي انتهت تجربته إلى بائع متجول على شواطئ النزل بعد أن استنفذ كل طاقاته وقدراته ولكنه المثال الذي يُتبع خاصة وأن سيره ومغامراته وغزواته وانتصاراته باتت تشكل أدبا شفويا متداولا حُقّ له أن يدوّن أو هو انتقل إلى مرحلة التدوين(انظر أطروحة الوشاني الظاهرة السياحية بجربة 2002). و»البزناس» الشاب اليافع الذي ترك مقاعد الدراسة مبكرا لأنها لم تعد مجدية، وبدأ تجربته مستفيدا من الدروس التي تعلمها في مدرسة الشيخ أو لنقل من صداها في أوساط «البزنس» السياحي. فقد اصطاد فريسته الأولى امرأة ألمانية تبدو عليها سمات نبل ورفاهية وتعلُّم وملامح جمال لم تنطفئ جذوته بالرغم من أن تقدمها في السن بائن للعيان، ومع ذلك فهي تتمسك بعلاقة ظاهرها الحبّ والمودة وباطنها الجنس والمتعة، لكنها علاقة غير متكافئة تعكس الاختلال في روابط مجتمعات ودول بأكملها، فالقوي قادر على البيع والضعيف ليس له إلا أن يشتري. وهنا تنقلب الرمزيات فتتحول القوة الشبابية إلى ضعف ووهن وينقلب الوهن والشيخوخة التي تحميها الأموال المتدفقة والعملات المصطفاة إلى قوة وفعل فتنشأ العلاقة بين شاب العشرين وعجوز الستين، علاقة تختزل براغماتية مزدوجة، وللحفاظ على ما تحقق في ظل تلك العلاقة من رغبة ومتعة ولذة يهون العنف وتغتفر كل حماقات الشباب. اتجاهان يشقان الفيلم
الاتجاه الثاني يجتمع من حوله كل من الفنان التشكيلي والبزناس وإن كان الالتقاء يستند إلى خلفيات ومرجعيات مختلفة. الفنان التشكيلي متعلق بالآخر الغربي بوصفه النموذج المثالي الذي جاء بالحداثة ولنا أن نعيد تشكيل مجتمعنا وعلاقاته وفقها، ومن تلك الزاوية ينتصر إلى جمالية المدينة وموقع الفن التشكيلي فيها. وطالما كان ذلك الفن غائبا عن السلوك اليومي فإن الفراغ سيأخذ مكانه لا محالة. وتبرز تلك المرجعية فيما يمكن اعتباره «هذيان» الفنّان ببعض رموز الفكر الغربي واعتقاده المطلق في أقوالهم أمثال فرويد، لاسيما في حديثه إلى التاجر اليهودي الذي كثيرا ما لا يفقه قوله ولا يدرك كنهه خاصة وأن ذلك التاجر محدود التعليم والمعارف وعلى درجة عالية من بساطة التفكير، فهولا يعرف الشيء الكثير عمّا يروّج غربيا عن «العبقرية اليهودية» المزعومة وعن وهم «حكمة اليهودي» الذي يسكن رأس الفنّان. ومن المهم الإشارة إلى حنين الفنان الخاص إلى التجربة الباريسية والتغني بها والرغبة في استئنافها فهي مرجعه وسبب تشكل فلسفته بأكملها. تصور آخر للحداثة
وثيقة فنية وسينمائيةعموما فإن «زرزيس» هو في نهاية الأمر وثيقة فنية وسينمائية هامة تعالج قضايا مستحدثة ينبض بها مجتمعنا في جرجيس وفي غيرها من المناطق، وقد استعان المخرج بمن كان جديرا بالتعبير عنها، ولكن الأهم هو أن الصورة السينمائيـة لمحمد الزرن كانت شاهدا على مرحلة مهمة في تاريخ المدينـة المعاصر ونمـط الثقافـة المنتشرة بها وحدود الوعي السائد فيها وإيطيقـا قادتها ومسؤوليتهم الأخلاقية عن اللامعنى الذي أصابها والرقابة التاريخية التي يجب على نخبتها ومفكريها تولّيها، وهي بذلك تشكل مدوّنة هامة تساعد الساسة والمشتغلين والباحثين في المجال الإثنوغـرافي والأنثروبولوجي وفي مختلف الأسلاك البحثية، على فهم وتحليل واقع مجتمع بحاله |