‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقال علمي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقال علمي. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 5 أبريل 2009

الفكر العربي والقضية الفلسطينية مقال منشور في مجلة شؤون عربية عدد 134

الفكر العربي والقضية الفلسطينية

د.سالم لبيض
قسم علم الاجتماع
المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس

عاش الفكر العربي عقودا طويلة على وقع محاولة الإجابة على السؤال القديم كيف تتحرر فلسطين ؟ سؤال بدا فاترا في هذه المرحلة من تاريخ ذلك الفكر. فتور تعود بداياته إلى ما بات يعرف في التاريخ العربي المعاصر بالعدوان الثلاثيني الذي تعرض له العراق سنة 1991 وهو الآن أكثر تجليا بسبب احتلال ذلك البلد سنة 2003 وتدمير بناه البشرية والثقافية والعمل على العودة به إلى ما قبل نشأة الدولة الحديثة . وذلك على خلفية قاعدتها الرئيسية التشفي والانتقام مما تباهى به أهل ذلك البلد من ضرب في أعماق التاريخ والحضارة ، يقابلها انبتات وحسية وحرمان من لذة الانتماء إلى تاريخ ضارب ذي شواهد معبرة لدى المحتل ، مما حول المحتل الجديد إلى سارق محترف لتلك الشواهد والعلامات وهو في ذلك لم يشذ على ما فعله أسلافه من الاستعماريين القدامى في محاولة للتأسيس لذاكرة فاقدة إمكانيات التأسيس بفعل عامل الزمن . إن دلالة التاريخ الأول هو نهاية نظام القطبية الذي برز بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط المحور بعد التحالف الذي لم يعرف التاريخ مثيلا له بين الشيوعيين والرأسماليين الذي انتهى إلى تقسيم مواقع النفوذ في العالم بين الطرفين . أما التاريخ الثاني فإن دلالته تكمن في انتهاء تلك الحقبة وفك الارتباط بين الحليفين اللدودين بعد انهيار القطب الشيوعي والانتصاب الكلي للرأسمالية العالمية تقودها الولايات المتحدة التي تحولت إلى إمبراطورية في زمن سقوط الإمبراطوريات. إن الخاصية الإمبراطورية لأي دولة هي مدى قدرة جيوشها على حماية مصالحها في أي جيب من جيوب المعمورة مهما بدا بعيدا .
في خضم تلك التحولات العميقة ستحتل القضية الفلسطينية الموقع الأكثر إثارة وتعقيدا من بين كافة القضايا التي عرفتها الإنسانية ليس فقط منذ الحرب العالمية الثانية تاريخ تحول الفكرة الصهيونية من أسطورة إلى "دولة" وإنما في التاريخ الاستعماري ككل . لقد تميزت تجربة الدولة الصهيونية الناشئة منذ ما يزيد عن نصف قرن بأنها الدولة الاستعمارية الوحيدة التي تجلب رعاياها من الشعوب الأخرى بعد أن إقناعهم بأنهم يقيمون على أرضهم التي وعدهم الله بها. وهي الدولة الوحيدة التي تنتقي رعاياها من بين مختلف الشعوب على أساس انتمائهم الديني في زمن كل المبادئ الإنسانية التي تمت مراكمتها تدعو إلى حرية التدين والاعتقاد . وهي الدولة الوحيدة التي استطاعت أن تربط مصيرها بالدولة الأكثر قوة وهيمنة في العالم على اختلاف الدول أيديولوجية وعقيدة . وهي الدولة الوحيدة التي تشرع القتل علنا وسرا ولا ترى فيه حرجا لتحقيق مصالحها . وهي الدولة الوحيدة التي تعلن طبيعتها التوسعية استنادا إلى أساطيرها المؤسسة . وهي الدولة الوحيدة التي لا تستطيع أن تتخلى عن طبيعتها العسكرية بسبب طبيعتها الاستيطانية على الرغم من ترويجها لنفسها على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق ، النموذج الذي لابد أن يحتذى حسب بعض المثقفين الغربيين والعرب .
إن كل تلك العوامل والتعقيدات في طبيعة الكيان الصهيوني ودولته المحدثة ستنعكس على القضية الفلسطينية بسبب تمفصلها مع ذلك الكيان من ناحية وبسبب ارتباطها مع واقع عربي ميزته الرئيسية غياب إطار سياسي واحد يتولى تدبير شؤونه حلت محله دويلات عاجزة عن إدارة شؤون رعاياها ناهيك عن تبني القضية الفلسطينية . بل باتت تستثمرها دفاعا عن الدولة الغاصبة بدل العمل على تحرير الأرض المغتصبة .
في مثل ذلك المناخ الذي امتزجت فيه لعبة المصالح بالحقوق بالأيديولوجيا بالمقدسات بالانتماء ، سيجد الفكر العربي نفسه في مواجهة كل تلك التعقيدات مجتمعة ولن تكون النوايا الصادقة لبعض مفكرينا العرب ضامنا دون السقوط في الزلل وتحول كثير من التنظيرات التي بدت بالأمس القريب حقائق لا تشوبها شائبة إلى يوتوبيا لا رابط لها بالواقع المعيش ولا قدرة لها على تحريك المشاعر ناهيك عن العقول .
يقصد بعبارة الفكر في الاستعمال الشائع جملة الآراء والأفكار التي يعبر بواسطتها الإنسان عن مشاكله واهتماماته ، عن مثله الأخلاقية ومعتقداته ، عن طموحاته السياسية والاجتماعية ، عن رؤيته للعالم . إن الفكر بهذا المعنى هو الأيديولوجيا بمضامينها العامة التي تشمل الفكر السياسي والاجتماعي والفني والفلسفي والديني . ولا يخرج عن هذا المعنى للأيديولوجيا إلا العلوم الصلبة بمعانيها الدقيقة والصحيحة نظرا إلى ما يشاع بأنه لا وطن لها وإن كان احتكارها اليوم من قبل أقوياء العالم يجردها من تلك الخاصية التي ارتبطت بها تاريخيا . كما يمثل الفكر أداة لإنتاج الأفكار المصنفة كأيديولوجيا أو المصنفة كعلم . إن الفكر العربي لا يخرج عن هذا السياق فهو جملة الآراء والمواقف والاتجاهات التي أنتجها العقل العربي وهو يواجه الطبيعة والتاريخ والمجتمع في نموه وتطوره التاريخي . لكن ذلك الفكر لا يكون منسجما ومتماهيا ضرورة فهو يحتوي على تيارات وآراء ومواقف مختلفة بل متناقضة ومتصارعة في أحيان كثيرة وذلك بسبب تعدد خلفياتها الأيديولوجية وتنوع أسسها ومنطلقاتها وتمثلاتها.
ولعل الموقف من القضية الفلسطينية هو المثال الأكثر دلالة على تنوع الرؤى وتعدد التيارات التي تصل حد التناقض والصراع الذي كثيرا ما يترجم سياسيا فيتجاوز الاختلاف إلى الصراع والصدام . لقد تميز الفكر العربي وخاصة تياراته الرئيسية بعدم القبول بالهزيمة أو حتى مجرد الاعتراف بها مهما اشتدت أو عظمت . إن كارثة فلسطين حسب تسمية الجيل الذي عاصر بدايات القضية ، شكلت دافعا للحديث عن "الأمة العربية ووحدتها" التي ستحرر فلسطين . واعتبرت أن الحل الشريف أو "الثأر" هو الطريق إلى تحرير فلسطين . كتب "محمد عزة دروزة " في كتابه "مشاكل العالم العربي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصادر سنة 1953 " ،"كل ما طال الزمان وتأخر هذا الحل أي الثأر إلا وتوطدت الدولة اليهودية وعمقت جذورها وكثر عدد سكانها وعظمت إمكانياتها واستعداداتها وصار اقتلاعها أو تغيير شيء من معالمها الراهنة على الأقل أشد تعذرا وصعوبة . وغدا ضررها وخطرها العسكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي على جميع العرب وبلادهم أشد وأعظم ". لا شك أن المفكر العربي كان متأثرا بالقيم القبلية التي حكمت العرب في كثير من أقطارهم ونجوعهم ولا تزال تحدد الكثير من مصائرهم ، إن زلل ذلك الخطاب تبرزه ضعف تقدير التحولات والمصالح . فالقضية تتجاوز صراع قبيلتين أو أكثر من القبائل العربية ، بل وتتجاوز كافة الدول العربية مجتمعة آنذاك مهما كانت درجة مصداقيتها هذا علاوة أنها فاقدة لكل مصداقية في التحرير والشواهد التاريخية دالة على ذلك . إنها قضية ترتبط ارتباطا مباشرا برهانات قوى دولية لا تتحقق إلا على أنقاض فلسطين . لقد رفض "دروزة" منطق التشبيه بين فلسطين والأندلس معتبرا أن ذلك "التشبيه فيه كثير من الخطأ ، فمهما عظمت مصيبة العرب بفقدان الأندلس فإنها ليست على كل حال موطنا من مواطن العرب الأصلية وهي قطر غير عربي الجنس والدار". أما فلسطين فهي " منذ أقدم أزمنة التاريخ موطن من مواطن الجنس وعقد صلة بين الشمال والجنوب أي أنها جزء من كيانهم القومي ". ويتجاوز مفكرنا مرحلة التشخيص إلى التفكير في العلاج فيقترح الحل الأمثل راسما في البداية ملامحه العامة بقوله "صار من أعظم واجبات العرب والحالة هذه أن لا يضيعوا لحظة واحدة في التفكير والتدبير لدفع هذا الخطر بالعمل المجدي في أسرع وقت ممكن ، وليس من شأن غير القوة أن تدفع هذا الخطر ويجب استرجاع فلسطين خلال ستة أشهر أو سنتين على الأكثر أي قبل أن يستفحل أمر اليهود ". ثم يحدد الكاتب أسلوب استرجاع فلسطين فيقترح خطة لذلك تقوم على ما يسميه "حرب التحرير الشعبية" أو "حرب العصابات" قائلا " إن الحل هو إعداد عشرة آلاف من الفلسطينيين اللاجئين على الأقل وتدريبهم وتجهيزهم وتنظيمهم في وحدات صغيرة ذات قيادات خاصة توزع على الحدود انتظارا ليوم المواجهة الذي يجب أن لا يطول ، أما الغطاء السياسي الدولي لعمل هذه العصابات فهو العمل على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة . يبقى بعد ذلك أن رد الفعل الإسرائيلي الذي لاشك أنه سيكتسي صبغة هجوم عسكري على الدول العربية التي تنطلق منها حرب العصابات وهنا يجب أن تكون الجيوش العربية مستعدة للإسرائيليين فتفشل حركتهم ولندعهم هذه المرة هم الذين يشتكون العرب إلى مجلس الأمن ".
لقد كان المفكر "دروزة" مثالا لمفكري عصره الذين عاصروا نكبة فلسطين الأولى . كان ذلك الجيل من المفكرين العرب لا يفصل بين ما هو عربي وما هو فلسطيني فلا مانع عنده من أن تكون العصابات المقاتلة من اللاجئين الفلسطينيين ولا مانع لديه كذلك أن تتولى حمايتهم العسكرية الجيوش العربية ، والسياسية دول تلك الجيوش . لقد اتسمت تلك التجربة الأولى ببساطة التشخيص وبساطة الحل ولكن مأزق ذلك الفكر هو عدم القدرة على إدراك حجم لعبة المصالح ودور الحركة الصهيونية وعجز الدولة العربية الناشئة آنذاك في ظل الهيمنة الاستعمارية وضعف التنظيم الفلسطيني وإمكانيات التعبئة في ظل الشتات والتهجير المنظم .
النموذج الثاني من الخطاب العربي هو النموذج اليساري الماركسي . ميزته أنه تم تسويقه أول مرة من قبل الشيوعيين الصهاينة القادمين إلى فلسطين مع بعض يهود ذلك البلد مباشرة بعد الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 أي أنه روج أول مرة فلسطينيا إن صح التعبير. مثالان سنعتمدهما في مناقشة ذلك النموذج .
المثال الأول يمثله المفكر المصري "سمير أمين". كتب "برهان غليون " في مقدمة كتاب "التطور اللامتكافئ " المعربة "من المفارقات أن القارئ العربي هو أقل من يعرف سمير أمين ، المفكر العربي الذي أصبح بسبب عمق واتساع المشكلات التي يطرحها وروح الكشف العلمي التي تميز بها ، والجرأة على الذهاب إلى ما وراء العقلية الضيقة والجزئية مرجعا عالميا في النظرية الاجتماعية أو بالأصح التاريخ الاجتماعي، فالقارئ الغربي يعرفه بشكل خاص كواحد من أهم من وجه في أبحاثه المتعددة ضربة كبرى للانغلاقية المذهبية ويعرفه القارئ الإفريقي والأمريكي اللاتيني مناضلا ومفكرا ثوريا". لاشك أن "سمير أمين" صاحب معرفة موسوعية متميزة وأن مساهمته في إثراء الفكر العربي كبيرة على الرغم من أن أغلب كتاباته كتبت بغير العربية قبل أن تترجم إليها . إن انتماء "سمير أمين" إلى الأيديولوجيا الماركسية دفعه إلى الكتابة في مختلف القضايا الإنسانية على أرضية تلك الخلفية الأيديولوجية . لكن كتاباته حول القضية الفلسطينية كانت محدودة لعل أهمها ما جاء في كتابه "الأمة العربية ، القومية وصراع الطبقات". لقد عبر الكاتب في مؤلفه عن تبنيه اتجاها تمجيديا فيما يتعلق بتجربة الحزب الشيوعي الفلسطيني قائلا "لقد تعرب الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي أسسه بعض المثقفين اليهود في العشرينات ن خلال الثلاثينات ، وفي تلك الحقبة كانت الأممية الشيوعية تلعب دورا ثوريا يشهد على ذلك شعار تعريب الحزب الذي رفع سنة 1924 .وفي وجه الطبقات القائدة العربية أصبح الحزب الشيوعي الحزب العربي الوحيد للتحرير الوطني ، لكنه كان ضعيف الجذور بشكل لم يسمح له أن يحول ثورة 1936 إلى ثورة لا تقهر تحت قيادته . وكانت الحرب العالمية وسياسة روسيا القائمة على تجنب الصدام مع الإمبريالية هي من أسباب انحطاط الشيوعية الفلسطينية ".
يبدو أن "سمير أمين" لم يبصر حقيقة النضال الفلسطيني خارج قيادة الشيوعيين له رغم إدراكه أن الحزب القائد للحركة الشيوعية بمجملها والمقصود "الحزب الشيوعي السوفياتي" هو أول المعترفين من أعلى منابر الأمم المتحدة سنة 1948 بالكيان الجديد
المدعو "إسرائيل" وهو ما عبر عنه الرفيق "قروميكو ".وهو أول المدركين أن الأحزاب الشيوعية العربية وعلى رأسها الحزب الشيوعي اليهودي الذي سيتحول إلى الشيوعي الفلسطيني هو أكثر تلك الأحزاب تبعية للحزب القائد في موسكو . وفي مقابل تلك الصبغة التمجيدية للشيوعية الفلسطينية أدان "أمين" منظمة التحرير الفلسطينية معتبرا إياها من صنع الدول العربية سنة 1964 في قمة الإسكندرية كما يعتبر أن تلك المنظمة ولدت عاجزة على تعبئة الشعب الفلسطيني لتولي عملية التحرير ويستدل على صحة قوله بإناطة قيادتها إلى "ديماغوجي ثرثار هو أحمد الشقيري".وهي عبارة عن تجمع ذو طبيعة بيروقراطية لعناصر البورجوازية والبورجوازية الصغيرة التي تجاوزتها الأحداث منذ فترة طويلة وهي شرائح يرى "أمين" أنها خانت شعبها منذ ثورة 1936 . لا شك أن "أمين" يلتزم في تصوره هذا بجهاز مفاهيمي صارم يعطيه الأولوية المطلقة في تحليله . ولكن السؤال المشروع حول ذلك التصور هو لماذا لم يطبق "أمين" تلك الصرامة على "فتح" التي انضمت إلى المنظمة منذ تأسيسها سنة 1965 . فهو لا يتهم التنظيم الفتي بالتواطئ والخيانة أو الانتماء إلى الشريحة البورجوازية أو الرجعية بالرغم من انحدار قادة ذلك التنظيم من أصول إسلامية وتحديدا من حزب التحرير الإسلامي بالنسبة لياسر عرفات وصلاح خلف وخالد الحسن وأبو يوسف النجار كما يثبته "فايز سارة" في مقاله المنشور في مجلة الوحدة عدد 44 بعنوان " الاتجاهات السياسية العربية وقضية فلسطين". لا شك أن "سمير أمين" لم يعثر على الخيط الرابط في النضال الفلسطيني بين تبنيه للخط الشيوعي وغياب ذلك الخط عن المعارك الحقيقية التي تولاها غيره من التنظيمات غير الشيوعية مثل فتح التي لا شك أن "أمين" يعلم منطلقاتها الأيديولوجية والخلفية العقائدية لقادتها ومناضليها اللاشيوعيين ومع ذلك فهو لا يتأخر في الإشادة بها تاركا "الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين" قبل أن تتحول عن فكرها القومي العربي قبل سنة 1967 وقبل أن تنقسم إلى تنظيمين إثنين . ربما لم يشر "أمين" إلى تلك الجبهة بسبب انتساب منخرطيها وقادتها إلى البورجوازية والبورجوازية الصغيرة وهو انتماء لا شك أنه لم يتغير رغم التحول في الموقف من الأيديولوجيا القومية العربية إلى الفكر الماركسي .
المثال الثاني يمثله "العفيف الأخضر" أحد أبرز معربي الماركسية قبل أن ينتقل إلى صف الدعوة إلى عدو الأمس "الإمبريالية الغربية". ففي مقال نشره سنة 1979 في مجلة دراسات عربية بعنوان "بعد الهزيمة ما العمل" جاء فيه "إن الثورة الفلسطينية لن تقتصر مهمتها على تحرير فلسطين بل ستكون مهمتها الأساسية تفجير تناقضات الكيانات العربية عن طريق تحرير فلسطين فهي ظاهرة شعبية ثورية وظيفتها أن تكون كاشفا للتناقضات الداخلية للمجتمع العربي المفكك وأن تكون محرك وحدته وتاريخه المقبل ".يستند "الأخضر" في فهمه إلى ما تعلمه من "ماركس" وخاصة قوله "في فرنسا التحرر الجزئي هو أساس التحرر الشامل وفي ألمانيا التحرر الشامل هو شرط الوجود لكل تحرر جزئي ". لم يراهن "الأخضر" كما فعل "سمير أمين" على أحد فصائل الثورة الفلسطينية وإنما راهن عليها مجتمعة على اختلاف منطلقاتها وأهدافها وتصوراتها وعقائدها وهي دون شك مختلفة على الرغم من اتفاقها . ثم حملها ما لا طاقة لها به وهو تفجير تناقضات الكيانات العربية عن طريق تحرير فلسطين .وكأن الثورة الفلسطينية كانت قادرة على تحرير فلسطين وتخلفت عن ذلك الهدف والمطلوب منها تحقيقه ليس كغاية في حد ذاته وإنما من أجل هدف آخر هو تفجير التناقضات العربية .كان على "الأخضر" أن يدرك أن الثورة الفلسطينية قادمة على مزيد من الانحسار بعد أيلول الأسود سنة 1970 وبعد إمضاء إتفاقيات كامب دفيد سنة 1979 وبسبب الحروب التي شنت ضدها آنذاك في لبنان وخاصة حصارها وطردها من بيروت سنة 1982 ، حيث كانت الثورة الفلسطينية مجسدة في مجموعة من الفصائل في الدول المعروفة بالطوق . وبعد ما يناهز العشرين سنة على كتابة "الأخضر" لمقاله تبرز تلك الأفكار وكأنها قادمة من عالم آخر ليس لأن الثورة الفلسطينية لم تحقق مكاسب بل لأن فكرة الثورة العربية وتدمير الكيانات القطرية العربية تبدو اليوم وكأنها منبعثة من ماض سحيق بعد أن كانت بالأمس القريب مطلبا شعبيا تتبناه شرائح واسعة من المجتمع العربي إضافة لبعض النخب الفكرية والسياسية.
النموذج الثالث عبر عنه الكاتب الفلسطيني "منير شفيق" صاحب كتاب "الإسلام ومعركة الحضارة" ، الذي بدأ حياته الفكرية ماركسي النزعة ثم انتقل إلى التيار المضاد أي التيار الإسلامي . لقد عمل "شفيق" على ملئ الفراغ النظري الذي عرفته تجربة الحركات الإسلامية لاسيما فيما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية . إلا أن إضافته لم تكن في مستوى حجم فعل تلك الحركات في المستوى السياسي .فقد كتب "أصبح موقع القضية في الصدارة وغدت مكانة الشعب الفلسطيني مرموقة على الصفحات التي تسطر فيها نضالات الشعوب المقهورة المستضعفة ، ولم يعد من الممكن أن يمر يوم أو ينعقد مؤتمر أو اجتماع أو لقاء شعبي أو رسمي أو دولي دون أن يكون فيه نصيب للموضوع الفلسطيني". وتحت عنوان "طريق فلسطين طريق الوحدة" تناول الكاتب تحليل الصراع الدائر بين مختلف فصائل الثورة الفلسطينية فصنفها إلى فريقين رئيسين ، الأول يمثله دعاة تنظيف البيت أو التحرير أولا . حجة هذا الفريق لا تفتقر إلى المنطقية حسب رأي مفكرنا لأن الوصول إلى تحرير فلسطين تحريرا كاملا لا يتحقق ما لم ترفع العقبات الداخلية التي تمنع إستنهاض الجماهير وتحول دون التوحيد . أما الفريق الثاني فهو الفصائل التقليدية المشكلة لمنظمة التحرير الفلسطينية . لقد كان "شفيق" منذ زمن مبكر يؤسس لشرعية نضالية جديدة تأخذ فيها الحركات الإسلامية الفلسطينية مكانة وإن كان لا يسميها آنذاك . كما حدد قوى التحرير فيما يسميه القوى المكبوتة والنائمة ومئات الملايين الذين يظهرون في كل مناسبة أو حدث فيها صدام حقيقي مع العدو الصهيوني ". ثم يحدد الكاتب عمق الثورة الفلسطينية ضمن ما يسميه العائلة الواحدة المتمثلة في البلاد العربية والإسلامية . لكنه يدعو إلى احترام الخصوصية الفلسطينية لتحقيق الوحدة الفلسطينية حول المضامين الجهادية فيتحول الفلسطينيون إلى "كتيبة في جيش المجاهدين وهي تزحف لتحرير فلسطين التي جعلها الله مهد المسيح وأرض الإسراء والمعراج ووضع في بيت مقدسها أولى القبلتين وثالث الحرمين المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله ".
النموذج الرابع والأخير يمثله الكاتب القومي العربي المعروف "عصمت سيف الدولة" الذي نذر حياته دفاعا عن القضايا القومية العربية التي خصها بمؤلفاته العديدة بما في ذلك القضية الفلسطينية التي أفردها بعدة أعمال لعل أبرزها كتابه الموسوم "التقدم على الطريق المسدود" الذي يعتبره مؤلفه بمثابة الرؤية القومية للقضية الفلسطينية . ست نقاط تناولها سيف الدولة في مؤلفه بالتحليل ، أولا أن الثورة الفلسطينية تتقدم ولكن على طريق مسدود سبب ذلك أن محصلة الانتصارات التي حققتها في المنابر الرسمية العربية والدولية منذ سنة 1974 ستشكل عائقا أمام عملها وتطورها في المستقبل بناء على قاعدة من يأخذ لابد أن يعطي للآخرين والعطاء في هذه الحالة هو التنازل . ثانيا إن الحياد في القضية الفلسطينية مستحيل ومن ثمة فإن جميع الدعوات التي تحاول أن تلفق بين الحق المشروع والاغتصاب التوسعي هي حلول كاذبة ومنحازة للعدو . ثالثا إن الحركة الصهيونية ترى أن الأسباب الجدية للكفاح من أجل الأرض المقدسة هو موقعها الإستراتيجي وتأثيره في مستقبل المنطقة وبالتالي الحيلولة دون قيام قوة عربية مسلحة تضم مصر بإمكانها أن تتحكم في قناة السويس والطريق إلى الهند . رابعا أنه عندما تحل مشكلة فلسطين لن يكون المستقبل العربي مجرد امتداد لما سبقه بل سيكون مستقبلا مختلفا نوعيا في قواه ونظمه . خامسا إن النظام الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما حول النظم الاجتماعية في الأرض العربية بين الرجعيين والتقدميين إنما هو قائم حول الأرض المغتصبة ولمن تكون .سادسا إن طبيعة الثورة الفلسطينية والنظام الداخلي لأداتها أي منظمة التحرير الفلسطينية قائم على أساس الانتماء إلى الإقليم الفلسطيني .وينتهي "سيف الدولة" إلى القول "بكل الإخلاص الذي لا نملك غيره الآن نقول إن مرحلة الثورة الفلسطينية قد أوشكت على نهايتها وحققت فيها أقصى ما تسمح به طاقاتها وظروفها الإقليمية وعليها أن تعد نفسها من الآن لتكون جزء عضويا من متطلبات المرحلة القادمة "الثورة العربية".
تعكس لنا تلك الأنماط من الخطاب العربي حول القضية الفلسطينية على اختلافها أيديولوجيا اتفاقا في نزوعها نحو نوع من التبشير وفق ما تقتضيه صرامة مفاهيمها. فقد كانت تصلح أداة للتعبئة والتنظيم وتجنيد المناصرين والمريدين ولكنها لم تنبؤنا بما ستؤول إليه الوقائع والأحداث . تلك الأحداث التي سفهت مقولات "دروزة" في التحرير القريب بواسطة حرب العصابات التي ستحقق الثأر . وبينت كم كانت طوباوية مقولات "سمير أمين" في مراهنته على الدور الشيوعي في قيادة عملية التحرير أو حتى مجرد المشاركة فيها في بعض الفترات التاريخية .كما عكست عجزا لافتا لدى "عفيف الأخضر" في فهمه لدور الثورة الفلسطينية وكان عليه أن يتفطن إلى أن الثورة الفلسطينية سحقت سحقا في ضواحي عمان في أيلول الأسود ثم تكرر الأمر في بيروت سنة 1982 لمجرد شعور مناوئيها من الأنظمة العربية أنها يمكن أن تشكل خطرا على وجودهم دون أن تعلن انخراطها في مثل ذلك الخطر. كما لم تسر الثورة الفلسطينية في الطريق الذي حدده لها "سيف الدولة" بالرغم من غلقه طرقا أخرى واعتبارها مسدودة أمامها فصدق الرجل وحسن نواياه في التحليل لم تجعل الثورة الفلسطينية تتقدم نحو "الثورة العربية" .بل لقد بينت الوقائع أن الثورة العربية على أهمية المقولة تاريخيا لم يعد لها حضور وأنصار إلا لدى بعض النخب القومية المحدودة التأثير وفي ظل غياب تلك الثورة بعد الهيمنة الأمريكية على المنطقة والعالم فإن الثورة الفلسطينية ستبحث عن طريق آخر هو الطريق إلى الداخل . لقد أدركت منظمة التحرير الفلسطينية صعوبة الظروف الجديدة بعد نهاية حرب الخليج في سنة 1991 فانخرطت في المشاريع التي أعدت للمنطقة برمتها فشاركت في مؤتمر مدريد وانتهت إلى اتفاق أسلو الذي أفرز ما بات يعرف اليوم بالسلطة الوطنية الفلسطينية على جزء من الضفة الغربية وقطاع غزة . وقد تبين أن تلك السلطة لم تكن سوى موطأ قدم للقوى الفلسطينية الصاعدة . وهو ما انتبهت إليه الدولة الصهيونية وحلفائها في الغرب الأمريكي والأوروبي فتنكرت تلك الدولة لمضامين الاتفاقيات وحولت مقر القيادة الفلسطينية إلى سجن كان شاهدا على اغتيال الرمز التاريخي للثورة الفلسطينية والشريك صاحب مقولة سلام الشجعان ولم يكن الوحيد فقد اغتالت الدولة الصهيونية رموز مختلف التنظيمات لتشمل أبو علي مصطفى اليساري والشيخ المقعد أحمد ياسين الإسلامي وبين هذا وذاك شملت عمليات القتل الفردي والجماعي كافة الأعمار ومن كافة الشرائح سواء كان ذكرا أو أنثى ، أميا أم متعلما ، ثوريا أم محافظا غنيا أم فقيرا متدينا أم علمانيا المهم أن تكون هويته فلسطينيا. سنوات عصيبة عاشتها الثورة الفلسطينية بعد أن باتت يتيمة في ظل عجز الدويلات العربية على توفير الحماية لها بسبب ضعفها الذي لم يشهد التاريخ له مثيل وبسبب قلة حيلة العرب شعبا. لا أحد يستطيع تحمل وزر طلقة نار واحدة من خارج تلك المساحة التي تعد بالكسور العشرية في غزة والضفة إذا استثنينا لبنان وخصوصياته حيث ساعد التنوع الطائفي والمذهبي على ضعف الدولة ومن ثمة استفادة المقاومة من ذلك الوضع . لقد تراجعت الحركات الشيوعية والقومية في داخل الأرض المحتلة فتقلص دور الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وغاب فعل الحزب الشيوعي الفلسطيني أما التيارات القومية العربية التي وجدت في فتح أحسن الأطر للتعبير عن خياراتها فقد انتهت مسيرتها إلى أوسلو ونتائجها وازداد وضعها تعكرا بسبب ما وفرته لها السلطة من امتيازات كانت سببا كافيا لانتشار الفساد بأنواعه والتحول من موقع المقاومة إلى الدفاع عن أمن العدو وحقه في الوجود وهو ما أفقد الحركة كل مصداقية أمام جماهيرها والشعب الفلسطيني والشعب العربي عامة فانتهت مسيرتها بالسقوط المدوي في الانتخابات ليحل محلها من هو أكثر مصداقية أو هكذا باتت تعرف في الساحة الفلسطينية أي حركة المقاومة الإسلامية حماس الفصيل البديل الذي استطاع أن يستثمر النضال التاريخي لمختلف الفصائل الفلسطينية وأن يحقق بفضل الانتفاضات والانتفاضات المسلحة التي قادها وأسلوب العمليات الاستشهادية الذي أسس له قبل أن تنخرط فيه مختلف التنظيمات الأخرى ، استطاع أن يحقق ما لم يبشر به الفكر العربي بمختلف تياراته عندما كان ينعت الثورة الفلسطينية بالمحدودية والعجز ، أي إسقاط الشعار التاريخي للدولة الصهيونية وجعلها تحتمي بجدار عازل في بوتقة محدودة جغرافيا وتفقدها أية مصداقية أمام من جهز لمساندتها أي الرأي العام الأوروبي الذي بات يعتبرها الخطر الأول المهدد للعالم . لقد تمكنت المقاومة الفلسطينية في ظل ذلك الوضع من الصمود لعل أبرز مظاهره الجندي المختطف الذي عجزت الدولة العبرية العاتية على استرجاعه بالرغم من محاولات التدمير التي قامت بها في الضفة وغزة. كما عجزت تلك الدولة على إيقاف الصواريخ التي تطلقها الفصائل الفلسطينية . لقد بات النموذج الجهادي هو المحتذى من قبل مختلف التنظيمات والفصائل الفلسطينية لإعادة المصداقية إلى خطابها بعد أن ذهبت به أوسلو واستتباعاتها . إلا أن المفارقة في تجربة حماس التي استثمرت الإرث النضالي الفلسطيني والقومي العربي طيلة نصف قرن أو يزيد من عمر القضية ، شأنها في ذلك شأن حزب الله في لبنان ، ستجد نفسها أمام خيارين متناقضين فهي حركة مقاومة أو هكذا أعلنت نفسها منذ نشأتها ولكن ما حققته من مكاسب وتراكم لتجربتها ومن قبول لدى مختلف الشرائح الشعبية الفلسطينية ومن رأسمال رمزي لدى كثير من قوى المقاومة العربية والعالمية، كل ذلك سيدفعها إلى الانخراط في لعبة الدولة ومؤسساتها مما جعل ما اعتبرته تلك الحركة نصرا متمثلا في تحقيق الأغلبية داخل المجلس التشريعي الفلسطيني على حساب القوى التقليدية كاسبة الأحقية في تشكيل الحكومة ، بداية انهيار وتراجع لمشروع قدم نفيس قادته وكوادره شهداء من أجل استمراريته وتواصله خاصة وأن المقاومة تهدف في نهاية الأمر إلى النصر بل إن السقوط المدوي لحركة حماس في صائفة 2007 بسبب ابتلاعها الطعم المتمثل في تشكيلها الحكومة قد أجهض الأماني وحول المشروع برمته إلى واقع مرّ بعد أن نجحت الدولة العبرية في تنفيذ إستراتجيتها القائمة على مزيد من التفتيت وحولت "الكيان الفلسطيني" الوليد إلى كيانين متقاتلين محكومين بوهم السلطة . لقد كان على حماس أن تدرك أن النصر ليس إقامة دولة على جزء من تراب فلسطين وإنما تحرير فلسطين من النهر إلى البحر . وإن كان مطلب بناء الدولة على ما في تجربتها العربية اليوم من علل وضعف وعجز بل وهوان لا يمكن تقييمها بمنظار الستينات أو حتى السبعينات من القرن الماضي في ظل الزخم النضالي القومي العربي واليساري مما جعلها عائقا أكثر منها مكسبا وإنما وجب النظر إليها على أنها وسيلة ضد التفتيت الذي يستهدف اليوم مكونات تلك الدولة ولعل ما يعيشه العراق والسودان والصومال بل وفلسطين نفسها من أحسن الأمثلة . إن خلاصة كل ذلك هو أن المقاومة الفلسطينية بدأت عربية وانتهت فلسطينية كما بدأت قومية عربية ويسارية وانتهت وطنية وإسلامية وهو ما بشر الفكر العربي بنقيضه .
إن المقاومة الفلسطينية تواجه عدوا فريد النوع وسيلته من أجل الاستمرار القتل مهما كان حجمه له نزوع نحو التحالف مع كل قوة قادرة أن تحقق له أهدافه ، فضاء حركته وفعله من أجل انتصار مشروعه الكرة الأرضية بأكملها ،إستراتيجيته تقوم على إضعاف العرب قدر الإمكان لكي لا يشكلوا عمقا إستراتيجيا للمقاومة مهما كانت هويتها الثقافية والسياسية . في مقابل كل ذلك ليس من خيار أمام حركة المقاومة سوى أن تكون فلسطينية فالقضية تدور معاركها على أرض فلسطين . وهي قومية عربية لأنها أرضا عربية مغتصبة في زمن عجز العرب على بناء دولة قومية تسترجع أرضها المغتصبة . وهي إسلامية ومسيحية ويهودية لأن الأديان المتعايشة على تلك الأرض لا تقبل الضيم والقتل والتشريد والاغتصاب مهما كان مأتاه ولو كان ذلك متأت من إحدى المنظمات التي توظف إحدى تلك الديانات . إن كل تلك الديانات مستهدفة من قبل المنظمة الصهيونية العالمية التي لم تحتل الأرض من أجل الأرض الموعودة كما تدعي بل من أجل الانتصار في لعبة المصالح حتى أن "ماركس" في كتاب المسألة اليهودية أشار إلى أن الإله الحقيقي لليهود هو المال فهم لا يعبدون سواه. كما أن للقضية وجه طبقي بشكل من الأشكال فلا يقدم التضحيات من أجلها سوى فقرائها وخاصة الاستشهاد كما لا يموت في المقابل أباطرة المال الصهاينة من أجل أسطورة الوطن الموعود فهم أول من غادر اتقاء لشر صواريخ حزب الله في صائفة 2006 .إن قضية فلسطين بالإضافة لكل ذلك هي قضية كل الإنسانية جمعاء بامتياز ، إن الصهيونية المشتغلة بكافة أصقاع الدنيا لا ترى في دولتها إسرائيل سوى قاعدة متقدمة من قواعدها أما مصالحها فتنتشر في كل مكان وهي في حاجة مأسستها. فقد كانت الصهيونية تعيش حرب مواقع في عواصم مختلف الدول مع دولة مصر الناصرية لما كانت تلك الدولة المعبر عن إستراتيجية العرب أما اليوم وفي غياب مثل تلك الإستراتيجية فإن الحركة الصهيونية بقيت اللاعب الوحيد في مختلف الفضاءات ولا منافس لها ولاشك أنه من الصعب اليوم إقناع دولة مثل الصين أو الهند أو حتى تركيا الإسلامية بأن إسرائيل دولة عنصرية مغتصبة للأرض وقاتلة ومشردة لشعبها.
إن طبيعة المعركة مع المنظمة الصهيونية وأداتها إسرائيل وحلفائها في الغرب والشرق وخاصة الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون فلسطينية فقط أو عربية أو إسلامية أو إنسانية . إن هذه المستويات لابد لها أن تتداخل في الأذهان وأن تكون لها نفس المكانة الواحد يكمل الآخر فلكل مشروعيته في المقاومة ودونها مجتمعة سيبقى التبشير بالنصر سيد الموقف.

السبت، 4 أبريل 2009

التكنولوجيا أيديولوجيا العصر مقال منشور في مجلة الرّافد الشارقة مارس 2007

التكنولوجيا أيديولوجيا العصر

د.سالم لبيض
قسم علم الإجتماع
المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس

مفارقة يعيشها الإنسان المعاصر الذي ينتج التكنولوجي كما الذي يستهلكه سواء بسواء . أساس تلك المفارقة هو الاعتقاد بأن التكنولوجي يرادف التقدمي والعصرني ، فهو حياة بكاملها لا يدرك معناها إلا من عاشها . وهو إنساني بمعنى الكونية لا يستطيع أن يفلت من قبضته من بني البشر إلا من تمت دعوتهم إلى عوالم أخرى غير مألوفة وحتى أولئك يجهزون إلى عوالمهم الجديدة بواسطته . إن قدرة التكنولوجي على اختراق الزمان والمكان وإعادة تنظيمهما بما يناسب منطقه الخاص أمر يعسر تجاهله . إن التكنولوجي اليوم يعيد تنظيم جميع العلاقات فلم يستثن الاقتصاد حيث تجاوز حجم المعاملات بواسطة التجارة الإلكترونية حديثة الظهور البليون دولار سنويا . ولم يعد المال ممثلا بالذهب أو المبالغ النقدية الملموسة فأصبح يخزن إلكترونيا في حواسيب البنوك العالمية وغدت قيمته تحدد بأسعار الصرف والأسهم المتداولة لحظة بلحظة . ومن جراء تزاوج بين الحواسيب وتقانة الاتصال الفضائية تحول تبادل العملات وصرفها إلى سوق عالمية تنشط دون توقف. ولم يستثن السياسة حيث بات فرز الأصوات في الانتخابات التي تجري في المجتمعات الكبرى كما في الصغرى يتم في ساعات إن لم يكن في دقائق بعد أن كان يستغرق أسابيع . هذا علاوة على الحظوظ الكبرى التي توفرها أدوات الدعاية لمن يمتلكها . وفي الميدان الطبي فقد المقدس قدسيته ونزعت عن الجسد حرمته بعد أن نشر التكنولوجي أدق خصوصياته وإلى غير رجعة كاشفا ستره ذلك الحصن الديني صعب الاختراق . فبات بالإمكان معرفة جنس الأجنة قبل ولادتها وفتحت أبواب التدخلات الطبية على مصراعيها ليس من أجل استئصال الأمراض فحسب وإنما بملامسة الجسد جراحة وتجميلا ، نظارة وتبجيلا ، مما يحفز على الحياة ويجدد معناها وفاء لطوبى قديمة تُدعى السعادة . ولم يستثن عالم الاتصال فعرف ثورة لا تضاهيها نظيراتها صاحبها اختراق لجميع أجهزة الرقابة السياسية والأمنية والأخلاقية والدينية وللحدود التقليدية التي لم تعد تحتفظ إلا بخيالات كاريكاتورية مخيفة وقديمة . مما جعل من إحدى ربيباتها أي سيادة الدولة بل الدولة نفسها كـ "جذع نخل خاو" فقد مقوماته القديمة . كيف لدولة أن تحتفظ بسيادتها على أرضها والحال أن خلاياها لا شيء يقيها أو يحميها من المخبرين الجدد تلك الأقمار الصناعية غزيرة الجاسوسية حتى لا تكاد تفلت من عدساتها أسراب النمل ودبيبه . ألم تعرض الصور الملتقطة عن طريق الأقمار الصناعية كيف تحول حي سكني بعاصمة زمبابوي إلى هباء منثور سرعان ما جعلت منه منظمة هيومن رايتز قضية من قضايا حقوق الإنسان ؟ لقد بدأ الأمر أول مرة مع ظهور التلفزيون ، بدأ تسلية وتحول عنفا تمارسه الدولة على رعاياها لينتهي اغتصابا للعقول . إن التلفاز على حد تعبير "بودريار" المفكر الفرنسي ما بعد الحداثي لا يعرض لنا العالم أو يعكسه أو يمثله وإنما أصبح بصورة متزايدة يحدد ويعيد تعريف ماهيته فهو ينقل " عالم الواقع المفرط " أما الواقع الحقيقي فلم يكن موجودا . في خضم ذلك التنامي للتكنولوجي صورة ودعاية وقهرا حتى أن البعض خال أن الصورة تربعت نهائيا على عرشه وأن الوسائل الأخرى لن تتجاوز أدوارها وصيفات الملكة المتوجة التي تأمر ولا تؤمر ، فتح الأبواب مجتمعة كائن تكنولوجي ليس بالجديد ولا هو بالقديم . إنه الهاتف الذي غير من أسمائه قبل تغيير أشكاله فهو الجوال والمنقول والمحمول والخلوي والموبايل . وهو الخفيف الذي لا يثقل والصغير الذي لا يكبر والمقرب الذي لا يبعد ولا ترهقه المسافات . تقول لنا الإحصائيات أن مستعمليه لم يتجاوزوا 11 مليونا سنة 1990 ليقفزوا إلى 400 مليون سنة 2000 ولا شك أن هذا الرقم قد تضاعف عدة مرات منذ ذلك التاريخ ولا يزال . لقد أعاد الجوال سلطة الكلمة وبريقها وانتصر لتلك المجتمعات التي كثيرا ما وصفتها علوم المجتمعات البيضاء فيما تطلق عليه أنثروبولوجيا بالبدائية والتخلف لأنها لم تتجاوز مرحلة المشافهة . فهاهي الشفهية تعود مرة أخرى بعد أن نزعت ثوبها القديم مخترقة أشد المجتمعات تصنيعا وبعد أن وجدت في التكنولوجي مقاسا على حجمها غير القابل للقياس . تكلم فتكلم ثم تكلم ، فأنت لا تتكلم بقدر ما تستعيد ثأرك القديم إنك تحافظ على لغتك ، إثنيتك ، وطنك ، هويتك ، تاريخك ، بعد أن علموك أنه بات أمرا مقضيا ولم يعد للتاريخ معنى في عالم اليوم أسياده من لا تاريخ لهم. فأنت لا تعيد الاعتبار لكل أولئك وإنما تنهي حقبة طال أمدها من دونية لغوية ومن تفاضلية ما كان لها لو لا بعض أبناء جلدتك الذين قبلوا وظيفة السائس ، والسائس كما وصفته معاجم اللغة هو الذي يقود حصان أو جمل سيده أو سيدته راجلا. إنه جهازك الذي يمكنك من قول ما تشاء ومتى تشاء ومع من تشاء وباللغة التي تشاء لا يحول دون ذلك سوى قوام الأعمال . إن الكلام على الكلام صعب وكأني بالجوال قد تفطن إلى تلك الحكمة القديمة فعاد إلى الصورة أو عادت إليه لا ندري من عاد إلى الآخر ولكننا نعلم أنه استطاب أنوثتها ليوشح بها صدره فهو قارئ أخبار ورسائل المحبين في كافة التي المجتمعات تختلف لغة وحضارة ولكنها تتفق على مكانة الأنثى وسلطانها الذي بفضله شيدت قصور وممالك ودول وبه تحطمت أخرى . لم تنته تجربة الهاتف عند حدود تلك النقلة النوعية وإنما استطاع بواسطة خيوطه وخطوطه ومسالكه القديمة التي تكاد تضيع في زحمة مواليد التكنولوجي المفرطة الدقة والحداثة رغم عسر المقارنة مع الحداثات التقليدية منذ الأنوار الأوروبية وإلى اليوم . في زحمة كل ذلك شبكة عنكبوتية عجيبة عرفت لاحقا بالإنترنت ولدت في المسارب القديمة ، ولدت ولادة عسيرة ، في أحضان العسكريتاريا الأمريكية ، عملت على احتكارها من أجل تيسير وظيفة جنودها وضباطها في الاتصال ، إن عصب المؤسسة العسكرية هو الاتصال . لكن ذلك لم يعمر طويلا فليس بالسهل العيش مع" العسكريتاريا "، مع مؤسسة نموذجها المثالي هو الطاعة والولاء لمن هو أعلى في سلم التراتب دون اعتبار لأي نوع من أنواع الإيطيقا . أو أن لتلك المؤسسة إيطيقاها الخاصة . وجد ذلك الوليد من يحتضنه فالأنترنت لم تنم نموا حقيقيا إلا في المدائن وحدائقها الجميلة المعلنة المفتوحة للجميع في مجتمع مدني إنساني تختفي فيه الألقاب والرتب لتحل محلها مقولة "الإنسان المناسب في المكان المناسب" . فما كان للإنترنت أن تبقى جامدة أسيرة لسرية ناتجة عن ظروف ولادتها، فبمجرد أن كشف عن ذلك المولود الجديد حتى تدافعت مؤسسات مجتمع المدينة من جامعات ومخابر وشركات كبرى على احتضانه وتنميته حتى تضمن له الاستمرارية والبقاء خدمة لمصالح يعكسها سمك نظارات كل طرف. وعلى المرء أن يطلق العنان لخياله إذا لم يكشف ذلك المولود فكيف سيكون مصير تلك الشبكة ومعنى الاتصال ؟ إن إثراء حقيقيا لمواقعها وأرصدتها المختلفة جاء هذه المرة ممن لا عنوان لهم بل ممن حرموا من حقهم في العناوين من أولئك الخارجين عن أنساق السياسة والدين والأيديولوجيا والأخلاق ، المحرومين من حقوق التعبير لهذا السبب أو ذاك إنهم المهمشون والمقصون من حضيرة النسق لعدم وجود تناغم في الألوان . إنهم الخارجون عن سلطان الذين لا سلطان لسواهم ومن يخرج عن ذلك السلطان فمصيره الإفساد والإذلال. ولإذلال أولئك الخارجين عن النسق وإفساد ما هم به يفكّرون شرّعت لتلك الشبكة قوانين خاصة بها وانتصبت محاكم الافتراضي إنتصابا ماديا لتلاحق كل منتهكي شرفها . وكانت أولى الضحايا طفولة هي للبراءة منسوبة تعاش على حد تعبير الشاعر صباحا مساء ويوم الأحد ، و"الشعراء يتبعهم الغاوون وفي كل واد يهيمون". والهيام من فعل هام بها هيما وهيوما وهياما وهيمانا وتهياما ، وهي جميعها حسب لسان العرب لا تحيل على العشق فقط وإنما تتعدد معانيها لتفيد الضياع والخبل والجنون . لقد ضاعت الطفولة في أروقة الشبكة العنكبوتية واستحال الضياع هياما ثم عشقا ثم جنونا في دهاليز تراءت أنها تخفي كنوزا فإذا بالشبكة تتحول في الوظيفة إلى "برّاءة" وهي عند إبن منظور " السكين التي تبرى بها القوس" ومن ثمة تسقط كافة الأمنيات بعد أن تهاوت أساساتها وتنتهي الأسطورة الجديدة التي باتت قديمة "لا سلطان لرقيب" . انكشف السر كشفته الطفولة وبات درسا يضاف إلى الدروس الأولى "لا شيء خارج النسق" ومن يريد غير ذلك فعليه أن يبحث خارج الشبكة كما اعتاد أن يفعل في البداية . ومع ذلك لم ينطفئ بريقها ولازالت الشبكة تشتبك أفكارا وأسرارا وصورا يلاحقها كلام وكلام تلاحقه صور ، نصوص مبثوثة تضمي العطشى، فكأني بها تتحلل من كل من هام بها فاستحال هيامه ضياعا . لقد تعددت مراسيلها بأسمائهم الأعجمية والعربية وحتى العبرية "قوقل" و"أين" و"يهو" وغير ذلك كثير ويكفي دعوة أحدهم حتى يأتيك بأخبار قدماء القوم كما محدثيهم فتجالس الموتى كما الأحياء وتستحضر بيانات الأولين والآخرين وحتى محاورتهم مباشرة إن كانوا على قيد الحياة . ما كان للشبكة أن تتولى كل تلك الوظائف لو لا ذلك الكائن الأكثر عجبا المدعو كمبيوترا أو حاسوبا أو دماغا آليا أو إنسانا آليا والتسمية تعكس في تعددها صدمة الحضارات مع الكائن الجديد . ميزته أنه غير وجه الحياة في كافة المجالات . إن إنسانية اليوم على اختلاف حضاراتها وقيمها ومصالحها تنظر إلى الكمبيوتر على أنه "الخلق الإنساني" الأهم في تاريخها حتى لا يكاد يضاهيه خلق في علم الإنسان الذي ما انفك يطوره إلى أن استوى على هيئته الحالية غير النهائية طالما أن ذلك المخلوق قابل لاستيفاء الخلق . لقد أطلق عليه مخترعوه صفات هي من صميم ذات الإنسان فحمل المسميات عينها من رأس وذراع ودماغ ووجه وانطبق الأمر على نسقه المنظم بتسميات مثل الشبكة العصبية ، الذكاء الاصطناعي ، النظام البصري ، لغة الحواسيب ، الوعي الحاسوبي، الاتصال الحاسوبي ، المنطق الحاسوبي ، العنوان الحاسوبي والتعلم الذاتي للحاسوب حتى راجت مصطلحات من قبل "انتظر فهو يقرأ" على ما للكلمة من قدسية وتم الإعتراف بذاكرته القصيرة والأخرى البعيدة المدى . كما أطلقت أوصاف أخرى يتماه فيها الجهاز الجديد مع الموروث الثقافي البشري وهويته الإنسانية فأصبحت للحواسيب أسرا وأجيالا وحياة اجتماعية وفكرية وإيطيقية وبات له تاريخ خاص ومتاحف تخرجه من دائرة من لا تاريخ لهم وتسربت الجريمة للعالم الإلكتروني والافتراضي فسنت القوانين التي تجعل من بعض الممارسات جرائم حاسوبية وإلكترونية ، ومن بعض المواد فواضل ونفايات قد تهدد وجوده كما تهدد مثيلاتها وجود الإنسان . ووجدت الفيروسات الوبائية ذات الطبيعة الإلكترونية حقولا ملائمة تعيش فيها وتنمو وتفنى . لقد وضع الإنسان ثقته في الحواسيب فآئتمنها على أمنه وعلى نفيس ما يملكه مثل منزله أو سيارته التي يؤدي مجرد الاقتراب منها إلى اشتغال تلك الأجهزة والتنبيه إلى الخطر المحدق . ويتجاوز الأمر إلى ما يشبه أشرطة الخيال العلمي عندما يعهد إلى الحواسيب بأمن مجتمعات بكاملها فتكون سياداتها رهينة لذلك، فيكفي أن ترسل الرادارات بإشاراتها حتى تلتقطها تلك الحواسيب وتحولها إلى بيانات تستحق المتابعة . إن ذلك الجهاز وبواسطة كل تلك الوظائف مكن الانسان من اكتساب صفة الخلق التي هي في الأصل صفة إلهية . فالإنسان كمخلوق متميز عن بقية الكائنات يتضمن شيئا من روح الله "فإذ سويته ونفخت فيه من روحي" . تحتوي الآية على أكثر من بعد ، ذكرت التسوية أي الانتهاء من الخلق على الصورة الموجودة ثم النفخ فيه من روح الله . وعلى الرغم من أن الروح بقيت أمرا إلهيا صرفا " قل الروح من أمر ربي" وعلى الرغم كذلك من أن نفس المصطلح ورد في سياقات أخرى وأكتسب دلالات قد تكون مغايرة "يوم يقوم الروح والملائكة صفا" ، "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا". فإن دلالة المصطلح نستخدمها على خلفية شرح آبن منظور من أن "المراد بالروح الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة" ، إن هذا التفسير قد ينسحب على كائنات حية أخرى ولكن الحياة الإنسانية ذات خصوصية لأن الإنسان ليس كائنا حيا فقط وإنما كائن ذكي . إن ثمرة الخلق الإلهي كانت "آدم" ، اكتملت تلك الثمرة نهائيا بعد أن نفخ الله فيه من روحه ، آدم يرمز إلى إنسان -بدون تعريف- اكتسب بعض صفات الله ، من ذلك القدرة على الخلق ، ترجمها الإنسان إلى أسماء متعددة مثل الابتكار والاختراع ولكنها في نهاية الأمر مجرد مسميات لملكة الخلق الذي يمكن تعريفه "بإيجاد شيء غير موجود سابقا" ويكون ذلك من العدم "من آياته خلق السماوات والأرض" أو بتحويل مواد معينة فينشأ شيء جديد يختلف نوعيا "وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا" و"خلق الإنسان من صلصال كالفخار". نفهم من تلك الآيات القرآنية الكريمة ومثلها كثير أن للخلق مستويين الأول هو الخلق من عدم وهي صفة إلهية محضة لا يشترك فيها مع الله أحد أما الثاني فهو الخلق عن طريق التحويل وهذه الصفة أكسبها الله الإنسان عن طريق الروح التي نفخها فيه . وعندما نتأمل التكنولوجيا التي ابتكرها الإنسان نلاحظ أنها تمثل أشكالا من الخلق الإنساني وأنها تحولت من مادة إلى أخرى تختلف عنها نوعيا . إن تلك المبتكرات لا يمكن أن تشتغل إلا إذا تولاها الإنسان . لكن الأمر سيختلف نوعيا عندما تتمكن تلك الابتكارات والآلات من العمل بواسطة ما يسمى "الوازع الذاتي" والعبارة خلدونية المنشأ ، أي من تلقاء أنفسها فنزع احتكار تلك الصفة على الذات الإنسانية بعد أن باتت تلك الآلات والأجهزة قابلة للبرمجة وذاتية الاشتغال عن طريق عقلها الإلكتروني المسمى الكمبيوتر الذي أصبح الدماغ المحرك لأغلب المبتكرات التقنية المعاصرة . لنفترض جدلا أن الإنسان استحال "خالقا" بالمعنى التحويلي للخلق وليس بمعنى القدرة على البعث من العدم ، لنتساءل والسؤال مشروع كيف انتقلت عملية الخلق بمعناها التحويلي من خالق مطلق في الزمان والمكان هو الله إلى خالق محدود بل لنقل مخلوقا هو الإنسان ؟ نجتهد في الإجابة فنقول لقد تحولت تلك الصفة إلى الإنسان عن طريق العلم الذي هو في الأصل وحسب التمشي الذي نعتمده هو صفة إلهية "وسع كل شيء علما أفلا تذكرون "، "وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة "، "وأتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما شاء" . كل تلك الآيات تفيد أن صفة العلم هي صفة إلهية أكسبها الله لمخلوقه المسمى إنسانا ولكنه ذكّره بأنه "وفوق كل ذي علم عليم" . بمعنى آخر فإن العلم الإنساني محدود ونسبي ضرورة . حقيقة أدركها الفلاسفة فترجمت قولا "إن تاريخ العلوم ليس سوى تاريخ القطائع الإبستيمولوجية " مما يعني أن ما كان بديهيا بالأمس هو محل جدل اليوم ، فلا إطلاقية في العلم رغم الثورات الكبرى التي عرفتها مسيرته إحدى أبرز تجلياتها هو الكمبيوتر نفسه . هذا الجهاز الذي يخزنه الإنسان بالمعلومات على الطريقة التي علم الله بها آدم الأسماء . ورغم الحجم الكبير للأسماء الكمبيوترية وما بات الكمبيوتر قادرا على تخزينه وحمله من تلك المعلومات المتكاثرة ضرورة فإنه يبقى كائنا محدودا في الزمان والمكان شأنه في ذلك شأن الإنسان . ويبرز التشابه في عدة مستويات أخرى مثل الحاجة إلى الطاقة ومصدرها الغذاء والأكسيجن لدى الإنسان والكهرباء لدى الكمبيوتر ، والاعتدال في درجة الحرارة لكليهما . ويفتقدان أيضا لصفة الخلود الذاتي مع الاستمرارية من جيل إلى جيل . يتفوق الإنسان على الكمبيوتر بالقدرة على التفاعل مع كافة الاحتمالات والوضعيات والتأقلم معها ومع ما تطرحه من مشكلات والقدرة على الحركة في الفضاء بالمقابل يتفوق الكمبيوتر بسرعة نقل المعلومة مهما كانت طبيعتها والمسافات الفاصلة . لكن يبقى الحاسوب محدود الاستجابة لما يطرح عليه من مسائل فلا يستجيب لها إلا في حدود ما يبرمجه له الإنسان الذي يمكن أن يتخطى كافة الحدود المعقولة ولا أدل على ذلك الاستخدام الحاسوبي في الحروب أو في مجال استكشاف الفضاء. إن ذلك الذكاء الكمبيوتري المتنامي قد أنشأ قيما إنسانية جديدة قوامها ترميز أو تشفير الذات الإنسانية . فالبشر تحولوا إلى أرقام ، علامات مسجلة لا فرق بينهم ، لأن الكمبيوترات لا تعرفهم إلا كأرقام أما ذواتهم وانتماءاتهم وهوياتهم وحتى إبداعاتهم فلا معنى لها اليوم . لقد كتب الفرابي منذ زمن بعيد "هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له كل واحد .وقولنا إنه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد الذي لا يقع فيه اشتراك " وتأكد ذلك القول حديثا من أن "مفهوم الهوية يدل على ما به الشيء هو هو بوصفه موجودا متفردا متميزا عن غيره". الهوية الكمبيوترية والافتراضية لا تقبل التفرد والخصوصية الجميع غير معروفين ومعروفين في نفس الوقت غير معروفين لأنه لا يوجد ما يميز ذاتا عن أخرى ومعروفين لأن الجميع مخزنين في حافظة الجهاز لهم أرقام وبصمات وأضيفت إليهم اليوم خصائص العين إذا دخلت البصمة حيز الشك وغدا لا أحد يفلت من الترقيم عندما يعمم كشف الأفراد عن طريق الحامض النووي. وبواسطة الحاسوبية الجديدة ملايين البشر يتحاورن ويتجادلون ويتخاصمون مع بعضهم البعض دون أن يعرف أحد آخر هو حلم قديم بل طوبى قديمة لبعض الفلاسفة بوجود مجتمع إنساني واحد موحد لا فوارق بين المنتمين إليه مهما كان نوعها وهو مطمح أصحاب الشركات الكبرى لتحقيق السوق العالمية الكبرى التي لا تعرف الحدود . ولكن الأمر ليس بهذه الطوباوية فالحكمة الإلهية القديمة من كون "الناس شعوبا وقبائل " يفسد على الجميع نبوءتهم . فالمجتمعات ليست متباينة ثقافة وحضارة ولغة وانتماء فحسب وإنما هي مختلفة استطاعة وقدرة على الحياة بأشكالها الأولية وغالبها لا يستجيب لدعوة الانخراط في المجتمع الإنساني بمقوماته الجديدة أي الدولة الليبرالية المطلقة وبلغة فوكوياما في نهاية التاريخ لقد إختارت أن تعيش رقصة الدم أي أن تبقى خارج التاريخ أو هي مجبرة على فعل ذلك . وأهمية كل ذلك أنها تلعب دورا لا وظيفيا وهذا الدور على ثانويته قد يعيد الإعتبار للقيم القديمة ويفند ما بات يعتقد أنه بديهيا من أن " التكنولوجيا هي أيديولوجيا هذا العصر".
المراجع
-القرآن الكريم
- أنطوني قيدنس علم الإجتماع منشورات المنظمة العربية للترجمة بيروت 2005
-علي محمد رحومة الإنترنت والمنظومة التكنو-إجتماعية سلسلة أطروحات الدكتوراه مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2005
- ابن منظور لسان العرب مؤسسة التاريخ العربي–دار إحياء التراث بيروت 1992
Mnakri Moufida, Metaphor in English-Arabic Telecommunication Terminology: A Cognitive View. Master in applied linguistics . Institut Superieur des Langues de Tunis. 2004-2005

الجمعة، 3 أبريل 2009

المقهى في زمن الانترنيت : الوظيفة والدلالة

المقهى في زمن الانترنيت:
الوظيفة والدلالة
د. سالم لبيض المعهد العالي للعلوم الانسانية تونس
يكاد يحصل اتفاق على أن المقهى بوصفه مكانا قاسما مشتركا للاماكن التي نحيا فيها هو عبارة على نقطة ربط بين مختلف أماكن العيش الخاصة والعامة، بين أمكنة الترفيه وأمكنة العمل وأماكن الإقامة والاستقرار والسكن وهو يلعب دورًا حيويًا في إرساء التواصل بين الأفراد وجعلهم يخرجون من ملل الحياة اليومية. حيث بات المقهى مصطلحًا مألوفًا في الحياة اليومية. ولعل زمنية المقهى أصبحت تضاهي مختلف الأزمنة الأخرى مثل العمل والمنزل، فمواعيد المقهى لم تعد مواعيدَ ثانوية مقارنة بغيرها. والمقهى الذي تم اختزال اسمه في العودة إلى المصطلح التاريخي »القهوة لا يعتبر عنصرا هامشيا كما ينعت في الذاكرة على انه كثيرا ما يكون مكانا لتبديد الوقت وإنما هو عنصر رئيسي في البنية المعمارية للمدينة الحديثة، وعلينا ان نتخيل مدينة بدون مقاهٍ فتكون النتيجة هي نوع من الاختلال المعماري قبل ان نتحدث عن الوظائف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للظاهرة.
من الناحية التاريخية يعتبر بعض المؤرخين ان ظاهرة المقهى لم تحظ باهتمام المؤرخين وخاصة المؤرخين العرب لذلك يلاحظ ندرة الدراسات والأبحاث المخصصة لهذا الموضوع حتى انها بقيت ظاهرة مجهولة من طرفهم وربّما يعود ذلك إلى نظرة موروثة تنظر إلى الظاهرة على أنها ذات طبيعة هامشية وقد وقع فكّ الارتباط مع هذا المنظور من طرف الباحثين في مجالي علم الاجتماع والانثروبولوجيا قبل أن تحظى باهتمام المختصين في ميادين أخرى من ذلك علم الاقتصاد والهندسة والمعمار.
لقد كان المقهى في بدايات نشأته فضاء أرستقراطيا بورجوازيا لكنه تحوّل في ما بعد إلى ظاهرة شعبية انتشرت في المدن وفي الأحياء السكنية حتى ان القرن التاسع عشر أصبح قرن حضارة المقهى في أوروبا.
ظهور المقهى في تونس :
كما هو الشأن في أغلب أقطار الوطن العربي »العثمانية ظهر المقهى مع انتصاب الأتراك إذ تعتبر مدينة استنبول عاصمة الدولة العثمانية أولى الفضاءات التي عرفت هذه الظاهرة وهو نفس التاريخ الذي انتشرت فيه أولى المقاهي بالايالة التونسية بالرغم من ان تجارة القهوة تعود بافريقية إلى ما قبل ذلك التاريخ والتي يرجّح أنها وافدة من المشرق العربي وتحديدا من اليمن وقد انتشرت بعدّة مدن من ذلك عدن والقاهرة.
لقد تطورت تجارة القهوة وانتشرت المقاهي في تونس بداية من الأربعينات من القرن العشرين وأصبحت مادة كثيرة الاستهلاك مثلها في ذلك مثل الشاي بعد ان باتت تجلب من المستعمرات الفرنسية بإفريقيا وقد تم احتكار تجارتها من طرف الدولة في البداية قبل التفريط فيها بداية من سنة 1952 إلى ستة تجار، أربعة فرنسيين واثنين من التونسيين هما "بن يدر" و"بلحسن".
بالرغم من عراقة بعض المقاهي التقليدية بمدينة تونس العتيقة وبسيدي بوسعيد (المقهى العالية) وقهوة الناظور، فإن انتصاب الإدارة الاستعمارية بداية من سنة 1881 قد صاحبه ظهور مقهى جديد مختلف عن المقهى المحلي هو المقهى الأوروبي الذي يعود تأسيسه إلى ما قبل ذلك التاريخ وتحديدا إلى سنة 1870 تاريخ ظهور بعض المقاهي الإيطالية.
لقد تميز المقهى الأوروبي بتونس بالتنوع في المشروبات التي يقدّمها وبالجلوس على الكراسي الخشبية وبقراءة الصحف التي يوفرها المقهى للزائرين. وأصبح للمقهى دور في النشاط السياحي فقد وقع إحصاء حوالي 50 مقهى أوروبيا إبان بدايات الفترة الاستعماري سنة 1894. وتعهدت الدولة الاستعمارية هذه الظاهرة بالمراقبة عن طريق مجموعة من القوانين والتشريعات وكذلك الأجهزة البوليسية نظرا إلى انتشار بعض المواد المحظورة مثل المخدرات، والأنشطة السياسية المعادية للإدارة الاستعمارية.
وظائف المقهى وأنواعه :
لقد تعددت المقاهي وانتشرت بشكل واسع خلال القرن العشرين ومع بداية هذا القرن ولكنها تنوعت بتنوع الفئات والشرائح التي ترتادها وكثيرا ما يعبر شكل المقهى عن نوعية مرتاديه. فبالإضافة إلى دوره الترفيهي، لعب المقهى أدوارا ووظائف أخرى متعددة.
المقهى الأدبي والثقافي: يشير رشيد الذوادي في الكتاب الذي أصدره سنة 1975 تحت عنوان »جماعة تحت السور ان المقهى له وظائف عديدة لعلّ الوظيفة الأدبية والثقافية هي الأبرز. وفي هذا الصنف من المقاهي لا يقع الاكتفاء بشرب القهوة والشاي وغيرهما من المشروبات أو تدخين »النرجيلة الوافدة من تركيا مع أرستقراطيتها السياسية والعسكرية، وإنما يقع استهلاك الإنتاج الأدبي والثقافي حيث يتحوّل إلى منبر لذلك الإنتاج. ولعل مقهى جماعة تحت السور الذي كان في منطقة باب سويقة في حاضرة تونس مثال على ذلك حيث كان يلتقي الأدباء والكتّاب والصحفيون والممثلون والرسامون. ومن أبرز مرتادي هذا المقهى علي الدوعاجي. كما لعب الطاهر الحداد صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع "وكتاب "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" دورا كبيرًا في حلقات الحوار والنقاش التي كانت تدور بمقهى القصبة بجوار مقر الحكومة التونسية، كما لعبت عدة مقاهٍ أخرى أدوارا متفاوتة في هذا المجال أمثال مقهى القشاشين ومقهى الشواشين لقربهما من جامع الزيتونة ومن دار الكتب الوطنية بالعطارين. وقد تحولت هذه الظاهرة إلى شيء معتاد فكثيرا ما يلتقي أصحاب الاتجاه الأدبي أو التيار الثقافي في مقهى يتحول إلى منبر يجمعهم. وهي ظاهرة غير مقتصرة على تونس وإنما انتشرت في كثير من العواصم العربية فالمقاهي الأدبية في دمشق هي مقاهي "البرازيل" و"شارع بورسعيد" و"مقهى الهافانا" وهي مقاهٍ كان يرتادها أدباء ومثقفون أمثال احمد صافي النجفي وبديع حقي وأنور العطار وشاكر مصطفى.. الخ. اما في مصر فلم يكن الأمر مقتصرا على القاهرة وانما انتشرت المقاهي في اغلب المدن وان كانت مقاهي القاهرة الأدبية والفنية والثقافية هي الأشهر لعل ابرزها مقهى الفيشاوي ومقهى ريش الذي احتضن ادباء كثيرين من أهمهم نجيب سرور وامل دنقل وعبد الرحمان الابنودي وجمال الغيطاني ونجيب محفوظ الذي كان يعقد فيه ندوات ادبية صباح كل جمعة يحضرها عدد كبير من المثقفين.
المقهى السياسي: لا يقلّ هذا الصنف من المقاهي أهمية عن المقهى الأدبي نظرا لاحتضانه لأحداث سياسية على درجة كبرى من الأهمية في تشكيل الواقع المعيش. فقد كانت المقاهي مراكز دائمة في نشاط الحركات الوطنية اذ تشير بعض الدراسات التاريخية إلى ان أعضاء حركة الشباب التونسي كانوا يلتقون مع عبد العزيز الثعالبي بمقهى يعرف بـ "مقهى الحاج" بالحلفاوين أثناء الفترة الموالية لأحداث الجلاز والترامواي (1911 / 1912) وقد تميز هذا المقهى بسعته واحتوائه للعديد من الفضاءات التي كانت تحتضن لقاءات تلاميذ المدارس وطلبة الجامع الأعظم آنذاك ويروج للأفكار الوطنية التي تصدر عن الثعالبي وجماعته. ولم تقتصر اجتماعات جماعة الشباب التونسي على هذا المقهى وإنما شملت مقاهيٍ اخرى مثل مقهى الجلاز بنفس المكان ومقهى باب سويقة ومقهى الأحباس بباب منارة. حتى ان البوليس السياسي أحصى ما لا يقل عن تسعة مقاهٍ يجتمع فيها أفراد حركة الشباب التونسي سنة 1913. ورغم إدراك أعضاء هذه الحركة ان المقاهي تخضع لرقابة مشدّدة فإنهم يدركون أيضا أنها فضاءات ملائمة لنشر المعلومات والدعاية المضادة للإدارة الاستعمارية. ولم يقتصر الأمر على مقاهي الحاضرة وانما انتشر الأمر بمقاهٍ عديدة في مختلف المدن خاصة المدن الكبرى منها حيث اصبحت الادارة الاستعمارية تعتبرها مراكز حقيقية للدعاية المضادة للاستعمار خاصة وانها لعبت دورا في نشر افكار الحزب الحر الدستوري الذي اسسه عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 وكذلك مبادئ وأفكار جماعة الدستور الجديد المنبثق عن مؤتمر قصر هلال سنة 1934 ولعل اضراب 1949 الذي دعت اليه جماعة الدستور الجديد والمتمثل في اضراب كافة المحلات عن العمل وغلق أبوابها في ذلك اليوم، هو الابرز في الدور السياسي للمقهى ليس من حيث هي فضاء لترويج الأفكار ولكن من حيث مشاركة أصحاب المقاهي في هذا الحدث السياسي الكبير الذي عكس مدى قدرة الحركة الوطنية على التأطير والفعل السياسي في كافة الأوساط والشرائح لاسيما اصحاب المقاهي. وقد أشار المقيم العام الى ذلك خاصة وان هذا الحدث كان متوازيا مع يوم افتتاح المجلس الكبير. وقد لوحظ نجاح كبير لهذه الحركة الاضرابية في العديد من الأماكن وخاصة مناطق الجنوب وتبين انه من بين 72 مقهى اضربت عن العمل في هذا اليوم، ستّة من بين اصحابها كانوا من المحاربين القدامى في الجيش الفرنسي او في قوات المخزن والقومية وما يعكسه ذلك من قدرة الحركة الوطنية على الاختراق والانتشار هذا اضافة الى حجم الفعل النقابي.
لا شك ان ذلك يقودنا الى ان الدور السياسي والنقابي للمقهى لم يقتصر على الفترة الاستعمارية فالمقهى علامة بارزة في نشأة الكثير من الحركات والتنظيمات السياسية والتيارات الأيديولوجية، وتكفي الاشارة الى ان حزبا كبيرا مثل حزب "البعث العربي الاشتراكي" وقع تأسيسه في أحد مقاهي دمشق وكانت انطلاقة الحزب وانطلاقة منظريه من امثال صلاح البيطار وميشال عفلق من ذلك الفضاء.
لقد كانت المقاهي أمكنة مفضلة للقاء اعضاء الأحزاب السياسية والتنظيمات وخاصة المجموعات السرية التي لم تكتسب الشرعية القانونية، كما كانت المقاهي منابر حقيقية لنشر الافكار والمبادئ والايديولوجيات التي عرفتها تونس في ظل نشأة الدولة الوطنية الحديثة ولعلنا لا نبالغ بالقول إن التيارات السياسية والأيديولوجية كانت تنتشر بواسطة تجمعات المقهى اكثر من انتشارها بالطرق الدعائية الاخرى. وينسحب نفس الشيء على الحركة النقابية فالمقهى النقابي كان ينتشر ولا يزال في كل مكان يوجد فيه اتحاد جهوي او محلي للشغل بل ان الاتحاد اصبح يستثمر المقاهي ليس من ناحية الدعاية فقط وانما بواسطة الاستثمار المادي حيث احتوت مقراته الجديدة لفضاءات مهيأة تستخدم كمقاهٍ يقع تسويغها او استغلالها من طرف الاتحاد نفسه.
ان المقهى النقابي من ابرز اصناف المقهى اليوم وقد لعب هذا المقهى ادوارا هامّة في محطات تاريخية حاسمة من تاريخ الحركة النقابية عموما والحركة النقابية في تونس بوجه عام لعل ابرزها احداث الخميس الأسود لسنة 1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984 والأحداث النقابية لسنتي 1985 1986.
ولعل ما ساعد على انتشار الأفكار النقابية والسياسية عبر المقاهي هو وجود وانتشار الظاهرة في فضاءات العمل مما يسمح باعتمادها كمنبر في مناقشة مشاكل الشغل ومختلف المشاكل والقضايا المهنية التي لها أبعاد قطاعية مهنية واخرى سياسية فكثيرا ما يرتبط المقهى بشريحة مهنية ترتاده اكثر من غيره مثل مقهى البحارة او مقهى المعلمين او مقهى الاساتذة.. او مقهى السماسرة.
المقهى الجديد او مقهى الانترنيت: مقهى الانترنيت هو شكل جديد من المقهى، وهو تعبير عن قدرة المقهى باعتباره فضاء كثيرا ما يوصف بالهامشية على ان يخترق انظمة المجتمع الشكلية. هذا الاختراق يتم في مستويين اثنين، المستوى الأول هو طبيعة الفضاء فهذا الفضاء الجديد يأخذ في الحسبان الخصائص العامة لنوعية التواصل فهو تواصل غير تقيلدي على اعتبار ان التواصل التقليدي يتمّ بين مجموعة من الأفراد بطريقة مباشرة وجها لوجه ويكون ذلك عن طريق تبادل الحديث واثارة القضايا. اما التواصل غير التقليدي فركيزته الرئيسية هي جهاز الحاسوب الذي كثيرا ما يعتمد كأداة للتعامل مع نصوص منشورة على الشبكة او التعامل مع اشخاص لا تتوفر لهم حالة تواصل سابق في ما يتعلق ب »التشات، وهناك شكل اخر يكون التواصل فيه وجها لوجه في حال كان الجهاز على درجة عليا من التحديث التكنولوجي ويحتوي على كاميرا تصوير متبادلة، ولعله في هذه الحالة يشكل عنصر التشويق في العلاقة القائمة على عدم وجود معرفة سابقة. اما المستوى الثاني فهو ابتكار شكل جديد للتواصل يتناغم مع قيم الحداثة الجديدة التي تقوم بدورها على عنصرين رئيسيين، العنصر الأول هو اعطاء قيمة رئيسية للفردية التي تجذرت بنفس القدر الذي تجذر به النظام الرأسمالي وتحوله الى نظام كوني بعد سقوط النظام الاشتراكي الذي ساد لفترة 70 سنة في الاتحاد السوفياتي السابق وتخومه في الدول الموالية او التابعة له. اما العنصر الثاني فيتمثل في تلك الثورة التكنولوجية الهائلة التي صاحبت الحداثة بل كانت احدى ابرز علاماتها في الزمن المعاصر والتي شملت مختلف مستويات الحياة البشرية. ولعل قدرة مقهى الانترنات هي الملاءمة بين العنصرين. فهذا المقهى استطاع استيعاب وتوظيف اعلى درجات التحديث التكنولوجي وفي مقابل ذلك استقطب مختلف الشرائح الاجتماعية التي ابدت استعدادا للتعايش مع طبيعة هذا المقهى الذي لا يسمح بالتواصل بشكله التقليدي المباشر وانما يوفر فرصة للتخاطب مع آخر غير معروف مسبقا وغير محدد الهوية ولكنّه مستعد للتواصل على أرضية الحد من تأثيرات الفردية التي أفرزتها حداثة النظام الرأسمالي المعاصر. تلك الحداثة التي تبرز كذلك في مستوى المواد المستهلكة وكيفية تقديمها ونوعيتها.
فنحن لا نتعامل مع نادل تقليدي يمزح احيانا ويتعامل بجدية احيانا اخرى ولا نتعامل مع مشروبات تتطلب وقتا في اعدادها وانما نتعامل مع آلة سريعة التشغيل مبرمجة على قبول النقود وتوفير المشروبات التي تحتويها من »قهوة و»شاي انجليزي ومشروبات غازية فالتواصل مع البشر في هذه الحالة يكاد يكون معدوما وانما يقتصر الامر على منتوجات توفرها تكنولوجيا حديثة تنسجم انسجاما تاما مع طبيعة الفضاء والوظيفة التي تؤديها.
رمزية المقهى ودلالات التسمية:
المقاهي هي فضاءات للتلاقي والتواصل ولكن دراسة سريعة للجانب الرمزي تفضي بنا الى القول بأن المقهى يختزل الكثير من الرموز والدلالات، يبرز ذلك في مستويين اثنين:
المستوى الأول هو رمزية المكان : فالمقهى التقليدي ينقسم بدوره الى قسمين فمن ناحية نجد المقهى الذي يعمل اصحابه على تكريس نوع من الأصالة والتمسك بالتراث من حيث الطبيعة المعمارية التي كثيرا ما تأخذ شكل الأقواس والقباب انسجاما مع العمارة العربية الاسلامية، وتكون نوعية الخشب المستعمل وزوايا الجلوس والمقاعد متناغمة مع ذلك الفضاء. ويقع تأثيث المقهى بصور تاريخية تعبر عن مرحلة تاريخية من مراحل المدينة التي يوجد فيها المقهى أو عن مراحل عدة، كما تكون الأدوات المستعملة في تقديم المشروبات وخاصة الشاي والقهوة ذات طبيعة تقليدية صنعت لأداء هذا الدور ولا غنى عن تدخين الشيشة في مثل هذه المقاهي والتي لا يسمع فيها الا لأصوات فنانين امثال ام كلثوم وعبد الوهاب وفيروز. اما النوع الثاني من المقهى فهو المقهى الأوروبي الذي لا يهتم كثيرا بالجانب المعماري وان كان شكله ينسجم مع التحولات التي تعيشها المدن اليوم فهو خليط من العمارة العربية الاسلامية والعمارة الاوروبية وكل ما يحتويه ينسجم مع ذلك الخليط في ما يتعلق بنوعية المقاعد والتأثيث الداخلي والمشروبات المقدمة والموسيقى الصاخبة احيانا والهادئة احيانا اخرى وتقديم النرجيلة، والعنصر الرئيسي هو الربح ومزيد من الربح فهو مقهى برغماتي متماهٍ ومتجانس مع طبيعة عصره.
المستوى الثاني هو دلالة التسمية: فأسماء المقاهي يمكن تقسيما الى اصناف ثلاثة:
الصنف الأول: هو التسميات ذات الدلالة التاريخية التي ترتبط بأسماء اشخاص او احداث هامة في التراث القديم او الحديث أو فترة الحركة الوطنية او غيرها من الأحداث السياسية او اسماء مدن كبيرة او قيم ذات دلالة امثال تسمية "مقهى صلاح الدين" او "مقهى القدس" او"مقهى 20 مارس" او "مقهى القاهرة" او "مقهى السلام" او "مقهى الحرية" وهذه التسمية كثيرا ما تعكس رمزية انتماء الى رأسمال ثقافي يختزل هذه الاسماء ويطمح إما الى اعادة انتاجها او احيائها في الذاكرة الجماعية التي لم تعد تخصص مساحة محترمة لذلك.
الصنف الثاني: هو التسميات الغربية المتأوربة او المتأمركة امثال مقهى "باريس" او "الشانزيليزي "او "الكوليزي" او "مقهى بونابرت" او "مقهى ميامي" او "نيويورك" او "مقهى مايكل جكسون". وهي تسميات تعكس في الوعي أو اللاوعي التأثر العميق والشديد بالآخر وتنطبق عليها مقولة ابن خلدون في اقتداء المغلوب بالغالب والتشبه به.
الصنف الثالث: يعتمد هذا الصنف تسميات محلية سواء تعلّق الأمر بأسماء اشخاص او مدن وكثيرا ما لا تختفي وراء مثل هذه التسميات خلفيات عميقة او رمزيات تذكّر بالتمسك بإرث محلي عائلي او قبلي او مديني مثل مقهى الحاج فلان او مقهى أولاد فلان او مقهى مدينة كذا.. الخ.
هل المقهى ظاهرة هامشيّة؟
هل يمكن اعتبار المقهى إفرازا هامشيا لمجتمعنا الانساني المعاصر؟
لاشك ان المقهى بالرغم من انتمائه الى الفضاءات المخصصة لأوقات الفراغ وللمعاملات غير الرسمية والشكلية فإنه استطاع ان يلعب أدوارا كبرى وخطيرة في احداث سياسية ونقابية وفي الترويج للافكار والايديولوجيات والاداب والفنون وفي عقد الصفقات الهامة وفي ارتباطه باحداث وبشخصيات على درجة كبرى من الاهمية في تاريخ البشرية (مقهى جلس فيه ماركس أو سارتر). وقد بات يشكل موضوع ابداعات ادبية وفنية سينمائية ومسرحية وهو في واقع الامر نتاج لحراك اجتماعي وتاريخي عاشته البشرية في اطار اجابتها على الاسئلة والتي كثيرا ما ترتبط بالحاجات البشرية المادية والمعنوية المتجددة وهو يعيش التحولات التي يعيشها المجتمع بأكمله ويتأثّر بها ويؤثر فيها بشكل أو بآخر.