الثلاثاء، 7 أبريل 2009

من صور منتدى جرجيس (نور الدين سريب) للتاريخ الاجتماعي والثقافي في دورته الخامسة سنة 2004

الدكتور الحبيب الدرويش جامعة صفاقس تونس



الاستاذة سميرة المشري جامعة تونس المنار





الاستاذ عبد الله عطية متفقد تربوي












































من صور منتدى جرجيس (نور الدين سريب) للتاريخ الاجتماعي والثقافي في دورته الخامسة سنة 2004



المرحوم نور الدين سريب قبل وفاته بسنة



من جلسات المنتدى السادة محمد الهادي الغرابي، نورالدين سريب، قصي التركي، علي درين



الدكاترة عمران القيب، نجيب بوطالب، حافظ بن عمر




الأحد، 5 أبريل 2009

الفكر العربي والقضية الفلسطينية مقال منشور في مجلة شؤون عربية عدد 134

الفكر العربي والقضية الفلسطينية

د.سالم لبيض
قسم علم الاجتماع
المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس

عاش الفكر العربي عقودا طويلة على وقع محاولة الإجابة على السؤال القديم كيف تتحرر فلسطين ؟ سؤال بدا فاترا في هذه المرحلة من تاريخ ذلك الفكر. فتور تعود بداياته إلى ما بات يعرف في التاريخ العربي المعاصر بالعدوان الثلاثيني الذي تعرض له العراق سنة 1991 وهو الآن أكثر تجليا بسبب احتلال ذلك البلد سنة 2003 وتدمير بناه البشرية والثقافية والعمل على العودة به إلى ما قبل نشأة الدولة الحديثة . وذلك على خلفية قاعدتها الرئيسية التشفي والانتقام مما تباهى به أهل ذلك البلد من ضرب في أعماق التاريخ والحضارة ، يقابلها انبتات وحسية وحرمان من لذة الانتماء إلى تاريخ ضارب ذي شواهد معبرة لدى المحتل ، مما حول المحتل الجديد إلى سارق محترف لتلك الشواهد والعلامات وهو في ذلك لم يشذ على ما فعله أسلافه من الاستعماريين القدامى في محاولة للتأسيس لذاكرة فاقدة إمكانيات التأسيس بفعل عامل الزمن . إن دلالة التاريخ الأول هو نهاية نظام القطبية الذي برز بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط المحور بعد التحالف الذي لم يعرف التاريخ مثيلا له بين الشيوعيين والرأسماليين الذي انتهى إلى تقسيم مواقع النفوذ في العالم بين الطرفين . أما التاريخ الثاني فإن دلالته تكمن في انتهاء تلك الحقبة وفك الارتباط بين الحليفين اللدودين بعد انهيار القطب الشيوعي والانتصاب الكلي للرأسمالية العالمية تقودها الولايات المتحدة التي تحولت إلى إمبراطورية في زمن سقوط الإمبراطوريات. إن الخاصية الإمبراطورية لأي دولة هي مدى قدرة جيوشها على حماية مصالحها في أي جيب من جيوب المعمورة مهما بدا بعيدا .
في خضم تلك التحولات العميقة ستحتل القضية الفلسطينية الموقع الأكثر إثارة وتعقيدا من بين كافة القضايا التي عرفتها الإنسانية ليس فقط منذ الحرب العالمية الثانية تاريخ تحول الفكرة الصهيونية من أسطورة إلى "دولة" وإنما في التاريخ الاستعماري ككل . لقد تميزت تجربة الدولة الصهيونية الناشئة منذ ما يزيد عن نصف قرن بأنها الدولة الاستعمارية الوحيدة التي تجلب رعاياها من الشعوب الأخرى بعد أن إقناعهم بأنهم يقيمون على أرضهم التي وعدهم الله بها. وهي الدولة الوحيدة التي تنتقي رعاياها من بين مختلف الشعوب على أساس انتمائهم الديني في زمن كل المبادئ الإنسانية التي تمت مراكمتها تدعو إلى حرية التدين والاعتقاد . وهي الدولة الوحيدة التي استطاعت أن تربط مصيرها بالدولة الأكثر قوة وهيمنة في العالم على اختلاف الدول أيديولوجية وعقيدة . وهي الدولة الوحيدة التي تشرع القتل علنا وسرا ولا ترى فيه حرجا لتحقيق مصالحها . وهي الدولة الوحيدة التي تعلن طبيعتها التوسعية استنادا إلى أساطيرها المؤسسة . وهي الدولة الوحيدة التي لا تستطيع أن تتخلى عن طبيعتها العسكرية بسبب طبيعتها الاستيطانية على الرغم من ترويجها لنفسها على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق ، النموذج الذي لابد أن يحتذى حسب بعض المثقفين الغربيين والعرب .
إن كل تلك العوامل والتعقيدات في طبيعة الكيان الصهيوني ودولته المحدثة ستنعكس على القضية الفلسطينية بسبب تمفصلها مع ذلك الكيان من ناحية وبسبب ارتباطها مع واقع عربي ميزته الرئيسية غياب إطار سياسي واحد يتولى تدبير شؤونه حلت محله دويلات عاجزة عن إدارة شؤون رعاياها ناهيك عن تبني القضية الفلسطينية . بل باتت تستثمرها دفاعا عن الدولة الغاصبة بدل العمل على تحرير الأرض المغتصبة .
في مثل ذلك المناخ الذي امتزجت فيه لعبة المصالح بالحقوق بالأيديولوجيا بالمقدسات بالانتماء ، سيجد الفكر العربي نفسه في مواجهة كل تلك التعقيدات مجتمعة ولن تكون النوايا الصادقة لبعض مفكرينا العرب ضامنا دون السقوط في الزلل وتحول كثير من التنظيرات التي بدت بالأمس القريب حقائق لا تشوبها شائبة إلى يوتوبيا لا رابط لها بالواقع المعيش ولا قدرة لها على تحريك المشاعر ناهيك عن العقول .
يقصد بعبارة الفكر في الاستعمال الشائع جملة الآراء والأفكار التي يعبر بواسطتها الإنسان عن مشاكله واهتماماته ، عن مثله الأخلاقية ومعتقداته ، عن طموحاته السياسية والاجتماعية ، عن رؤيته للعالم . إن الفكر بهذا المعنى هو الأيديولوجيا بمضامينها العامة التي تشمل الفكر السياسي والاجتماعي والفني والفلسفي والديني . ولا يخرج عن هذا المعنى للأيديولوجيا إلا العلوم الصلبة بمعانيها الدقيقة والصحيحة نظرا إلى ما يشاع بأنه لا وطن لها وإن كان احتكارها اليوم من قبل أقوياء العالم يجردها من تلك الخاصية التي ارتبطت بها تاريخيا . كما يمثل الفكر أداة لإنتاج الأفكار المصنفة كأيديولوجيا أو المصنفة كعلم . إن الفكر العربي لا يخرج عن هذا السياق فهو جملة الآراء والمواقف والاتجاهات التي أنتجها العقل العربي وهو يواجه الطبيعة والتاريخ والمجتمع في نموه وتطوره التاريخي . لكن ذلك الفكر لا يكون منسجما ومتماهيا ضرورة فهو يحتوي على تيارات وآراء ومواقف مختلفة بل متناقضة ومتصارعة في أحيان كثيرة وذلك بسبب تعدد خلفياتها الأيديولوجية وتنوع أسسها ومنطلقاتها وتمثلاتها.
ولعل الموقف من القضية الفلسطينية هو المثال الأكثر دلالة على تنوع الرؤى وتعدد التيارات التي تصل حد التناقض والصراع الذي كثيرا ما يترجم سياسيا فيتجاوز الاختلاف إلى الصراع والصدام . لقد تميز الفكر العربي وخاصة تياراته الرئيسية بعدم القبول بالهزيمة أو حتى مجرد الاعتراف بها مهما اشتدت أو عظمت . إن كارثة فلسطين حسب تسمية الجيل الذي عاصر بدايات القضية ، شكلت دافعا للحديث عن "الأمة العربية ووحدتها" التي ستحرر فلسطين . واعتبرت أن الحل الشريف أو "الثأر" هو الطريق إلى تحرير فلسطين . كتب "محمد عزة دروزة " في كتابه "مشاكل العالم العربي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصادر سنة 1953 " ،"كل ما طال الزمان وتأخر هذا الحل أي الثأر إلا وتوطدت الدولة اليهودية وعمقت جذورها وكثر عدد سكانها وعظمت إمكانياتها واستعداداتها وصار اقتلاعها أو تغيير شيء من معالمها الراهنة على الأقل أشد تعذرا وصعوبة . وغدا ضررها وخطرها العسكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي على جميع العرب وبلادهم أشد وأعظم ". لا شك أن المفكر العربي كان متأثرا بالقيم القبلية التي حكمت العرب في كثير من أقطارهم ونجوعهم ولا تزال تحدد الكثير من مصائرهم ، إن زلل ذلك الخطاب تبرزه ضعف تقدير التحولات والمصالح . فالقضية تتجاوز صراع قبيلتين أو أكثر من القبائل العربية ، بل وتتجاوز كافة الدول العربية مجتمعة آنذاك مهما كانت درجة مصداقيتها هذا علاوة أنها فاقدة لكل مصداقية في التحرير والشواهد التاريخية دالة على ذلك . إنها قضية ترتبط ارتباطا مباشرا برهانات قوى دولية لا تتحقق إلا على أنقاض فلسطين . لقد رفض "دروزة" منطق التشبيه بين فلسطين والأندلس معتبرا أن ذلك "التشبيه فيه كثير من الخطأ ، فمهما عظمت مصيبة العرب بفقدان الأندلس فإنها ليست على كل حال موطنا من مواطن العرب الأصلية وهي قطر غير عربي الجنس والدار". أما فلسطين فهي " منذ أقدم أزمنة التاريخ موطن من مواطن الجنس وعقد صلة بين الشمال والجنوب أي أنها جزء من كيانهم القومي ". ويتجاوز مفكرنا مرحلة التشخيص إلى التفكير في العلاج فيقترح الحل الأمثل راسما في البداية ملامحه العامة بقوله "صار من أعظم واجبات العرب والحالة هذه أن لا يضيعوا لحظة واحدة في التفكير والتدبير لدفع هذا الخطر بالعمل المجدي في أسرع وقت ممكن ، وليس من شأن غير القوة أن تدفع هذا الخطر ويجب استرجاع فلسطين خلال ستة أشهر أو سنتين على الأكثر أي قبل أن يستفحل أمر اليهود ". ثم يحدد الكاتب أسلوب استرجاع فلسطين فيقترح خطة لذلك تقوم على ما يسميه "حرب التحرير الشعبية" أو "حرب العصابات" قائلا " إن الحل هو إعداد عشرة آلاف من الفلسطينيين اللاجئين على الأقل وتدريبهم وتجهيزهم وتنظيمهم في وحدات صغيرة ذات قيادات خاصة توزع على الحدود انتظارا ليوم المواجهة الذي يجب أن لا يطول ، أما الغطاء السياسي الدولي لعمل هذه العصابات فهو العمل على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة . يبقى بعد ذلك أن رد الفعل الإسرائيلي الذي لاشك أنه سيكتسي صبغة هجوم عسكري على الدول العربية التي تنطلق منها حرب العصابات وهنا يجب أن تكون الجيوش العربية مستعدة للإسرائيليين فتفشل حركتهم ولندعهم هذه المرة هم الذين يشتكون العرب إلى مجلس الأمن ".
لقد كان المفكر "دروزة" مثالا لمفكري عصره الذين عاصروا نكبة فلسطين الأولى . كان ذلك الجيل من المفكرين العرب لا يفصل بين ما هو عربي وما هو فلسطيني فلا مانع عنده من أن تكون العصابات المقاتلة من اللاجئين الفلسطينيين ولا مانع لديه كذلك أن تتولى حمايتهم العسكرية الجيوش العربية ، والسياسية دول تلك الجيوش . لقد اتسمت تلك التجربة الأولى ببساطة التشخيص وبساطة الحل ولكن مأزق ذلك الفكر هو عدم القدرة على إدراك حجم لعبة المصالح ودور الحركة الصهيونية وعجز الدولة العربية الناشئة آنذاك في ظل الهيمنة الاستعمارية وضعف التنظيم الفلسطيني وإمكانيات التعبئة في ظل الشتات والتهجير المنظم .
النموذج الثاني من الخطاب العربي هو النموذج اليساري الماركسي . ميزته أنه تم تسويقه أول مرة من قبل الشيوعيين الصهاينة القادمين إلى فلسطين مع بعض يهود ذلك البلد مباشرة بعد الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 أي أنه روج أول مرة فلسطينيا إن صح التعبير. مثالان سنعتمدهما في مناقشة ذلك النموذج .
المثال الأول يمثله المفكر المصري "سمير أمين". كتب "برهان غليون " في مقدمة كتاب "التطور اللامتكافئ " المعربة "من المفارقات أن القارئ العربي هو أقل من يعرف سمير أمين ، المفكر العربي الذي أصبح بسبب عمق واتساع المشكلات التي يطرحها وروح الكشف العلمي التي تميز بها ، والجرأة على الذهاب إلى ما وراء العقلية الضيقة والجزئية مرجعا عالميا في النظرية الاجتماعية أو بالأصح التاريخ الاجتماعي، فالقارئ الغربي يعرفه بشكل خاص كواحد من أهم من وجه في أبحاثه المتعددة ضربة كبرى للانغلاقية المذهبية ويعرفه القارئ الإفريقي والأمريكي اللاتيني مناضلا ومفكرا ثوريا". لاشك أن "سمير أمين" صاحب معرفة موسوعية متميزة وأن مساهمته في إثراء الفكر العربي كبيرة على الرغم من أن أغلب كتاباته كتبت بغير العربية قبل أن تترجم إليها . إن انتماء "سمير أمين" إلى الأيديولوجيا الماركسية دفعه إلى الكتابة في مختلف القضايا الإنسانية على أرضية تلك الخلفية الأيديولوجية . لكن كتاباته حول القضية الفلسطينية كانت محدودة لعل أهمها ما جاء في كتابه "الأمة العربية ، القومية وصراع الطبقات". لقد عبر الكاتب في مؤلفه عن تبنيه اتجاها تمجيديا فيما يتعلق بتجربة الحزب الشيوعي الفلسطيني قائلا "لقد تعرب الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي أسسه بعض المثقفين اليهود في العشرينات ن خلال الثلاثينات ، وفي تلك الحقبة كانت الأممية الشيوعية تلعب دورا ثوريا يشهد على ذلك شعار تعريب الحزب الذي رفع سنة 1924 .وفي وجه الطبقات القائدة العربية أصبح الحزب الشيوعي الحزب العربي الوحيد للتحرير الوطني ، لكنه كان ضعيف الجذور بشكل لم يسمح له أن يحول ثورة 1936 إلى ثورة لا تقهر تحت قيادته . وكانت الحرب العالمية وسياسة روسيا القائمة على تجنب الصدام مع الإمبريالية هي من أسباب انحطاط الشيوعية الفلسطينية ".
يبدو أن "سمير أمين" لم يبصر حقيقة النضال الفلسطيني خارج قيادة الشيوعيين له رغم إدراكه أن الحزب القائد للحركة الشيوعية بمجملها والمقصود "الحزب الشيوعي السوفياتي" هو أول المعترفين من أعلى منابر الأمم المتحدة سنة 1948 بالكيان الجديد
المدعو "إسرائيل" وهو ما عبر عنه الرفيق "قروميكو ".وهو أول المدركين أن الأحزاب الشيوعية العربية وعلى رأسها الحزب الشيوعي اليهودي الذي سيتحول إلى الشيوعي الفلسطيني هو أكثر تلك الأحزاب تبعية للحزب القائد في موسكو . وفي مقابل تلك الصبغة التمجيدية للشيوعية الفلسطينية أدان "أمين" منظمة التحرير الفلسطينية معتبرا إياها من صنع الدول العربية سنة 1964 في قمة الإسكندرية كما يعتبر أن تلك المنظمة ولدت عاجزة على تعبئة الشعب الفلسطيني لتولي عملية التحرير ويستدل على صحة قوله بإناطة قيادتها إلى "ديماغوجي ثرثار هو أحمد الشقيري".وهي عبارة عن تجمع ذو طبيعة بيروقراطية لعناصر البورجوازية والبورجوازية الصغيرة التي تجاوزتها الأحداث منذ فترة طويلة وهي شرائح يرى "أمين" أنها خانت شعبها منذ ثورة 1936 . لا شك أن "أمين" يلتزم في تصوره هذا بجهاز مفاهيمي صارم يعطيه الأولوية المطلقة في تحليله . ولكن السؤال المشروع حول ذلك التصور هو لماذا لم يطبق "أمين" تلك الصرامة على "فتح" التي انضمت إلى المنظمة منذ تأسيسها سنة 1965 . فهو لا يتهم التنظيم الفتي بالتواطئ والخيانة أو الانتماء إلى الشريحة البورجوازية أو الرجعية بالرغم من انحدار قادة ذلك التنظيم من أصول إسلامية وتحديدا من حزب التحرير الإسلامي بالنسبة لياسر عرفات وصلاح خلف وخالد الحسن وأبو يوسف النجار كما يثبته "فايز سارة" في مقاله المنشور في مجلة الوحدة عدد 44 بعنوان " الاتجاهات السياسية العربية وقضية فلسطين". لا شك أن "سمير أمين" لم يعثر على الخيط الرابط في النضال الفلسطيني بين تبنيه للخط الشيوعي وغياب ذلك الخط عن المعارك الحقيقية التي تولاها غيره من التنظيمات غير الشيوعية مثل فتح التي لا شك أن "أمين" يعلم منطلقاتها الأيديولوجية والخلفية العقائدية لقادتها ومناضليها اللاشيوعيين ومع ذلك فهو لا يتأخر في الإشادة بها تاركا "الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين" قبل أن تتحول عن فكرها القومي العربي قبل سنة 1967 وقبل أن تنقسم إلى تنظيمين إثنين . ربما لم يشر "أمين" إلى تلك الجبهة بسبب انتساب منخرطيها وقادتها إلى البورجوازية والبورجوازية الصغيرة وهو انتماء لا شك أنه لم يتغير رغم التحول في الموقف من الأيديولوجيا القومية العربية إلى الفكر الماركسي .
المثال الثاني يمثله "العفيف الأخضر" أحد أبرز معربي الماركسية قبل أن ينتقل إلى صف الدعوة إلى عدو الأمس "الإمبريالية الغربية". ففي مقال نشره سنة 1979 في مجلة دراسات عربية بعنوان "بعد الهزيمة ما العمل" جاء فيه "إن الثورة الفلسطينية لن تقتصر مهمتها على تحرير فلسطين بل ستكون مهمتها الأساسية تفجير تناقضات الكيانات العربية عن طريق تحرير فلسطين فهي ظاهرة شعبية ثورية وظيفتها أن تكون كاشفا للتناقضات الداخلية للمجتمع العربي المفكك وأن تكون محرك وحدته وتاريخه المقبل ".يستند "الأخضر" في فهمه إلى ما تعلمه من "ماركس" وخاصة قوله "في فرنسا التحرر الجزئي هو أساس التحرر الشامل وفي ألمانيا التحرر الشامل هو شرط الوجود لكل تحرر جزئي ". لم يراهن "الأخضر" كما فعل "سمير أمين" على أحد فصائل الثورة الفلسطينية وإنما راهن عليها مجتمعة على اختلاف منطلقاتها وأهدافها وتصوراتها وعقائدها وهي دون شك مختلفة على الرغم من اتفاقها . ثم حملها ما لا طاقة لها به وهو تفجير تناقضات الكيانات العربية عن طريق تحرير فلسطين .وكأن الثورة الفلسطينية كانت قادرة على تحرير فلسطين وتخلفت عن ذلك الهدف والمطلوب منها تحقيقه ليس كغاية في حد ذاته وإنما من أجل هدف آخر هو تفجير التناقضات العربية .كان على "الأخضر" أن يدرك أن الثورة الفلسطينية قادمة على مزيد من الانحسار بعد أيلول الأسود سنة 1970 وبعد إمضاء إتفاقيات كامب دفيد سنة 1979 وبسبب الحروب التي شنت ضدها آنذاك في لبنان وخاصة حصارها وطردها من بيروت سنة 1982 ، حيث كانت الثورة الفلسطينية مجسدة في مجموعة من الفصائل في الدول المعروفة بالطوق . وبعد ما يناهز العشرين سنة على كتابة "الأخضر" لمقاله تبرز تلك الأفكار وكأنها قادمة من عالم آخر ليس لأن الثورة الفلسطينية لم تحقق مكاسب بل لأن فكرة الثورة العربية وتدمير الكيانات القطرية العربية تبدو اليوم وكأنها منبعثة من ماض سحيق بعد أن كانت بالأمس القريب مطلبا شعبيا تتبناه شرائح واسعة من المجتمع العربي إضافة لبعض النخب الفكرية والسياسية.
النموذج الثالث عبر عنه الكاتب الفلسطيني "منير شفيق" صاحب كتاب "الإسلام ومعركة الحضارة" ، الذي بدأ حياته الفكرية ماركسي النزعة ثم انتقل إلى التيار المضاد أي التيار الإسلامي . لقد عمل "شفيق" على ملئ الفراغ النظري الذي عرفته تجربة الحركات الإسلامية لاسيما فيما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية . إلا أن إضافته لم تكن في مستوى حجم فعل تلك الحركات في المستوى السياسي .فقد كتب "أصبح موقع القضية في الصدارة وغدت مكانة الشعب الفلسطيني مرموقة على الصفحات التي تسطر فيها نضالات الشعوب المقهورة المستضعفة ، ولم يعد من الممكن أن يمر يوم أو ينعقد مؤتمر أو اجتماع أو لقاء شعبي أو رسمي أو دولي دون أن يكون فيه نصيب للموضوع الفلسطيني". وتحت عنوان "طريق فلسطين طريق الوحدة" تناول الكاتب تحليل الصراع الدائر بين مختلف فصائل الثورة الفلسطينية فصنفها إلى فريقين رئيسين ، الأول يمثله دعاة تنظيف البيت أو التحرير أولا . حجة هذا الفريق لا تفتقر إلى المنطقية حسب رأي مفكرنا لأن الوصول إلى تحرير فلسطين تحريرا كاملا لا يتحقق ما لم ترفع العقبات الداخلية التي تمنع إستنهاض الجماهير وتحول دون التوحيد . أما الفريق الثاني فهو الفصائل التقليدية المشكلة لمنظمة التحرير الفلسطينية . لقد كان "شفيق" منذ زمن مبكر يؤسس لشرعية نضالية جديدة تأخذ فيها الحركات الإسلامية الفلسطينية مكانة وإن كان لا يسميها آنذاك . كما حدد قوى التحرير فيما يسميه القوى المكبوتة والنائمة ومئات الملايين الذين يظهرون في كل مناسبة أو حدث فيها صدام حقيقي مع العدو الصهيوني ". ثم يحدد الكاتب عمق الثورة الفلسطينية ضمن ما يسميه العائلة الواحدة المتمثلة في البلاد العربية والإسلامية . لكنه يدعو إلى احترام الخصوصية الفلسطينية لتحقيق الوحدة الفلسطينية حول المضامين الجهادية فيتحول الفلسطينيون إلى "كتيبة في جيش المجاهدين وهي تزحف لتحرير فلسطين التي جعلها الله مهد المسيح وأرض الإسراء والمعراج ووضع في بيت مقدسها أولى القبلتين وثالث الحرمين المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله ".
النموذج الرابع والأخير يمثله الكاتب القومي العربي المعروف "عصمت سيف الدولة" الذي نذر حياته دفاعا عن القضايا القومية العربية التي خصها بمؤلفاته العديدة بما في ذلك القضية الفلسطينية التي أفردها بعدة أعمال لعل أبرزها كتابه الموسوم "التقدم على الطريق المسدود" الذي يعتبره مؤلفه بمثابة الرؤية القومية للقضية الفلسطينية . ست نقاط تناولها سيف الدولة في مؤلفه بالتحليل ، أولا أن الثورة الفلسطينية تتقدم ولكن على طريق مسدود سبب ذلك أن محصلة الانتصارات التي حققتها في المنابر الرسمية العربية والدولية منذ سنة 1974 ستشكل عائقا أمام عملها وتطورها في المستقبل بناء على قاعدة من يأخذ لابد أن يعطي للآخرين والعطاء في هذه الحالة هو التنازل . ثانيا إن الحياد في القضية الفلسطينية مستحيل ومن ثمة فإن جميع الدعوات التي تحاول أن تلفق بين الحق المشروع والاغتصاب التوسعي هي حلول كاذبة ومنحازة للعدو . ثالثا إن الحركة الصهيونية ترى أن الأسباب الجدية للكفاح من أجل الأرض المقدسة هو موقعها الإستراتيجي وتأثيره في مستقبل المنطقة وبالتالي الحيلولة دون قيام قوة عربية مسلحة تضم مصر بإمكانها أن تتحكم في قناة السويس والطريق إلى الهند . رابعا أنه عندما تحل مشكلة فلسطين لن يكون المستقبل العربي مجرد امتداد لما سبقه بل سيكون مستقبلا مختلفا نوعيا في قواه ونظمه . خامسا إن النظام الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما حول النظم الاجتماعية في الأرض العربية بين الرجعيين والتقدميين إنما هو قائم حول الأرض المغتصبة ولمن تكون .سادسا إن طبيعة الثورة الفلسطينية والنظام الداخلي لأداتها أي منظمة التحرير الفلسطينية قائم على أساس الانتماء إلى الإقليم الفلسطيني .وينتهي "سيف الدولة" إلى القول "بكل الإخلاص الذي لا نملك غيره الآن نقول إن مرحلة الثورة الفلسطينية قد أوشكت على نهايتها وحققت فيها أقصى ما تسمح به طاقاتها وظروفها الإقليمية وعليها أن تعد نفسها من الآن لتكون جزء عضويا من متطلبات المرحلة القادمة "الثورة العربية".
تعكس لنا تلك الأنماط من الخطاب العربي حول القضية الفلسطينية على اختلافها أيديولوجيا اتفاقا في نزوعها نحو نوع من التبشير وفق ما تقتضيه صرامة مفاهيمها. فقد كانت تصلح أداة للتعبئة والتنظيم وتجنيد المناصرين والمريدين ولكنها لم تنبؤنا بما ستؤول إليه الوقائع والأحداث . تلك الأحداث التي سفهت مقولات "دروزة" في التحرير القريب بواسطة حرب العصابات التي ستحقق الثأر . وبينت كم كانت طوباوية مقولات "سمير أمين" في مراهنته على الدور الشيوعي في قيادة عملية التحرير أو حتى مجرد المشاركة فيها في بعض الفترات التاريخية .كما عكست عجزا لافتا لدى "عفيف الأخضر" في فهمه لدور الثورة الفلسطينية وكان عليه أن يتفطن إلى أن الثورة الفلسطينية سحقت سحقا في ضواحي عمان في أيلول الأسود ثم تكرر الأمر في بيروت سنة 1982 لمجرد شعور مناوئيها من الأنظمة العربية أنها يمكن أن تشكل خطرا على وجودهم دون أن تعلن انخراطها في مثل ذلك الخطر. كما لم تسر الثورة الفلسطينية في الطريق الذي حدده لها "سيف الدولة" بالرغم من غلقه طرقا أخرى واعتبارها مسدودة أمامها فصدق الرجل وحسن نواياه في التحليل لم تجعل الثورة الفلسطينية تتقدم نحو "الثورة العربية" .بل لقد بينت الوقائع أن الثورة العربية على أهمية المقولة تاريخيا لم يعد لها حضور وأنصار إلا لدى بعض النخب القومية المحدودة التأثير وفي ظل غياب تلك الثورة بعد الهيمنة الأمريكية على المنطقة والعالم فإن الثورة الفلسطينية ستبحث عن طريق آخر هو الطريق إلى الداخل . لقد أدركت منظمة التحرير الفلسطينية صعوبة الظروف الجديدة بعد نهاية حرب الخليج في سنة 1991 فانخرطت في المشاريع التي أعدت للمنطقة برمتها فشاركت في مؤتمر مدريد وانتهت إلى اتفاق أسلو الذي أفرز ما بات يعرف اليوم بالسلطة الوطنية الفلسطينية على جزء من الضفة الغربية وقطاع غزة . وقد تبين أن تلك السلطة لم تكن سوى موطأ قدم للقوى الفلسطينية الصاعدة . وهو ما انتبهت إليه الدولة الصهيونية وحلفائها في الغرب الأمريكي والأوروبي فتنكرت تلك الدولة لمضامين الاتفاقيات وحولت مقر القيادة الفلسطينية إلى سجن كان شاهدا على اغتيال الرمز التاريخي للثورة الفلسطينية والشريك صاحب مقولة سلام الشجعان ولم يكن الوحيد فقد اغتالت الدولة الصهيونية رموز مختلف التنظيمات لتشمل أبو علي مصطفى اليساري والشيخ المقعد أحمد ياسين الإسلامي وبين هذا وذاك شملت عمليات القتل الفردي والجماعي كافة الأعمار ومن كافة الشرائح سواء كان ذكرا أو أنثى ، أميا أم متعلما ، ثوريا أم محافظا غنيا أم فقيرا متدينا أم علمانيا المهم أن تكون هويته فلسطينيا. سنوات عصيبة عاشتها الثورة الفلسطينية بعد أن باتت يتيمة في ظل عجز الدويلات العربية على توفير الحماية لها بسبب ضعفها الذي لم يشهد التاريخ له مثيل وبسبب قلة حيلة العرب شعبا. لا أحد يستطيع تحمل وزر طلقة نار واحدة من خارج تلك المساحة التي تعد بالكسور العشرية في غزة والضفة إذا استثنينا لبنان وخصوصياته حيث ساعد التنوع الطائفي والمذهبي على ضعف الدولة ومن ثمة استفادة المقاومة من ذلك الوضع . لقد تراجعت الحركات الشيوعية والقومية في داخل الأرض المحتلة فتقلص دور الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وغاب فعل الحزب الشيوعي الفلسطيني أما التيارات القومية العربية التي وجدت في فتح أحسن الأطر للتعبير عن خياراتها فقد انتهت مسيرتها إلى أوسلو ونتائجها وازداد وضعها تعكرا بسبب ما وفرته لها السلطة من امتيازات كانت سببا كافيا لانتشار الفساد بأنواعه والتحول من موقع المقاومة إلى الدفاع عن أمن العدو وحقه في الوجود وهو ما أفقد الحركة كل مصداقية أمام جماهيرها والشعب الفلسطيني والشعب العربي عامة فانتهت مسيرتها بالسقوط المدوي في الانتخابات ليحل محلها من هو أكثر مصداقية أو هكذا باتت تعرف في الساحة الفلسطينية أي حركة المقاومة الإسلامية حماس الفصيل البديل الذي استطاع أن يستثمر النضال التاريخي لمختلف الفصائل الفلسطينية وأن يحقق بفضل الانتفاضات والانتفاضات المسلحة التي قادها وأسلوب العمليات الاستشهادية الذي أسس له قبل أن تنخرط فيه مختلف التنظيمات الأخرى ، استطاع أن يحقق ما لم يبشر به الفكر العربي بمختلف تياراته عندما كان ينعت الثورة الفلسطينية بالمحدودية والعجز ، أي إسقاط الشعار التاريخي للدولة الصهيونية وجعلها تحتمي بجدار عازل في بوتقة محدودة جغرافيا وتفقدها أية مصداقية أمام من جهز لمساندتها أي الرأي العام الأوروبي الذي بات يعتبرها الخطر الأول المهدد للعالم . لقد تمكنت المقاومة الفلسطينية في ظل ذلك الوضع من الصمود لعل أبرز مظاهره الجندي المختطف الذي عجزت الدولة العبرية العاتية على استرجاعه بالرغم من محاولات التدمير التي قامت بها في الضفة وغزة. كما عجزت تلك الدولة على إيقاف الصواريخ التي تطلقها الفصائل الفلسطينية . لقد بات النموذج الجهادي هو المحتذى من قبل مختلف التنظيمات والفصائل الفلسطينية لإعادة المصداقية إلى خطابها بعد أن ذهبت به أوسلو واستتباعاتها . إلا أن المفارقة في تجربة حماس التي استثمرت الإرث النضالي الفلسطيني والقومي العربي طيلة نصف قرن أو يزيد من عمر القضية ، شأنها في ذلك شأن حزب الله في لبنان ، ستجد نفسها أمام خيارين متناقضين فهي حركة مقاومة أو هكذا أعلنت نفسها منذ نشأتها ولكن ما حققته من مكاسب وتراكم لتجربتها ومن قبول لدى مختلف الشرائح الشعبية الفلسطينية ومن رأسمال رمزي لدى كثير من قوى المقاومة العربية والعالمية، كل ذلك سيدفعها إلى الانخراط في لعبة الدولة ومؤسساتها مما جعل ما اعتبرته تلك الحركة نصرا متمثلا في تحقيق الأغلبية داخل المجلس التشريعي الفلسطيني على حساب القوى التقليدية كاسبة الأحقية في تشكيل الحكومة ، بداية انهيار وتراجع لمشروع قدم نفيس قادته وكوادره شهداء من أجل استمراريته وتواصله خاصة وأن المقاومة تهدف في نهاية الأمر إلى النصر بل إن السقوط المدوي لحركة حماس في صائفة 2007 بسبب ابتلاعها الطعم المتمثل في تشكيلها الحكومة قد أجهض الأماني وحول المشروع برمته إلى واقع مرّ بعد أن نجحت الدولة العبرية في تنفيذ إستراتجيتها القائمة على مزيد من التفتيت وحولت "الكيان الفلسطيني" الوليد إلى كيانين متقاتلين محكومين بوهم السلطة . لقد كان على حماس أن تدرك أن النصر ليس إقامة دولة على جزء من تراب فلسطين وإنما تحرير فلسطين من النهر إلى البحر . وإن كان مطلب بناء الدولة على ما في تجربتها العربية اليوم من علل وضعف وعجز بل وهوان لا يمكن تقييمها بمنظار الستينات أو حتى السبعينات من القرن الماضي في ظل الزخم النضالي القومي العربي واليساري مما جعلها عائقا أكثر منها مكسبا وإنما وجب النظر إليها على أنها وسيلة ضد التفتيت الذي يستهدف اليوم مكونات تلك الدولة ولعل ما يعيشه العراق والسودان والصومال بل وفلسطين نفسها من أحسن الأمثلة . إن خلاصة كل ذلك هو أن المقاومة الفلسطينية بدأت عربية وانتهت فلسطينية كما بدأت قومية عربية ويسارية وانتهت وطنية وإسلامية وهو ما بشر الفكر العربي بنقيضه .
إن المقاومة الفلسطينية تواجه عدوا فريد النوع وسيلته من أجل الاستمرار القتل مهما كان حجمه له نزوع نحو التحالف مع كل قوة قادرة أن تحقق له أهدافه ، فضاء حركته وفعله من أجل انتصار مشروعه الكرة الأرضية بأكملها ،إستراتيجيته تقوم على إضعاف العرب قدر الإمكان لكي لا يشكلوا عمقا إستراتيجيا للمقاومة مهما كانت هويتها الثقافية والسياسية . في مقابل كل ذلك ليس من خيار أمام حركة المقاومة سوى أن تكون فلسطينية فالقضية تدور معاركها على أرض فلسطين . وهي قومية عربية لأنها أرضا عربية مغتصبة في زمن عجز العرب على بناء دولة قومية تسترجع أرضها المغتصبة . وهي إسلامية ومسيحية ويهودية لأن الأديان المتعايشة على تلك الأرض لا تقبل الضيم والقتل والتشريد والاغتصاب مهما كان مأتاه ولو كان ذلك متأت من إحدى المنظمات التي توظف إحدى تلك الديانات . إن كل تلك الديانات مستهدفة من قبل المنظمة الصهيونية العالمية التي لم تحتل الأرض من أجل الأرض الموعودة كما تدعي بل من أجل الانتصار في لعبة المصالح حتى أن "ماركس" في كتاب المسألة اليهودية أشار إلى أن الإله الحقيقي لليهود هو المال فهم لا يعبدون سواه. كما أن للقضية وجه طبقي بشكل من الأشكال فلا يقدم التضحيات من أجلها سوى فقرائها وخاصة الاستشهاد كما لا يموت في المقابل أباطرة المال الصهاينة من أجل أسطورة الوطن الموعود فهم أول من غادر اتقاء لشر صواريخ حزب الله في صائفة 2006 .إن قضية فلسطين بالإضافة لكل ذلك هي قضية كل الإنسانية جمعاء بامتياز ، إن الصهيونية المشتغلة بكافة أصقاع الدنيا لا ترى في دولتها إسرائيل سوى قاعدة متقدمة من قواعدها أما مصالحها فتنتشر في كل مكان وهي في حاجة مأسستها. فقد كانت الصهيونية تعيش حرب مواقع في عواصم مختلف الدول مع دولة مصر الناصرية لما كانت تلك الدولة المعبر عن إستراتيجية العرب أما اليوم وفي غياب مثل تلك الإستراتيجية فإن الحركة الصهيونية بقيت اللاعب الوحيد في مختلف الفضاءات ولا منافس لها ولاشك أنه من الصعب اليوم إقناع دولة مثل الصين أو الهند أو حتى تركيا الإسلامية بأن إسرائيل دولة عنصرية مغتصبة للأرض وقاتلة ومشردة لشعبها.
إن طبيعة المعركة مع المنظمة الصهيونية وأداتها إسرائيل وحلفائها في الغرب والشرق وخاصة الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون فلسطينية فقط أو عربية أو إسلامية أو إنسانية . إن هذه المستويات لابد لها أن تتداخل في الأذهان وأن تكون لها نفس المكانة الواحد يكمل الآخر فلكل مشروعيته في المقاومة ودونها مجتمعة سيبقى التبشير بالنصر سيد الموقف.

الجنوسة والنوع (الجندر) في الثقافة العربية دراسة منشورة في مجلة المستقبل العربي العدد 348 فيفري 2008


الجنوسـة والنـوع (الجنـدر) فـي الثقافـة العربيـة
سالم لبيض (*)
قسم علم الاجتماع، المعهد العالي للعلوم الإنسانية ـ تونس.
مقدمـة
إن انقسام المجتمع إلى ذكور وإناث أمر طبيعي لا يختلف حوله اثنان، ولكن المختلف حوله هو الوظائف وتوزيع الأدوار المترتبة على ذلك الانقسام. فهذه الوظائف لا شك متأتية من تصورات ثقافية ضاربة في القدم، اعتادت على الأولوية الذكورية في الثقافة العربية. إذ إن القيادة في هذا المجتمع هي للرجل وأن دور المرأة الأساسي هو إنجاب الأطفال لتجديد الخزينة البيولوجية للعائلة على حد تعبير مالك شبل[(1)]. وهذا الرأي بدوره هو ما يعلنه المجتمع شكلاً، أما في العلاقات اللاشكلية فإن المجتمع الذكوري لا يحمل عن المرأة سوى أنها أداة للمتعة الجنسية. إن الثقافة النسائية في المجتمع العربي تحاول أن تحد من ذلك الإرث الثقافي عبر التبشير بالمفهوم الجديد وإعطائه الأولوية ضمن مختلف أطر التنشئة والتواصل.
أولاً: التعريفات والمفاهيم
1 ـ في معنى الجنوسة اصطلاحاً
الجنس في لسان العرب «هو الضرب من كل شيء وهو من الناس ومن الطير ومن حدود النحو والعروض والأشياء جملة... والجنس أعم من النوع ومنه المجانسة والتجنيس، ويقال: هذا يجانس هذا أي يشاكله، وفلان يجانس البهائم ولا يجانس الناس إذا لم يكن له تمييز ولا عقل... والحيوان أجناس: فالناس جنس والإبل جنس والبقر جنس والشاء جنس»[(2)]. فالجنس بهذا المعنى لا يحيل إلا إلى صنف آخر مختلف كما لا يحيل إلى التنوع داخل الجنس الواحد، هذا علاوة على الغياب الكامل لأبعاد الجنس كغريزة بيولوجية التي يتعرض لها لسان العرب في شرح كلمة «نكح: نكح فلان امرأة ينكحها نكاحاً إذا تزوجها. ونكحها ينكحها باضعها أيضاً... ومعنى النكاح ههنا الوطء... أصل النكاح في كلام العرب الوطء، وقيل للتزوج نكاح لأنه سبب للوطء المباح»[(3)].
إن هذا التفريق بين الجنس والنكاح في اللغة العربية يدلنا على تصنيف آخر للجنوسة كما نعتمدها في هذه الدراسة. إنه الأنوثة والذكورة.
يشير ترتيب القاموس المحيط إلى أن الانوثة من «آن ث»أي «آنثت المرأة إيناثا : ولدت أنثى فهي مؤنث ومعتادتها مئناث والأنيث: الجديد غير الذكر. والمؤنث المخنث كالمئناث. والأنثيان الخصيتان... وأرض أنيثة ومئناث: سهلة منبات. وأنثت له تأنيثا وتأنثت، لانت. والإناث جمع الانثى كالإناثي... وامرأة أنثى كاملة»[(4)].
يحيل آخر هذا التعريف إلى الأنثى بوصفها مرأة، والمرأة كلمة مشتقة من مرأ ـ مرءاً الرجل: طعم... ومراءة الطعام صار مريئاً وساغ من غير غصص... ومرأ : صار كالمرأة هيئة وحديثاً. والمرأة: المرّة من مرأ اسم مريء الطعام، والجمع نساء ونسوة... مؤنث الرجل[(5)]. وفي لسان العرب «التذكير خلاف التأنيث، والذكر خلاف الأنثى والجمع ذكور وذكورة وذكار وذكارة وذكران وذكرة... وامرأة ذكرة ومذكّرة ومتذكّرة: متشبهة بالذكور. قال بعضهم: إياكم وكل ذكرة مذكّرة «شوهاء فوهاء، تبطل الحق بالبكاء، لا تأكل من قلة ولا تعتذر من علة، إن أقبلت أعصفت وإن أدبرت أغبرت». وناقة مذكّرة: متشبهة بالجمل في الخَلق والخُلق... ويوم مذكّر: إذا وصف بالشدة والصعوبة وكثرة القتل... وأذكرت المرأة وغيرها فهي مذكر: ولدت ذكراً.. وامرأة مذكر: ولدت ذكراً، فإذا كان ذلك لها عادة فهي مذكار وكذلك الرجل أيضاً مذكار. ويقال كم الذكرة من ولدك؟ أي الذكور. وفي الحديث إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة أذكرا أي ولدا ذكراً.... ورجل ذكر: إذا كان قوياً شجاعاً أنفاً أبياً. وقول ذكر: صلب متين. وشعر ذكر فحل... وفلاة مذكار ذات أهوال؛ لا يسلكها إلا الذكر من الرجال. وفلاة مذكر: تنبت ذكور البقل، وذكوره: ما خشن منه وغلظ... والذكر: معروف، والجمع ذكور ومذاكير، على غير قياس، كأنهم فرقوا بين الذكر الذي هو الفحل وبين الذكر الذي هو العضو... والمذاكير منسوبة إلى الذكر واحدها ذكر... والذكر والذكير من الحديد: أيبسه وأشده وأجوده وهو خلاف الأنيث... ويقال: ذهبت ذكرة السيف وذكرة الرجل أي حدتهما. ورجل ذكير: أنف أبي وسيف مذكّر: شفرته حديد ذكر»[(6)].
كما تحيل الذكورة إلى مصطلح «الرجل» بالنسبة إلى النوع البشري، والمصطلح عند ابن منظور يعني «معروف الذكر من نوع الإنسان خلاف المرأة، وقيل: إنما يكون رجلاً فوق الغلام وذلك إذا احتلم وشب، وقيل: هو رجل ساعة تلده أمه إلى ما بعد ذلك، وتصغيره رجيل ورويجل على غير قياس»[(7)]. ولعل ما يلفت الانتباه في كل تلك التعريفات ذات الصبغة الاصطلاحية هو تأكيدها على تساوي معنى الأنوثة مع الليونة والسهولة إلى درجة الربط في الاشتقاق بين أصل المصطلح والطعام وسهولة استهلاكه بالنسبة إلى الأنثى عموماً والمرأة على وجه الخصوص، وتساوي معنى الذكورة مع القوة والشدة والبأس وبالتالي مع الرجولة. وهي معان لا شك أن لها أثراً كبيراً على الحقل الدلالي لتلك المصطلحات نظراً إلى أنها وليدة إنتاج ثقافي أفرزه المجتمع الذي نشأت فيه.
2 ـ في معنى الجنوسة دلالة
أ ـ في الحقل الثقافي العربي
لقد انعكس الإرث الديني على مواقف النخب الثقافية، فدار الجدل حول موقف الإسلام من المرأة وموقعها في المجتمع العربي والإسلامي. ففي حين مال غلاة الفقهاء إلى إبراز «دونية المرأة» اعتماداً على بعض النصوص المتعلقة بشهادة المرأة وقوامة الرجل عليها ونصيبها في الإرث وارتفاع الرجال عليها بدرجة، يضاف إلى ذلك ما أثير من حديث حول «دونية سياسية وقيادية» و«دونية دينية» إذا أخذنا في عين الاعتبار عدم قبول إمامة المرأة. كما شكلت مسألة الحجاب والموقف منه موضوع سجال في الفكر العربي المعاصر[(8)]، خاصة بعد أن باتت وسائل الاتصال الحديثة لا سيما القنوات الفضائية، تلعب دوراً في الدعاية والتعبئة الدينية. في مقابل تلك الدونية اعتبر كل من الطاهر الحداد وعبد الوهاب بوحديبة أن الإسلام لم يؤسس «لدونية نسوية» بل إن مواقفه اتسمت بإنصاف المرأة وإعطائها مكانة تضاهي مكانة الرجل إذا أخذنا في الحسبان تطور تلك النصوص مقارنة بالواقع الذي نشأت فيه ومكانة المرأة في ذلك الواقع.
كتب الحداد في كتابه سنة 1920 متسائلاً في الفصل المعنون بـ «المرأة في الإسلام» هل جاء الإسلام بالمساواة بين عباد الله إلا بما يقدمون من عمل، أو أنه جاء ليجعل للمرأة بأنوثتها حقاً في الحياة من الرجل بذكورته[(9)]؟
لقد بدأ الحداد هذا الفصل بالتأكيد على مقاومة الإسلام تشاؤم العرب من البنات وكراهيتهن مستشهداً بحديث الرسول «أبو البنات» وبالآية القرآنية { وإذا الموؤدة سئلت. بأي ذنب قتلت }[(10)] وما تضمنته تلك الآية لتلك الممارسة التي تعد ممارسة مرجعية لكثير من المواقف والسلوكيات الأخرى تجاه الأنثى التي كانت الثقافة العربية إبّان تلك المرحلة التاريخية تعتبرها مجلبة للعار لا محالة. وقد كانت تلك الثقافة تستبطن ذلك الموقف وتتمثله على مر الحقب والأجيال. لقد تصدّى الحداد لهذا الموقف معتبراً إياه منافياً للإسلام الذي كان يواجه الرجل والمرأة سواء فيفرض عليهما واجباته ويجعل مسؤوليتهما في ذلك سواء[(11)]، وقد تجسدت تلك المساواة في عدة مستويات من أبرزها:
(1) الشهادة والقضاء : يعتبر الحداد أن الإسلام ارتفع بالمرأة حين مكّنها من الوقوف أمام القضاء تشهد على الناس رجالاً ونساء مهما كان تعقيد المسألة التي ستشهد فيها. ويعلل الحداد شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد بغاية التذكير، وليس بسبب سقوط أخلاقي كما يذهب إلى ذلك خصوم نهضة المرأة، أما الحاجة إلى التذكير فمردّها إلى موروث تاريخي طال أمده حقّر المرأة وكرّس دونيتها. كما أقر الحداد حق المرأة في القضاء بين الناس مثلها في ذلك مثل الرجل مستنداً إلى الموقف الحنفي وما أفتى به الإمام أبو حنيفة النعمان من جواز تولي المرأة خطة القضاء دون أن يناقض ذلك جوهر الدين وأصوله. ويدعم الحداد هذا الموقف بقوله «ليس في نصوص القرآن ما يمنع المرأة من تولي أي عمل في الدولة والمجتمع مهما كان هذا العمل عظيماً»[(12)].
(2) الميراث : يبدأ الحداد بمعالجة هذه المسألة في الجاهلية. ففي هذه المرحلة من تاريخ المجتمع العربي «يحق لعصابة الزوج الميت (زوج المرأة) أن يزوجوها بأحدهم وبمن شاءوا، أو يعضلوها حتى لا تذهب بشيء من مال زوجها فتفوّته عليهم. وإن وارث بيت أبيها هم أبناؤه الذكور وليس لها من الأمر شيء إلا أن يعطفوا عليها بالعيش في كنفهم إن تتخلى عن الزواج»[(13)].
إن الإسلام حسب رأي الحداد سيقطع مع ذلك الموروث التاريخي معتبراً أنه { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون }[(14)]، حسب ما تشير إليه الآية القرآنية. لكن ذلك كان شديد الوطأة على ما سماه أخلاق الجاهلية وهو ما برّر تعديله بواسطة الآية { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين }[(15)]. ويسوق لنا الحداد الأصناف الأخرى للميراث مثل ميراث الزوجين من بعضهما البعض فله منها النصف أو الربع ولها منه الربع أو الثمن. وتساوت المرأة بالرجل في الإرث عند وفاة ولدهما التارك لولد { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد }[(16)] . ويرى الحداد أن الإسلام مهما كان حكيماً في التدرج بحقوق المرأة حتى لا يبلغ بها الكمال بسرعة مخطرة إلا أن ذلك كان له كبير الأثر على المسلمين، وعلى هذه الأرضية تنشأ عادة التحبيس على الذكور فقط ولا يكون للأنثى إلا حق مؤونتها من ذلك متى كانت في بيت أبيها أو متى رجعت إليه بعد الزواج، معتبراً ذلك تملصاً من فريضة الميراث التي فرضها الإسلام للمرأة[(17)].
(3) القوامة : قوامة الرجل للمرأة متأتية من كفالة المرأة سواء في بيت أبيها أو في بيت زوجها، من قبل الرجل. وتبرير ذلك عند الحداد متأت من ضعف المرأة وتأخرها في الحياة مما استوجب كفالتها مع أحكام أخرى، وهو ما علل نقص ميراثها حسب بعض الفقهاء. إلا أن الحداد لا يرى في ضرورة ثبوت تلك المواقف قياساً على أن الإسلام نفسه قد تجاوز كثيراً من حالات نقص المرأة بالتالي تبدل أحكامه معتبراً أن «الإسلام قرر للمرأة حريتها المدنية في وجوه الاكتساب وتنمية المال بالتجارة وغيرها من التعريفات»[(18)].
لقد اعتبر الحداد أن الإسلام أقام المساواة وناشد العدالة ولكن أحكامه تميزت بالتدرج، فالمساواة بين الرجل والمرأة كانت مسألة منشودة رغم تحققها في إنسانية الاثنين وما يترتب عليها رغم التمييز بين الرجل والمرأة في الكثير من مواقع القرآن. ولكن الإسلام لا يمانع ولا يحول دون تلك المساواة كاملة إذا تحققت شروطها. ويضرب الحداد أمثلة على ذلك التدرج من أبرزها مثال العبودية: «فالإسلام دين الحرية الذي لا يعترف بالعبودية لغير الله، أبقى على رق الإنسان للإنسان يبيعه ويشتريه كالبضاعة.... وأكثر من ذلك فإن إسلام المسلم لا يحجب عنه الرق لسيده مهما تناسل هو وذريته في الإسلام... ولم يستطع الإسلام في حينه أن يقرر حكماً نهائياً غير إعلانه الرغبة في العتق»[(19)].
وفي الاتجاه نفسه الذي رسم الحداد بعض ملامحه حول موقع المرأة في الإسلام وموقفه منها كتب عبد الوهاب بوحديبة أطروحته التي ناقشها في مطلع السبعينيات من القرن العشرين بجامعة السوربون والتي نشرت لاحقاً باللغة العربية بعنوان الجنسانية في الإسلام . وفي الفصل الحامل لعنوان «المؤنث الأبدي والإسلامي» ينطلق بوحديبة من مسلمة تتمثل في أن «أولوية المذكر مسألة أساسية في الإسلام» لكن في مقابل ذلك لا يوجد اختلاف عميق بين المرأة والرجل في الإسلام، فهو مجرد اختلاف طفيف لكن هذا الاختلاف تقابله أيضا نفحة أنثوية تعبر كل لحظة النصوص الأكثر قداسة[(20)]. لقد احتل المؤنث صبغة أسطورية في الثقافة العربية الإسلامية فلم يرتق ذلك المؤنث إلى درجة النبوة، إلا أن بوحديبة ينبهنا إلى أن جميع الرجال الأنبياء ترعرعوا في عالم نسوي كان له حضور متميز في النصوص المقدسة بداية بحواء أم الجميع مروراً بكل من بلقيس ملكة سبأ وآسرة سليمان، ومريم عذراء الحبل بلا دنس التي حباها القرآن بسورتين من سوره، وزوجة لوط الرذيلة وبناتها الفاحشات، وزوجة نوح الملعونة الغريبة، وزوجة زكريا الشريفة التي فرضت الاحترام، وآسيا الفاضلة زوجة فرعون، انتهاء بزليخا التي أغوت يوسف الجميل[(21)].
كما تبرز القداسة الأنثوية في العلاقة الحميمة التي ميزت الرسول بنسائه اللواتي وصف مؤلف الإسلام والجنسانية بعضهن بقوله «بعض هؤلاء برزن وفرضن أنفسهن، خديجة سيدة المسلمين، شريفة وعاملة ونشيطة، حاضنة ودود وأم حبيبة. ولكن عائشة أيضاً الشقيرة المفضلة المحبوبة البيضاء السريرة، وزينب الساحرة ذات الحلي التي لا تضاهى، حفصة بنت عمر ورفيقته الأمينة، أم سلمة أرملة ابن عمها الشهيد الحزينة، صفية اليهودية الجميلة، والفاتنة ميمونة أخت زوجة العم عباس الجبار، خولة التي بحثت عن ملاذ ووجدته في حريم النبي، ريحانة التي ترددت كثيراً في الدخول إلى الإسلام والتي فضلت في النهاية أن تبقى خليلة غير مسلمة على أن تكون زوجة أماً للمؤمنين...»[(22)].
إلا أن الإسلام لا يبقى، حسب بوحديبة، حبيس تلك النفحة الأنثوية ذات الطابع المقدس بل يحدد حدود التمايز واضحة بين الجنسين وهذه الحدود لا تنشد التمييز وإنما مجرد التمايز والهدف من كل ذلك هو تحقيق الانسجام بين الجنسين من خلال اضطلاع الرجل بدوره كذلك وتحمل المرأة لمسؤوليتها كأنثى[(23)].
ب ـ النوع أو الجندر كمفهوم جديد
ـ الإرهاصات الأولى: لقد نشأ مفهوم النوع في أوروبا المعاصرة، إلا أن ظهوره جاء متأخراً، إذ استخدم من طرف الحركة النسوية في المملكة المتحدة في السبعينيات من القرن العشرين قبل أن يتبلور في كتاب عام 1972[(24)]. إن ظهور المفهوم متأخراً قد ساعد على مراكمة إرث من السلوكيات والأفكار التي ترتكز على التمييز ضد المرأة وعلى تفوق الرجل في المجتمعات الغربية[(25)]. أما السؤال المركزي الذي ميز فكر الأنوار الأوروبية فهو هل أن النساء أدنى (أقل درجة) من الرجال نتيجة لعوامل طبيعية أو بسبب ما تتلقينه من تربية؟ وهو سؤال يحتوي ضمناً على إقرار بدونية المرأة مقارنة بالرجل. هذه الدونية التي جسدتها الثورة الفرنسية لسنة 1789 عندما لم تمنح حقوقاً سياسية للمرأة وآثرت التعامل مع إنسان مجرد دون تخصيص للمرأة. ولعل تلك الدونية ستبرز بأكثر وضوح في «القانون المدني» الفرنسي الذي صدر في عهد نابليون بونابرت سنة 1804 والذي وضع النساء تحت الوصاية المطلقة للرجال، فالمرأة طبقاً لهذا القانون تنتقل من وصاية والدها إلى وصاية زوجها، فهي محتاجة إلى ترخيص مسبق من أحدهما حتى تمارس مهنة معينة وتدير ثروة تملكها[(26)]. إن تلك المواقف تجاه المرأة استندت إلى إرث كبير وعميق عرفته المجتمعات الغربية أعطى شرعية لتلك الدونية ومن ثمة اضطهادها. ويشير روجيه غارودي في كتابه في سبيل ارتقاء المرأة إلى أن برلمان باريس أصدر سنة 1593 قراراً يمنع النساء من تولي أية وظيفة في الدولة. لقد كانت تلك الدونية في التعامل مع النساء تجد تأييدها في النصوص الدينية المسيحية كما في اليهودية ولدى رجال الدين الذين هيمنوا هيمنة مطلقة ولفترة ليست بالقصيرة على مختلف أوجه الحياة الاجتماعية[(27)]. ولكن ذلك الموقف لم يبق حكراً على الفكر الديني وممارسات رجال الدين وإنما ميز فكرالأنوار العقلاني. جاء على لسان أوغست كونت، الفيلسوف الوضعي ومؤسس علم الاجتماع في أوروبا، ما يلي: «المرأة هي ملك نكتسبه بواسطة عقد نبرمه فهي عبارة عن منقول لأن الملكية تقتضي التسجيل، إن المرأة في النهاية ليست سواء تابع للرجل». وكتب بلزاك «إن المرأة المتزوجة هي عبارة عن عبد ولكن وجب معرفة وضعه في حالة الإعجاب»[(28)]. إن ذلك الموروث الطويل من الدونية النسوية الذي لم يقتصر على عصور الظلام الأوروبي وإنما شمل فترات الأنوار والكثير من روادها قد جعل الحقوق النسوية والمطالبة بها تتأخر بل تنعدم أحياناً في كثير من المجتمعات الأوروبية، وذلك بتأثير من الثقافة الذكورية المحافظة المتأثرة بذلك الموروث الطويل الناتج عن سيطرة الذهنية الدينية المسيحية واليهودية، وعن هيمنة فكرة التمييز التي شكلت الخلفية القوية للحملات الاستعمارية ولكنها كانت شديدة الخصوبة داخل المجتمعات الأوروبية نفسها تجاه المرأة. ولم تبدأ تلك الفكرة في التراجع إلا مع مطلع الخمسين سنة الثانية من القرن العشرين أي بعد نهاية الحرب الثانية التي حصدت أرواح ملايين البشر دون تمييز بين الذكر والأنثى.
ففي سنة 1946 تشكلت في داخل لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لجنة معاينة أوضاع النساء، هدفها معالجة المشاكل الخصوصية للمرأة من أجل وضع مبادئ المساواة مع الرجل. وقد حددت تلك اللجنة أربعة مجالات تشتغل فيها عقلية التمييز في العالم الغربي (الحر)، هي على التوالي:
ـ الحقوق السياسية وإمكانية ممارستها من طرف المرأة. ـ التساوي أمام القوانين كأفراد وكأعضاء في العائلة. ـ حق النساء والفتيات في التعليم وفي التكوين عامة والتكوين التقني. ـ حق النساء في العمل.
وقد تمت الاستجابة لتلك المطالب فتضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في فصله الثاني الذي أعلن سنة 1948 «لأي شخص الاستفادة من جميع الحقوق والحريات... بدون تمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة...» وتلا ذلك إعلان المساواة في حق العمل ورفض أي تمييز على ذلك الأساس من قبل المكتب الدولي للعمل وذلك في سنة 1950. ومع مطلع السبعينيات، أي في سنة 1973، صوت برلمان الولايات المتحدة الأمريكية لصالح إجبار «الوكالة الدولية للتنمية الأمريكية» على إدماج النساء في كافة مشاريعها التنموية. وكان ذلك الإجراء بمثابة النتيجة المباشرة لنضالات الحركة النسوية الأمريكية في الستينيات من القرن العشرين. وفي سنة 1974، وهي السنة التالية لذلك الإجراء، ستنتهي «الندوة العالمية حول السكان» إلى أهمية الربط بين التنظيم العائلي ووضع المرأة، كما ستتوصل «الندوة العالمية حول الغذاء» إلى أن تحسن الوضع الغذائي العالمي لن يتحسن دون دمج المرأة في سياسات التنمية[(29)].
وتعتبر سنة 1975 سنة المرأة بامتياز، فهي السنة المعلنة «السنة الدولية للمرأة». إن حصيلة الدراسات المعتمدة في تقييم وضع المرأة عالمياً (18 دولة) قد انتهت إلى أن ذلك الوضع لا يزال غير سوي. كما انعقدت بالتوازي قمة أخرى ضمت منظمات غير حكومية وفاعلي المجتمع المدني. والغاية من كل ذلك هو إجبار الحكومات على جعل حقوق النساء وتغيير وضعهن ضمن أولوياتها.
وفي سنة 1979 تحقق للمرأة إبرام اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد النساء التي تحولت سنة 1981 إلى اتفاقية دولية مع تشكيل هيئة لمراقبة تطبيق الدول لتلك الاتفاقية. وبعد عشر سنوات على ذلك التاريخ أي في سنة 1991 انخرط في تلك الاتفاقية 102 دولة، ولم يتبق من الدول التي لم تعلن انخراطها سنة 1999 إلا 28 من بين 181 دولة[(30)].
لا شك أن تطور حقوق النساء في العام الغربي في أوروبا وأمريكا الشمالية وكذلك في مختلف بلدان العالم، كل على حدة، يختلف من بلد إلى بلد ومن مجتمع إلى آخر. وإن سلم القياس يختلف بين تلك المجتمعات والبلدان بحسب تأثير الحريات التي تحققت وبحسب التطور الذي شهده ذلك المجتمع وبحسب المشاركة ودور الحركات النسوية في كل ذلك. إلا أن القاسم المشترك هو ما قمنا باستعراضه والذي اعتبرناه بمثابة الإرهاصات التي مهدت لبروز فكرة النوع وهي فكرة جديدة موطنها المجتمعات الغربية.
ج ـ الجندر أو النوع ـ المفهوم وتطوره
إن ميزة مفهوم النوع الذي ظهر في مطلع السبعينيات من القرن العشرين كما أسلفنا هو أنه مختلف عن مفهوم الجنس الذي ينطلق أساساً من الفروقات البيولوجية. إن مفهوم النوع الاجتماعي، وعلى عكس مفهوم الجنس، يحيل إلى ما هو ثقافي وليس إلى ما هو طبيعي خام. أي أن هنالك معنى يعطيه المجتمع للذكر والأنثى. فحوى ذلك أن كل ما يفعله الرجال والنساء وكيفيات وجودهم وتفكيرهم وسلوكهم، ما عدا وظائفهم الجنسية والبيولوجية، هي من صياغة المجتمع وثقافته ومن ثمة فهي قابلة للتغيير بحسب الظرفية التاريخية لذلك المجتمع[(31)]. وتنطلق فكرة النوع الاجتماعي من مسلَّمة هي أن الأشخاص يولدون «ذكوراً» أو «إناثاً» لكن المجتمع يعلمهم كيف يكونون أولاداً ثم رجالاً أو نساء. إن تلك العملية التعليمية تتولاها مؤسسات التنشئة المختلفة من أسرة ومدرسة وفضاء عمل وفضاء تدين... إلخ، ومن ثم فإن تلك المؤسسات تكسب الأفراد أو تعودهم على القيام بما يتماشى مع جنسهم. إلا أن الثقافة الكلية للمجتمع تختلف من مجتمع إلى آخر وهذا بدوره متغير هام في تحديد أي أفكار وأي سلوكيات شائعة لفائدة هذا الجنس أو ذاك. صحيح أن المجتمعات متشابهة في طبيعتها المحافظة تجاه المرأة بفعل تأثير عوامل عدة لعل أبرزها العامل الديني. لكن بالمقابل فإن ما أكسبه المجتمع العربي الإسلامي من سلطة للحجاب على المرأة أكسب في مقابله بعض المجتمعات الأفريقية أو حتى الأوروبية المعاصرة سلطة للعري عليها، أو أن كلاً من الحجب والعري قد شكل نموذجاً يعطي الجنس ثقافته فتكون المرأة محجبة أو خليعة بحسب المجتمع وتقاليده ويكون الرجل ملتحياً أو غير ذلك.
إن الفرق بين الجنس والجندر هو كون الأول معطى طبيعياً، وهو تعبير عن وضع بيولوجي، فإما أن يكون الإنسان ذكراً وإما أن يكون أنثى، وهي خصائص لا يتميز بها الجنس البشري وإنما تشترك معه فيها كثير من الكائنات الأخرى. أما الثاني فهو من خصائص البشر وحدهم، وذلك بسبب الأدوار التي يتقمصها كل جنس على حدة. إن المعنى الاجتماعي متأت من التنشئة الاجتماعية والثقافية. ولكن اللافت للانتباه هو قدم ذلك التصنيف؛ ففي المجتمعات كلها، قديمها وحديثها، تختلف الأدوار بحسب ما يمنحه المجتمع لكل جنس وبالتالي النوع. فما هي الأسباب التي جعلت من فكرة النوع الاجتماعي تبرز متأخرة (بداية السبعينيات من القرن العشرين) كآلية في التحليل والفهم ودراسة واقع المرأة؟
هنا تبرز مقولة إدماج النوع الاجتماعي؛ والإدماج في نهاية الأمر هو نوع من المطالبة بالمساواة بين الجنسين. وبما أن مقولة النوع تأتى ضمن البراديغمات النسوية الجديدة التي تهدف إلى إعطاء حظوظ للمرأة أكثر والعمل على النهوض بها نظراً للإرث الطويل من الدونية الذي أنتجته المجتمعات البطرياركية ذات الطبيعة الذكورية. وذلك على الرغم مما يشاع في فلسفة النوع الاجتماعي من أن هذه الفلسفة لا تستهدف مجرد المساواة بين الرجال والنساء وإنما النهوض بالمجتمع برجاله ونسائه. لكن ذلك النهوض يقتضي ضرورة إعادة تشكيل المجتمع وثقافته حتى يتيح تساوي الفرص أمام الجميع نساء كانوا أم رجالاً، وبالتالي يمنحهم الامتيازات نفسها. لكن ذلك لن يكون ممكناً في مجتمع من المجتمعات إلا إذا سلمنا بأن «الجنس» لا يشكل بأي حال من الأحوال بضاعة تباع وتشترى وبالتالي امتيازاً لمن يملكه وله القدرة على استخدامه أكان رجلاً أم امرأة. فهل وصلت المجتمعات البشرية المعاصرة إلى تلك المرحلة حتى نتحدث عن النوع الاجتماعي بدل الجنس الطبيعي؟
ثانياً: واقع الجنوسة
1 ـ تمثلات الجنوسة
تعتبر تمثلات الذكورة والأنوثة من قبل أفراد المجتمع، وما ينتج عن ذلك من سلوكيات ومواقف، مؤشراً هاماً في معرفة الأسس التي تنبني عليها تلك المواقف وما ينجر عنها من علاقات. بمعنى آخر فإن استنطاق المخيال الشعبي بطريقة تلقائية غير مسبوقة الشروط سيحيلنا إلى طبيعة الموقف السائد من انقسام المجتمع إلى جنسين مختلفين وما ينبني على ذلك من أوضاع اجتماعية لكليهما وما يلعبه كل منهما من أدوار اجتماعية. وهل أن اختلاف تلك الأدوار محكوم بما هو بيولوجي أم نتاج لما هو ثقافي واجتماعي؟ جاءت الإجابة في دراسة منشورة حديثاً أعدها مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث «كوثر»، أجريت في سبعة بلدان عربية هي البحرين وتونس والجزائر ولبنان ومصر والمغرب واليمن. إن القاسم المشترك في الإجابة عن سؤال ما المقصود بالفرق بين الجنسين؟ هو أن المرأة امرأة والرجل رجل. إن تلك الإجابة بسيطة لكنها ليست ساذجة، خاصة عندما تكون مدعومة بالقول التالي «الولاد بيبقوا رجاله والبنات ستات. الستات بتحبل وتخلف وتخلي بالها من الولاد والرجاله تشتغل وتصرف على البيت». إن تلك القولة الوليدة في بيئة مصرية حسب ما تعكسه اللهجة تسندها مواقف أخرى تصف الرجل بالخشونة والرجولة والقوة والمرأة بالجمال والدماثة والعاطفة، ويترتب على ذلك حماية الجنس الذكوري للجنس الأنثوي لأن الأول «هو الأقوى والأقدر على تحمل الصعاب والثاني يمثل الجمال والنعومة واللطافة»[(32)]. ويتكرر الموقف نفسه لدى مستجوبين من بلدان عربية أخرى يرون أن الرجل يتميز بالجلافة والغلظة، أما المرأة فبالرقة والضعف والعاطفة، وهي أضعف من الرجل ولا تستطيع أن تحل محله. وأن تلك العاطفة تقف وراء انتشار القناعة بأن المسؤوليات الأسرية هي من مهام المرأة وأن العمل والكسب هما من مهام الرجل. وتلك الوظيفة هي من واجبات الرجل أما المرأة فغير مجبرة على ذلك. وفي ما يتعلق بحرية كل جنس، فإن الموقف الغالب يميل إلى أن «الأولاد والبنات لا يختلفون في الجسم والشكل فقط ولكن يختلفون في ما هو مسموح لكل منهم أن يقوم به، فالأولاد لديهم قدر أكبر من الحرية في حين أن البنات محرومات تماماً منها خصوصاً في الريف»[(33)].
إن اللافت للانتباه في ظلّ ذلك الاتجاه الميال إلى تغليب توزيع الأدوار استناداً إلى ما هو بيولوجي وليس إلى ما هو ثقافي هو انعكاس ذلك الرأي على حقوق المرأة. إذ إن الرؤية الحاصلة لدى غالبية الفتيات المستجوبات في البلدان العربية التي شملتها الدراسة السالفة الذكر تنحو تجاه اعتبار وضع المرأة غير مرض مع محاولة تبرير ذلك بالنسبة إلى البعض. ويمكن إجمال تلك المواقف في النقاط التالية:
ـ اعتراض على وضع المرأة في المجتمع ودورها وعدم رضى عنهما يكتملان بالدعوة إلى المساواة في الحقوق ورفض أي شكل من أشكال التمييز؛
ـ عدم الرضى عن وضع المرأة الحالي والاعتراف بأن المرأة مغبونة في المجتمع بشكل عام ولكن دون التعبير بالضرورة عن تبني مفاهيم صريحة تتعلق بالمساواة؛
ـ وجود آراء وسطية ترتكز على مقارنة أوضاع المرأة بين الأمس واليوم أو بين مجتمع وآخر للاستنتاج أن هناك تحسناً ما، ولكن بالمقابل توجد خطوط حمر يستحسن عدم تجاوزها؛
ـ اعتبار وضع المرأة طبيعياً أو عادياً قياساً بالعادات والتقاليد، وهي نزعة تعمل على الإقرار بالأمر الواقع؛
ـ اعتبار أن وضع المرأة هو ما يجب أن يكون عليه لاعتبارات مفاهيمية دينية أغلب الأحيان، حيث يمثل حصر دورها في الواجبات الأسرية تجاه الزوج والأولاد الحالة المثالية، وخلاف ذلك يكون خروجاً على الطريق القويم. وهي نزعة إقرارية كذلك، لكنها تستمد شرعيتها من تصور ديني من الصعب وضعه موضع المساءلة[(34)].
وبالرغم من أن الموقف من الدين تتجاذبه وجهتا نظر في المجتمع العربي الإسلامي، الأولى تدفع به إلى أن يكون محض علاقة بين الإنسان وربه لا تنجر عنها التزامات تجاه الآخرين، والثانية تنظر إليه كناظم عام لحياة الناس الخاصة والعامة وكذلك باعتباره قانوناً إلهياً يقدم جواباً تفصيلياً لكل ما هو حلال وحرام، ولكل ما هو صواب وخطأ، فإن الأمر المهم هو أن المرجعية الدينية هي التي ستحكم في النهاية الموقف من جميع أنواع الحريات، وخاصة تلك المتعلقة بالمرأة. وتكفي الإشارة هنا إلى أن الرجل المتحرر جنسياً أو المقيم لعلاقات جنسية مع فتيات على وجه غير قانوني لا يقبل أن تكون زوجته من تلك الشريحة بل يذهب أبعد من ذلك عندما يشترط أن تكون متدينة بشكل أو آخر، والأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة إلى المرأة التي قد تروج لنفسها صورة اجتماعية لا تخرج عما يرسمه المجتمع من محافظة وتدين، ولا ترى في الوقت نفسه مانعاً من إقامة علاقات سرية غير شرعية ترى فيها، كما الرجل، سلوكيات مؤقتة ستستوي بحسب المقاييس الدينية عندما يحين الأوان.
2 ـ التشريعات والقوانين
تتمثل تلك التشريعات بالأساس في قوانين الأسرة ومجلات الأحوال الشخصية. إن موضوع الجنوسة كما تعاملت معه تلك التشريعات يحيل بصفة رئيسية إلى موضوع تعدد الزوجات والتعامل معه كإشكال تاريخي عاشه المجتمع العربي الإسلامي ولا يزال سائداً في أغلب أقطاره، هذا إضافة إلى بعض القضايا ذات الصلة مثل الطلاق العرفي ووجوب طاعة الزوجة للزوج مقابل واجب الإنفاق عليها... إلخ.
لقد عرف المجتمع العربي الكثير من التشريعات الجديدة التي هي في واقع الأمر استجابة لنضالات وتضحيات بعض رموز الإصلاح مثل قاسم أمين الذي نشر كتابين عن المرأة الأول هو تحرير المرأة والثاني هو المرأة الجديدة ، والطاهر الحداد صاحب كتاب إمرأتنا في الشريعة والمجتمع الذي وضعه سنة 1920. لقد أثارت كتابات أمين حفيظة طلعت باشا حرب في مصر، الذي اعتبر أن أي إصلاح يسمح للنساء المصريات بالعيش على شاكلة النساء الأوروبيات من شأنه أن يعرضهن لمخاطر جمة نظراً إلى أنهنّ غير متهيئات لذلك[(35)]. كما أثارت كتابات الحداد احتجاج شيوخ جامع الزيتونة الأعظم بتونس لا سيما الشيخ ابن مراد الذي كتب ينتقد ذلك العمل قبل أن يقرأه في ما يعرف بـ «هذا على الحساب قبل أن أقرأ الكتاب» ثم في عمل ثان بعنوان «الحداد على إمرأة الحدّاد».
إن التشريعات المتعلقة بالأحوال الشخصية تصطدم بإرث فقهي إسلامي ليس تغييره سهلاً، فإذا ما استثنينا مجلة الأحوال الشخصية في تونس الصادرة في 13 آب/أغسطس 1956 والتي اختار واضعوها البداية المبكرة نسبياً مقارنة ببقية الأقطار العربية في التخلص من ذلك الإرث من خلال منع تعدد الزوجات ومن ثم التأسيس للمساواة بين الزوجين، ولحفظ ذلك الاختيار وضع المشرع قوانين تعاقب بالسجن من يكرس التعدد. وفي الآن نفسه مكنت تلك المجلة المرأة من حق اختيار الزوج، وهي بذلك تضع حداً لتقليد عرفته الأسرة في تونس طيلة حقب طويلة وهو الزواج ببنت العم وزواج الأقارب وحق الجبر الذي ينتج عن فسخ ذلك العقد المعنوي. ولعل التحدي الأكبر من وراء حق الاختيار موجه إلى الشرع الإسلامي الذي يمنع زواج المسلمات من غير المسلمين إلا إذا أعلنوا دخولهم في الإسلام. لقد مكنت تلك الاختيارات الرئيسية من إجراء العديد من التحويرات على مجلة الأحوال الشخصية لعل أبرزها تحوير سنة 1993، الذي أقر المسؤولية المشتركة في الحياة الزوجية وفي تربية الأبناء. وقد ترتب على تلك التحويرات إصدار قوانين عديدة منها ما يتعلق باختيار الملكية المشتركة وإقرار ذلك في عقد الزواج، ومنها ما يتعلق بإنشاء صندوق للنفقة يكفل حصول المطلقة على معلوم النفقة في حالة استحالة أدائها من قبل الزوج، ومنها ما يتعلق بمنح الأبناء حق الجنسية إذا كان الزوج أجنبياً... إلخ[(36)].
وبقطع النظر عما أثارته تلك المجلة ولا تزال تثيره من جدل حول مطابقة تلك المضامين للإسلام وردود الفعل المترتبة على ذلك في مستوى حركتي الأفكار والسياسة، فإنه من الضروري الإقرار بأن الحركات النسوية وبعض النخب الليبرالية والتحديثية تتعامل مع تلك التجربة باعتبارها نموذجاً في تحديث التشريعات المتعلقة بالمرأة والحقوق التي تطمح إلى تحقيقها. ففي الجزائر المجاورة لتونس لم يشهد قانون الأسرة تغيراً يذكر، فباستثناء الأمرين الصادرين في ظل الإدارة الاستعمارية الفرنسية سنة 1959 واللذين أقرّا الرضى المتبادل بين الزوجين وألغيا الوصاية في مجال الزواج، وهو ما اعتبرته جبهة التحرير الجزائرية اعتداء على الديانة والجنسية بالرغم من اعتمادهما حتى سنة 1975 من قبل موظفي وقضاة الحالة المدنية، فإن القانون المدني الجزائري الصادر سنة 1975 ينص على أنه في ظلّ غياب حكم قانوني يحق للقاضي الاستناد إلى مبادئ القانون الإسلامي، وفي الآن نفسه ظلّ قضاة المحكمة العليا الجزائرية يطبقون على النزاعات المتصلة بالأحوال الشخصية مؤلفين في الفقه المالكي هما المختصر للخليل و التحفة لابن عاصم. ولم تعرف الجزائر تغييرات تذكر في هذا الاتجاه بالرغم من المقترحات ومشاريع القوانين التي بقيت حبيسة رفوف المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) الجزائري، وخصوصاً في ظل تأثير التيارات الإسلامية المتنامية في الجزائر والتي ترفض بشدة تقييد تعدد الزوجات بموافقة القاضي[(37)].
بالتوازي مع ذلك عرفت مدونة الأسرة المغربية الصادرة ما بين سنتي 1957 و1958 تعديلات عديدة أبرزها في سنتي 1993 و2004. وقد مثلت موضوع حوار وجدل شاركت فيه النخب الفكرية والسياسية في المغرب خاصة في ظل حرية المشاركة والتحولات في اتجاه الديمقراطية الليبرالية التي عاشتها المغرب في السنوات الأخيرة، وهو ما ساعد على تنامي اتجاهين في وسط تلك النخب كان لهما انعكاس على البرلمان والأحزاب السياسية المغربية؛ اتجاه شديد الليبرالية يدعو إلى التحرر من الموروث الإسلامي الذي حكم قانون الأحوال الشخصية طيلة القرون الماضية، ويطالب بسن قوانين تتعلق بالمرأة والأسرة على الطريقة الغربية، واتجاه محكوم بأيديولوجيا الحركات الإسلامية لا يرى في غير الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع. ومن ثمار ذلك الجدل الندوة الفكرية التي أقيمت بجامعة محمد الخامس سنة 2003 وصدرت في مؤلف يحمل عنوان «ندوة مستجدات مدونة الأسرة». ولكن ذلك الجدل حسمه الملك محمد السادس نفسه عندما برر التعديلات التي شهدتها مدونة الأسرة بدعوته إلى «الاجتهاد الذي يجعل الإسلام ديناً مستجيباً لكل زمان ومكان قصد وضع قانون عصري للأسرة»[(38)]. إن مجمل تلك التعديلات يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
ـ تغير سن الزواج من الخامسة عشرة إلى الثامنة عشرة بالنسبة إلى الرجل والمرأة على حد السواء؛ ـ للمرأة الحق في أن تكون أو لا تكون مرفقة بولي أمرها عند عقد الزواج، فالوصاية حق للمرأة التي لها حق الاختيار، وهي تنفذه حسب رغبتها الذاتية؛ ـ يعتبر الطلاق فكّاً لرابطة الزواج يقوم به الزوج أو الزوجة، وهو يخضع لحكم المحكمة؛ ـ يخضع تعدد الزوجات لإذن من القاضي؛ ـ للأحفاد من البنت أن يرثوا من جدهم كما يرث الأحفاد من الإبن[(39)].
ولا يختلف الأمر كثيراً في تجربتي الأردن ومصر في ما يتعلق بقوانين الأسرة والأحوال الشخصية، فمازالت التجربة الأردنية تدور في فلك المطالبة بوضع ضوابط شرعية لتعدد الزوجات مثل العدل والمساواة بين الزوجات، وأن يعقد على الزوجة الثانية بإذن من القاضي الذي عليه أن يشترط القدرة على الكفالة وإبلاغ الثانية بأن الرجل متزوج سابقاً، وعدم ربط الطلاق بالتنازل عن الأولاد...إلخ[(40)]. أما الجدل الدائر حول وضع المرأة المصرية فلا يزال يدور حول ما اعتبره بعض الدارسين مجموعة من المكاسب مثل التعديلات التي أجريت على قانون الخلع الذي بات يمكّن الزوجة من رفع قضية خلع على زوجها إذا فشل التراضي، واعتبر ذلك مكسباً رغم حرمان المرأة من جميع حقوقها المالية. ويضاف إلى ذلك مكاسب أخرى مثل الطلاق من زواج عرفي، وسفر الزوجة دون الحصول على إذن من زوجها، وإنشاء محكمة للأسرة وكذلك إلغاء المادة الخاصة بالاغتصاب، وهي المادة التي كانت تنص على أنه «إذا تزوج الخاطف بمن خطفها زواجاً شرعياً لا يحكم بعقوبة ما» وهو ما اعتبرته بعض الدراسات اغتصابا للمرأة مرتين، الأولى عند اغتصابها مادياً والثانية عند إجبارها على الزواج من صاحب الجريمة للحفاظ على شرف العائلة[(41)].
3 ـ العنف ضد النساء
يقع تعريف العنف ضد النساء بأنه «أي عمل عنيف عدائي أو مؤذ أو مهين تدفع إليه عصبية الجنس يرتكب بأي وسيلة كانت بحق أية امرأة لكونها امرأة ويسبب لها أذى نفسياً أو بدنياً أو جنسياً أو معاناة بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة»[(42)].
يحتل العنف ضد النساء مكاناً متميزاً في الثقافة الجنوسية العربية حتى أن البعض يجد تفسيراً لكثرة انتشاره في المرجعية الدينية الغالبة في الوطن العربي، وهي المرجعية الإسلامية. ولكن هذا الرأي يكون قاصراً عندما نتعرف إلى حجم هذه الظاهرة في المجتمعات الغربية والشرقية على حد سواء، ويكفي أن نشير إلى أن بعض الأرقام الصادرة عن البنك الدولي تشير إلى أن ما لا يقل عن20 في المئة من النساء في مختلف أنحاء العالم يتعرضن للإساءة الجسدية والاعتداء الجنسي. وفي الولايات المتحدة تتعرض امرأة واحدة للضرب المبرح عند مرور كل 15 ثانية، وتتعرض 700 ألف امرأة للاغتصاب كل عام، وتشكل النساء 95في المئة من ضحايا العنف في فرنسا...إلخ. مما جعل العنف ضد النساء من قضايا حقوق الإنسان فيأخذ مكانه ضمن مراكز اهتمام منظمة الأمم المتحدة التي خصصت في سنة 1999 يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر يوماً للقضاء على العنف ضد المرأة[(43)].
ثالثاً: إعادة تشكيل خطاب الجنوسة أو بناء فكرة النوع
1 ـ نسوية أم نوع
النسوية بصورة عامة هي حركة سياسية ترمي إلى تحقيق أهداف اجتماعية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحقوق المرأة وإثبات دورها، وقد نتج عنها بروز فكر نسوي يعمل على تحليل واقع النساء الخصوصي. لكن تلك الحركة التي ظهرت بالأساس في المجتمعات الغربية مع مطلع القرن التاسع عشر بسبب ما تعانيه المرأة من دونية واضطهاد سرعان ما تحولت إلى «فلسفة نسوية» تبارى المفكرون والباحثون وكذلك الفلاسفة الغربيون في مباشرتها فكراً ومجادلتها سياسة. فضمت تلك النسوية بذلك «كل جهد عملي أو نظري لاستجواب أو تحدي أو مراجعة أو نقد أو تعديل النظام البطرياركي ـ الأبوي السائد طوال تاريخ الحضارة الغربية»[(44)].
لقد مرت الحركة النسوية في أوروبا بعدة مراحل ارتباطاً بطبيعة التنظيرات والموجات الفكرية السائدة فنشأت كل من النسوية الليبرالية والنسوية الاشتراكية لاسيما المتأثرة بالفكر الماركسي منها، ولكن التجربة اللافتة للانتباه هي تجربة النسوية الراديكالية. إن هذا الصنف من النسوية بدأ يتبلور في سبعينيات القرن العشرين وسمته الرئيسية عدم إرجاع دونية المرأة إلى طبيعة المشاكل الاجتماعية وإلى هيمنة الرجل المطلقة فقط وإنما إلى عوامل أخرى من أبرزها وجود الأسرة التي لابد، حسب هذا الاتجاه، من تحطيم قداستها لأنها لا تنتج المساواة ولأنها المؤسسة الكفيلة بقهر المرأة. «إن وضعية الأسرة هي ثقافية وليست طبيعية ووظيفة الأيديولوجيا الذكورية السائدة أن تقدمها على أنها طبيعية» على تعبير تنظيرات النسوية الراديكالية. إن تلك التنظيرات تذهب أبعد من ذلك في تجسيم راديكاليتها حين تعتبر أن عبودية المرأة هي الإنجاب لا سواه، ولا بد من إيجاد وضع تتحرر فيه المرأة من الحمل والإنجاب وذلك باعتماد تقنيات الإنجاب الحديثة. لقد تحولت تلك الأنثوية إلى نوع من التطرف يدعو إلى حق المرأة المطلق في جسدها ضمن مركزية أنثوية تقوم على أنقاض المركزية الذكورية وتنتهي إلى الدفاع عن حق المرأة في السحاق وعن الجنسية المثلية ومن ثم التأسيس لنمط جديد من الأسرة هي الأسرة السحاقية والأسرة اللواطية[(45)]! تعود جذور الظاهرة النسوية العربية إلى الفترة الاستعمارية، إذ استخدمت من قبل الإدارتين الاستعماريتين التقليديتين البريطانية والفرنسية، وتستخدم حاضراً من قبل الإدارة الأمريكية كحجة للغزو والتدخل. سنعتمد للتدليل على صحة ذلك القول على مثالين، الأول من الماضي، وتحديداً من القرن التاسع عشر حين انشغل اللورد كرومر، حاكم مصر الإنكليزي، بما وصفه آنذاك بتحرير المرأة المصرية من الغبن والتخلف والظلم والظلام، وهو ما استوجب عليه التدخل في القوانين لتغيير العادات والأنظمة التعليمية. لكن ذلك لا يعدو أن يكون كلمة حق أريد بها باطل لأن ما يعرفه المؤرخون عن الرجل هو عداؤه ومحاربته الشديدة للحركة النسائية في المملكة المتحدة، ناهيك عن المرأة المصرية[(46)].
أما المثال الثاني فهو من الواقع المعيش، وتحديداً من مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي اقترحته الولايات المتحدة الأمريكية على ما يعرف بمجموعة الثماني في قمتها المنعقدة في حزيران/يونيو 2004. لقد تناول ذلك المشروع وضع المرأة في مستويات عدة ولكنه أفرد لمشاركتها السياسية فقرة خاصة جاء فيها ما يلي: «تشغل النساء 3.5 بالمئة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية ومن أجل زيادة مشاركة النساء في الحياة السياسية يمكن لمجموعة الثماني أن ترعى معاهد تدريب خاصة بالنساء تقدم تدريباً على القيادة للنساء المهتمات بالمشاركة في التنافس الانتخابي على مواقع في الحكم أو إنشاء أو تشغيل منظمة غير حكومية. ويمكن لهذه المعاهد أن تجمع بين قيادات من بلدان مجموعة الثماني والمنطقة»[(47)]. إلا أن ذلك التوجه فقد مصداقيته أمام «اختبار العراق». لقد بين ذلك الاختبار الذي انطلق يوم 9 نيسان/أبريل 2003 تاريخ احتلال القوات الأمريكية للعراق وسقوط بغداد أن المرأة العراقية غير جديرة بأن تكون كائناً آدمياً ناهيك عن حقوقها كامرأة، فهي عرضة لجميع أشكال العنف والاعتداء اليومي. وقد تمركزت أشكال الاعتداء الأمريكي على النساء العراقيات حول الاغتصاب، ولم يقتصر ذلك على الأماكن الخاصة مثل البيوت المنتهكة حرماتها والسجون وإنما شمل ذلك الأماكن المقدسة حيث يشار إلى 149 حالة اغتصاب داخل مساجد الفلوجة وحدها[(48)].
ومشهد الاغتصاب يتكرر بصفة متواترة حتى بات أمراً اعتيادياً في السجون العراقية كما في القنوات الفضائية. يقول مدير مركز حقوق الإنسان العراقي السالف الذكر: «الآن تحول الميناء الجميل ـ يقصد ميناء أم قصر ـ المطل على الخليج إلى سجن. كانوا يتركون السجناء من دون استحمام طوال شهر من طقس صيفي حار لا يطاق وفي ظروف شديدة القسوة. بعد ذلك يأمرون السجناء رجالاً ونساء بالاستحمام الجماعي. في هذه الحالة يصبح مجتمع الاغتصاب النموذجي مكتملاً من حيث معماريته الاجتماعية، فهو ينقل الاختلاط بين النساء والرجال إلى مرحلة العري البدائي الكامل، وينجز من دون تردد العودة إلى العرية الأولى...»[(49)].
إن المثال الأكثر تعبيراً عن رسالة الرجل الأبيض الأمريكي «التمدينية» ـ الذي يستبطن كل مقولات الحركة النسوية الغربية وايديولوجياتها ـ تجاه نساء العراق اللواتي يمثلن مجتمع الحريم الشرقي هو ما عبرت عنه سجينة عراقية على جذاذة تسربت من داخل سجن أبو غريب السيىء الصيت ولقيت رواجاً غير منقطع النظير. جاء في تلك الجذاذة ما يلي: «... رسالة من أختكم نور من سجن اليهود في أبو غريب. من أين أبدأ أيها الشرفاء؟ يعجز القلم عن الوصف، أأصف لكم الجوع وأنتم تأكلون أم أصف لكم العطش وأنتم تشربون أم أصف لكم السهر وأنتم نائمون؟ أم أصف لكم عراءنا وأنتم تلبسون؟ يا إخوتي عندما نرى قلاباتكم وسياراتكم تنقل مواد البناء وعندما نقرأ هوية السيارة فإذا هي تحمل اسم أهلي ومحافظتي فأقول راجعة إلى نفسي إن أهلي وإخوتي قد باعوا أعراضهم بمالهم. الدولار الأصفر ولكن أتذكر الشرفاء وأبكي على حالي. ماذا أصف لكم مما نلاقي من العذاب والضرب المبرح حتى نحفظ لكم العرض ونصون الأمانة؟ فأين أنتم يا علماء الدين؟ هل نسيتم الرسالة التي جاء بها الصادق الصدوق أبو القاسم محمد ((ص))؟ إن نسيتموها بسبب الدينار الذي تتقاضونه من اليهود فسوف نوقفكم أمام الواحد الأحد، فنحن أمانة في أعناقكم.. سألتكم بالله ومن تقع بيده هذه الرسالة من العلماء أصحاب المنابر الشرفاء الذين { يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار }[(50)] ، وهذه أمانة يجب أن تنقلوها على منابركم أيها الشرفاء... تذكروا يوم كنتم تنظرون إلى إخوانكم في فلسطين...إننا نعاني ما نعاني عندما ننظر إلى اليهود وهم يريقون الخمر أمامنا ويهتكون أعراضكم كالحيوانات المفترسة ويسرحون ويمرحون مع اللاتي هانت عليهن أعراضهن... أيها الشرفاء كم مرة تموتون؟ أعراضنا هتكت وملابسنا تمزقت وبطوننا جاعت ودموعنا جارية ولكن من ينصرنا؟ لا أريد أن أودعكم.. وقبل أن أودعكم أقول لكم اتقوا الله في أرحامكم فقد امتلأت بطوننا من أولاد الزنى. وقبل الوداع أقول للشرفاء إذا كنتم تمتلكون الأسلحة فاقتلونا معهم داخل السجون أسألكم الله... أسألكم الله»[(51)]. إن هذه الرسالة تحيل بدون شك على أن المرأة العراقية التي من المفترض أن تكون مكوناً رئيسياً من مكونات الاختبار في ورشة مشروع الشرق الأوسط الكبير الحامل لعلامة «صنع في أمريكا» قد عرفت تلك الصناعة على حقيقتها ولا أظنها قابلة لحلقة أخرى من حلقات تلك التجربة المرةّ مهما كانت اليافطة التي ترفعها «نسوية ليبرالية أو اشتراكية أو راديكالية» أو هكذا نسوية بدون صفة.
لا شك في أن مقولات الحركات النسوية العربية ما زالت تتأثر بفلسفات الحركات النسوية في المجتمعات الغربية رغم ما يمكن أن نسميه بالمفارقة الأمريكية تجاه تلك المسألة بين خطاب «عقلاني» و«تنويري» لا يقتصر على موضوع المرأة وقضاياها، وبين رغبة شديدة في الهيمنة على الآخر إلى درجة تحطيمه بالاعتداء على أجمل ما يملك، ولا نقصد بذلك الشرف إذ لا وجود له إذا انتهك شرف المجتمع، وإنما نقصد الجسد الذي منحته الشرائع كلها، وضعية كانت أم سماوية، حرمته وقدسيته. فإن الكثير من النسويات العربية لا تزال تبشر بتلك الفلسفات بل تضعها في مرتبة الموروث الديني والحضاري لمجتمع بأكمله. سنعتمد على مثالين من تجربة الحركة النسوية التونسية ممثلة في الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وجمعية النساء التونسيات من أجل البحث والتنمية. الأولى أصدرت كتاباً من 55 صفحة احتفالاً بعشرية اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء 1979 ـ 1989، عنوانه من أجل المساواة بين الجنسين وإلغاء كل مظاهر التمييز ضد النساء . نشر الكتاب سنة 1991، وهو يحوي مجموعة من المقالات بالإضافة إلى الاتفاقية[(52)]. ما يشد الانتباه هو المناقشة المستفيضة ورفض التحفظات التي أبدتها الدولة التونسية تجاه بعض بنود تلك الاتفاقية رغم مصادقتها عليها سنة 1985. ويتمثل ذلك التحفظ في ما يلي: «لا تتخذ في خصوص الاتفاقية أي قرار إداري أو قانوني من شأنه أن يتعارض مع ما أقره الفصل الأول من الدستور القائل (تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها) وتعتبر نفسها حلاً من الإجراءات التي تتعارض مع مجلة الأحوال الشخصية وقانون الجنسية»[(53)].
لقد اعتبرت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات أن تونس بتلك التحفظات تنضم إلى صف بقية الدول العربية الإسلامية لتحرم النساء من حقوقهن. وفي الإجابة على تساؤلات ما هي الدوافع التي تتوارى خلف هذا الموقف؟ ولماذا ترفع راية الذاتية الثقافية كلما تعلق الأمر بالنساء وحقوقهن؟ ومن يحكم على المرأة باسم التقليد أن تنحصر في وضعية دونية وأن تكون بمعزل عن مواكبة الحداثة؟ وهل يمكن لهذا المسعى أن يكون ناجعاً؟ تجيب الجمعية بأن الخصوصيات الثقافية لا يمكنها أن تنقطع عن الفكر الإنساني أين ما كان؛ فالإنسان هو الإنسان وحقوقه لا تتغير أينما وجد. من هذا المنطلق تعتبر الجمعية أن التحفظات التي أبدتها الدولة التونسية بتكريس التمييز بين النساء والرجال وخصوصاً في نطاق العائلة مناقضة لمبدأ عدم التمييز بين الجنسين[(54)]. إن هذا الموقف يضع في الدرجة الأولى التشريعات العالمية المنبثقة عن الأمم المتحدة وغيرها ويعطيها الأولوية دون اعتبار للخصوصية مهما كانت مضامينها متولدة من التراث مثلما هو الأمر بالنسبة إلى التحفظات المشار إليها أو نتيجة القوة المفرطة إذا تعلق بموقف الولايات المتحدة الأمريكية من بعض الاتفاقيات الدولية وتطبيقاتها، لا سيما تلك المتعلقة بمحاكمة جنودها على أرض غير أمريكية.
المثال الثاني يتعلق بجمعية النساء التونسيات من أجل البحث والتنمية، التي أصدرت في نيسان/أبريل 2006 كتاباً باللغة الفرنسية في 171 صفحة يحمل عنوان المساواة في الميراث . ودون الدخول في تفاصيل وجزئيات ما احتواه هذا الكتاب نشير إلى أن تقديمه قد أشاد بما تحقق لفائدة المرأة خلال الخمسين سنة الماضية في تونس، مثل صدور مجلة الأحوال الشخصية التي منعت تعدد الزوجات وحددت السن الدنيا للزواج والتساوي في الطلاق وغير ذلك كثير، إلا أن ما لم تحققه تلك المجلة هو المساواة في الميراث بين النساء والرجال على الرغم من المراجعات العديدة التي عرفتها تلك المجلة خلال الفترة المذكورة. ويؤكد التقديم على أن نقاش هذا الموضوع بات شأناً عاماً، والكتاب هو ثمرة جهد أولئك الذين يخوضون المعركة من أجل المساواة وحقوق النساء[(55)]. إن الأمر المهم في كلا المثالين هو الخلفية النسوية التي تنبع منها تلك المواقف، ومأزق تلك الخلفية هو أنها لا تأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يكون ثابتاً في المجتمع وما يمكن أن يكون عارضاً، وتكفي المقارنة بين معالجة الطاهر الحداد الذي تعرضنا له سابقاً في تناوله للمساواة والميراث. إن الرجل محامي المرأة بامتياز لكنه ليس أسير الخطاب النسوي وغير منبت المرجعية، فهو لا يجد حرجاً بل يرى من واجبه تأصيل نزعته في المساواة ضمن إطار تاريخي وضمن رأس مال رمزي نسج خيوطه المجتمع الذي ينتمي إليه خلال حقب طويلة من تفاعل أفراده، وقد رأت الجمعيتان النسويتان المذكورتان التنصل منه دون سابق إنذار ودون أخذ بعين الاعتبار ما أنتجه المجتمع من قيم ورموز وعلامات تعكس نموذجاً حضارياً ليس من اليسير شطبه.
في مقابل ذلك فإن الحركة النسوية عموماً والنسوية العربية خصوصاً بدأت تستفيق على وقع الاختلاف والتناقض بين مقولات المساواة دون الأخذ في عين الاعتبار الفوارق بين الرجل والمرأة وما أنتجته من طبيعة مختلفة ومن خصوصيات ثقافية. كما بدأت مقولاتها وطروحاتها التي أرستها خلال عقود من التنظير والعمل تتداعى؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية، المركز الأهم للحركة النسوية في الغرب، أعيد طرح السؤال حول ما كان يعتقد أنه من البديهيات. وقد تجلى ذلك كالتالي: هل أن مكان المرأة هو المنزل وأن وظيفتها الرئيسية هي الإنجاب وتربية الأبناء، أم لها وظائف أخرى ذات أولوية خارج ذلك الفضاء؟ وبعد عقود من تأثيرات الفكر النسوي جاءت الإجابة كالتالي: «إن نصف النساء الثريات والأكثر امتيازات والأرقى تعليماً في الولايات المتحدة يفضلن البقاء في البيت مع أطفالهن بدلاً من العمل في اقتصاد السوق»[(56)]. إن ذلك الموقف هو خلاصة دراسة ميدانية نشرت سنة 2005 وانتهت إلى الإقرار بفشل ما يعرف بالخيار النسوي القائم على إيجاد مركزية نسوية مقابل المركزية الذكورية. فعندما تقر المرأة المتعلمة بل الأكثر تعلماً وبالتالي المستبطنة للأفكار النسوية، عندما تقر وهي تتحدث عن زوجها مستعملة لغة علم الإدارة «هو رئيس الإدارة التنفيذي وأنا رئيسة الإدارة المالية. عليه كسب الأموال وعلي أن أقرر كيف أنفقها»[(57)]، فإن مقولات الفلسفة النسوية تحتاج إلى مراجعة. إن ذلك المثال تعبير عن واقع يشهد انتشاراً كبيراً في جمهور النساء المتعلمات فكيف بالأمر عند الأقل تعليماً.
إن تلك المقولة تذكرنا بالتقسيم الدوركايمي لأشكال التضامن، وبالتالي العمل، فذلك التقسيم في الأدوار يحيل إلى تقسيم العمل في مرحلة التضامن الآلي وليس العضوي الذي تعيشه المجتمعات الصناعية. ويكاد ينسحب الاتجاه نفسه على موقف النساء العربيات لا سيما المتعلمات، وخاصة في البلدان التي عرفت تنامياً للحركات النسوية، ونذكر بالتخصيص كلاً من تونس ولبنان. ففي هذا الأخير تبرز عودة إلى ترتيب الأولويات، فلم تعد المرأة/الذات الجنسية أرفع شأناً من الأم والعاملة خارج البيت أهم من المربية كما كانت تروج الحركات النسوية. وإنما تتم عودة ملحوظة إلى الأمومة وتقديسها وتمجيدها، وهذا الموقف لا يقتصر على المرأة اللبنانية التقليدية وإنما ينتشر أيضاً لدى ما يمكن أن نسميه نساء الحداثة. ويفسر بعض الأبحاث ذلك بأن الأمومة في المجتمع اللبناني والعربي عموماً لم تكن يوماً أمراً مدعاة للنقاش بالحدة نفسها التي طرحت فيها في المجتمعات الغربية. وبذلك لم تعد الأمومة نوعاً من العبودية وإنما تحقق الذات الإنسانية. إن تلك النتيجة هي خلاصة لدراسة ميدانية على نساء البيوت في لبنان انتهت كذلك إلى تعظيم الطفولة وما يعنيه ذلك من إعطاء المسؤولية الرئيسية في التربية وبالتالي تشكيل شخصية الطفل للأم[(58)].
إن أهمية عرض التطور التاريخي للأفكار كما ممارسات الحركات النسوية يرمي إلى الوقوف على القطائع الهامة التي عرفتها تلك التجارب. ومن ثمة فمن الضروري التفريق بينها وبين ما أنتجته «أيديولوجيا النوع» من مقولات لا تنفي كل ما توصل إليه المجتمع الإنساني من تراكمات في عالم القيم والأفعال الإنسانية وإنما تكتفي بالحد من آثار بطرياركية ذكورية حفظت كتب التاريخ الأوروبي أكبر مظاهر إجحافها وتهميشها للمرأة ولحقوقها ولما يمكن أن تلعبه من أدوار في المجتمع. إن «أيديولوجيا النوع» في النهاية لا ترمي إلى بناء مركزية أنثوية وإنما تهدف إلى الحد من التمييز ضد المرأة وليس قلب سلم الوظائف الاجتماعية.
2 ـ دور التنشئة الاجتماعية أو التربية على النوع
إن خطاب الجنوسة الذي يقوم على السيطرة الذكورية المطلقة لا يقتصر على الموروث الجنسي وإنما يشمل جميع مجالات الحياة. ففي دراسة أجريت سنة 2000 ونشرت سنة 2005 تبين وجود أمي واحد بالنسبة إلى خمسة بالغين على المستوى العالمي، ومن بين أولئك الأميين نجد الثلثين من النساء. وهو ما يحول دون مقدرتهن على الدفاع عن حقوقهن[(59)]. وينعكس ذلك على توزيع النساء على المهن خارج المنزل وعلى المشاركة السياسية، فإذا ما استثنينا بعض الدول الغربية في أوروبا وأمريكا الشمالية، فمن نافلة القول الإقرار بمحدودية مساهمة النساء في الشأن العام، بل إن كثيراً من المجتمعات والدول لا تحتسبهن ضمن اليد العاملة النشيطة في قياس نسبة البطالة ومؤشراتها.
ورغم المحاولات التي عرفها كثير من البلدان للنهوض بوضع المرأة وتغييره باتجاه مزيد من المشاركة، فإن تلك المحاولات بقيت حبيسة النصوص القانونية التي قلصت في المستوى التشريعي من دونية المرأة ومحاولات استغلالها مادياً وجنسياً وأخلاقياً في المستوى النظري. لكن على مستوى الواقع لا بد من الاستنجاد بما يسميه البعض «البناء الاجتماعي للنوع»[(60)] الذي يفترض التفريق بين «الجنس الطبيعي» و«الجنس الثقافي». إن «بناء النوع» عملية شاقة لا يتحقق بمجرد إعطاء بعض حقوق المرأة أو تمكينها من بعض الحريات الفردية التي شكلت مطالب رئيسية لكثير الحركات النسوية، إنما هو عملية تنشئة تتولاها مختلف أطر التنشئة الاجتماعية.
توجد عدة وسائل للتنشئة الاجتماعية مثل الأسرة والمدرسة. فالأسرة التي تمثل مؤسسة عريقة وخلية رئيسية من خلايا المجتمع تتولى إعداد أجياله فهي أول فضاء للتربية والرعاية لإشباع الحاجات ولتعليم الأطفال مفهوم الذات واللغة. وبإمكانها بالاعتماد على مختلف أساليب التنشئة الاجتماعية أن تعيد إنتاج الفوارق بين الجنسين. فإذا كانت التنشئة مبنية على أولوية «الذكر»، سواء كان ابناً أو أباً، في مختلف المعاملات والامتيازات والتسيير وبالتالي التمييز بين الجنسين، وإذا كانت الرسالة التي تسعى العائلة إلى تبليغها هي أن الذكور أقوياء ونشيطون والبنات رقيقات وناعمات وهادئات، وإذا كانت هناك ألوان محددة لملابس الذكور وأخرى مختلفة لملابس الإناث وألعاب مخصصة لكل جنس بحسب الأنوثة والذكورة[(61)]، فإن ذلك سينعكس على تربية الأبناء وعلى «النموذج» وسلطته التي سيمارسها على الأبناء وبالتالي يحكم مختلف علاقاتهم طيلة تجاربهم الحياتية. إن السيطرة الذكورية داخل العائلة ستؤدي حتماً إلى دونية أنثوية؛ لا شك في أن الأسرة ستبقى محكومة بإرث اجتماعي، فهي بمثابة المرآة العاكسة للمجتمع في مستوى القيم والرموز والعقائد والعادات والتقاليد ومختلف التراكمات الثقافية والايديولوجية للنظام السياسي السائد. وإن ما سيتربى عليه الطفل ذكراً كان أو أنثى هو ما سيستبطنه لنفسه ولأبنائه. وإن الطفل يتعلم بعينه، أي ما يراه ويلاحظه من سلوكيات ومعاملات أكثر مما يتعلمه بأذنه، أي ما يسمعه ويجبر على تلقنه.
إن احتكار الزوج للسلطة وقيامه بالوظائف الخارجية كلها وتركه الوظائف الداخلية للزوجة ستؤدي إلى تشكيل شخصية ذكورية لدى الطفل الذكر تواقة إلى الهيمنة وشخصية أنثوية لدى الطفل الأنثى قابلة للهيمنة والخضوع. إن ما تستطيع الأسرة تمريره من قيم جديدة تحد من التمييز الجنسي ومن الهيمنة الذكورية عبر تنشئة متوازنة في فترة وجيزة قد لا يستطيع المجتمع إنجازه خلال عقود من الزمن ولو باعتماد أكثر التشريعات تقدماً وبتمكين المرأة من أعلى الوظائف والرتب والامتيازات.
إن المدرسة هي إطار التنشئة الذي يكتسي الدرجة نفسها من الأهمية. يذهب بيار بورديو إلى أن مفهوم إعادة إنتاج الثقافة هو مفهوم تنتجه المدارس بمشاركة مؤسسات اجتماعية أخرى، وذلك للحفاظ على اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية جيلاً بعد جيل[(62)]. وهنا لابد من الانتباه إلى قدرات المدرسة عبر مناهجها الدراسية على ممارسة التأثير على تعليم القيم والتوجهات والعادات. إن المدارس ترسخ وجوه التنوع في القيم الثقافية والتوجهات التي يكتسبها المرء في المراحل المبكرة من حياته. وعندما يغادر الأطفال المدرسة تمارس هذه القيم الثقافية أثرها على الناس بتحديد آفاق الفرص أمام بعضهم وفتح مجالات واسعة أمام بعضهم الآخر[(63)].
ويذهب عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم في كتاب نشر سنة 1922، أي بعد عدة سنوات على وفاته، يحمل عنوان التربية وعلم الاجتماع ، مذهباً مختلفاً نسبياً معتبراً أن التربية هي ظاهرة مكتسبة يتلقاها الأطفال والصغار عن الكبار لأنها تنتقل من جيل إلى آخر على أرضية أن الأطفال لهم مرونة في التفكير وأكثر قابلية للتعلم والتلقين. فهي وسيلة لنقل قيم المجتمع وثقافته وموروثاته. وينحو دوركايم منحى النزعة الجماعية نظراً إلى ما تقوم به المدرسة من تشكيل للضمير الجمعي، ولا يميل إلى نقل الخصوصيات وإعادة إنتاجها كما ذهب إلى ذلك بورديو.
إن المدرسة بتلك الطريقة تلقن الفرد الامتثال للنظام السياسي والقانوني واحترام المعايير الاجتماعية والأخلاقية، بل إن وظيفة المدرسة هي إنتاج «الهوية الاجتماعية «للأفراد وخلق ما يسمى الحس المشترك لديهم.
إن أدنى تمييز بين الجنسين في المدرسة، كإحداث أقسام للذكور وأخرى للإناث أو صفوف للفتيان وأخرى للفتيات، ناهيك عن التمييز بينهم في مدارس مخصصه لكل جنس على حدة أو تخصيص مدرسين حسب الجنس، المدرسون للفتيان والمدرسات للفتيات أو ما تحتويه بعض الكتب المدرسية من اعتماد أمثلة ومقررات ولغة ذات طبيعة ذكورية أو توجيه الطلاب الذكور إلى نوعية معينة من الاختصاصات ومن ثمة المهن وأخرى إلى الإناث، كل ذلك سيكون الأرضية الخصبة التي ستنتج فكرة التمييز بل ستعيد إنتاجها.
إن مبادئ «أيديولوجيا النوع الاجتماعي» التي تسعى إلى ترسيخ عدم التفريق على أساس بيولوجي وإنما على أساس ثقافي ومن إنتاج المجتمع، لن يكون لها شأن كبير في مجتمع تعجز مدرسته عن الحد من تلك الفوارق في نظامها الشكلي قبل التحدث عن المضامين والحقوق التي يجب أن تنقلها أجيال مجتمع ورث جميع أشكال التمييز وبات يستنبطها.
كما توجد صورة أنثوية يتم تسليعها وتسويقها في إطار الانسجام بين الإعلام والسوق من خلال وسائل الاتصال الجماهيري، مثل التلفزيون والصحف والراديو والإنترنت. وللحد من الفجوة القائمة بين تلك المقولات التي أنتجتها «ايديولوجيا النوع» التي ظهرت في المجتمعات الغربية التي تعيش نهضتها منذ القرن السادس عشر وعرفت التنوير والحداثة التي أنتجت القيم المادية والمعنوية التي تتهافت عليها مختلف المجتمعات غير الغربية، وما تعيشه هذه المجتمعات من قيم هي نتاج موروثها التاريخي الذي ما زال ينتج مقولات وأدواراً وتمثلات لم تعد تنسجم حتى مع عصرها الذي نشأت فيه، ناهيك عن هذا العصر، لابد من إعادة النظر في وظيفة الإعلام في تعامله مع ثنائية الذكورة ـ الأنوثة أو ما سميناها الجنوسة.
خاتمـة
يتخلل هذا العمل محاولة تصنيفية لخطاب الجنوسة في الثقافة العربية قديمه وحديثه، مقدسه ومدنسه. ويتبين من خلال التراث الثري الذي تحفظه لنا الكتب القديمة ومن خلال الأدوار الممنوحة للمرأة في المجتمع العربي المعاصر والتي تستند إلى جنسها كأنثى قبل كل شيء، أننا أمام موروث فكري وأنماط من السلوك راسخة في الخطاب كما في الأفكار بسبب تحولها إلى أعراف بل إلى قوانين وتشريعات ينتظم من خلالها المجتمع ككل، ولكن يمكن للدارس أن يلامس الأثر العميق للنزعة الذكورية في مختلف النصوص التي بمقتضاها تشتغل المؤسسات ويتفاعل الأفراد فيما بينهم ومع تلك المؤسسات. إن هذه الثقافة العريقة والضاربة في القدم أصبحت تكتسي اليوم مسحة من العتاقة في ظل بروز فكرة النوع التي تستند إلى ما هو ثقافي وتجانب ما هو طبيعي في تقسيم الأدوار بين النساء والرجال ؛ الفكرة التي اخترقت ثقافات كثير من المجتمعات بما في ذلك تلك التي تقمصتها من دون أن تكون بذرة تنبت من أرضها.
ولكن اللافت في تجربة المجتمع العربي القصيرة مع الفكرة الجديدة الوافدة أنهما لا تلقيان المقاومة الذكورية فقط وإنما تصطدم بموروث ثقافي خصب لها امتداد ضارب في أعماق التاريخ والذات، ويلعب فيه الديني دوراً مركزياً، مما يجعل من تقبل مختلف الأفكار المنقولة عن طريق عربة الحداثة أمراً عسيراً. ويزداد الأمر عسراً عندما تترسخ قيم جديدة هي قيم تسليع الجنس وبيعه علناً، سواء كان ذلك من خلال عروض البغاء المنظم العلني والسري أو عبر بيع مادة الفحولة لمن يشتري ويدفع المقابل. ويزداد الأمر تعقيداً وخطورة عندما تلامس المسألة، مسألة النوع، المقدسات والمحرمات التي تمثل ثوابت يصعب المساس بها في مجتمعنا العربي الإسلامي الذي لا يستطيع دارسه أو حتى المتعامل معه أن يفصل بينه وبين تلك المستويات ژ6
(*) له عدة مؤلفات، منها: تاريخ شبه جزيرة جرجيس من العصور القديمة إلى نهاية الاحتلال الفرنسي: دراسة اجتماعية ـ تاريخية في التاريخ المحلي (2001)، و مجتمع القبيلة: البناء الاجتماعي وتحولاته في تونس: دراسة في «قبيلة عكارة» (2006).
ـ[1] مالك شبل، «الأنوثة والذكورة،» ورقة قدمت إلى: الإسلام والحداثة: ندوة مواقف (لندن: دار الساقي، 1990)، ص 289.
ـ[2] أبو الفضل محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب ، 15 ج (بيروت: دار صادر، 1955 ـ 1956)، ج 6، ص 43.
ـ[3] المصدر نفسه، ج 2، ص 625 ـ 626.
ـ[4] الطاهر أحمد الزاوي، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة ([د. م.]: الدار العربية للكتاب، 1980)، ج 1، ص 185.
ـ[5] المنجد في اللغة ، ط 37 ([بيروت]: دار المشرق، 1998)، ص 754.
ـ[6] ابن منظور، لسان العرب ، ج 4، ص 309 ـ 311.
ـ[7] انظر: المصدر نفسه، ج 11، ص 265، والزاوي، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة، ج 2 ص 309.
ـ[8] انظر: مجموعة رسائل في الحجاب والسفور (الرياض: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1984)، و المجلة العربية لحقوق الإنسان (المعهد العربي لحقوق الإنسان)، العدد 11 (خاص بالحجاب) (2005).
ـ[9] الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع (تونس: الدار التونسية للنشر، 1977)، ص 23.
ـ[10] القرآن الكريم ، «سورة التكوير،» الآيتان 8 ـ 9.
ـ[11] الحداد، المصدر نفسه، ص 25.
ـ[12] المصدر نفسه، ص 29.
ـ[13] المصدر نفسه، ص 38.
ـ[14] القرآن الكريم ، «سورة النساء،» الآية 7.
ـ[15] المصدر نفسه، «سورة النساء،» الآية 11.
ـ[16] المصدر نفسه، «سورة النساء،» الآية 11.
ـ[17] الحداد، المصدر نفسه، ص 39.
ـ[18] المصدر نفسه، ص 41.
ـ[19] المصدر نفسه، ص 43.
ـ[20] عبد الوهاب بوحديبة، الجنسانية في الإسلام ، ترجمة محمد علي مقلد (تونس: دار سراس، 2000)، ص 31.
ـ[21] المصدر نفسه، ص 31 ـ 32.
ـ[22] المصدر نفسه، ص 32.
ـ[23] المصدر نفسه، ص 43.
ـ[24] Ann Oakley, Sex, Gender and Society , Towards a New Society (London: Maurice Temple Smith Ltd., 1972).ـ[25] Jeanne Bisilliat, Luttes feministes et développement: Une Perspective historique, dans: Le Genre: Un Outil nécessaire, introduction à une problématique , dirigé par Jeanne Bisilliat et Christine Verschuur, cahiers genre et développement; no. 1 (Paris: Harmattan; Boulogne: Association femmes et développement (AFED); Carouge, Suisse: Espace femmes international, 2000), p. 23.ـ[26] Femmes sans qualités ou héroines: Sociétés anciennes, représentations profondes, .ـ[27] روجيه غارودي، في سبيل ارتقاء المرأة ، ترجمة جلال مطرجي، ط 2 (بيروت: دار الآداب، 1988)، ص 13 ـ 14.
ـ[28] Femmes sans qualités ou héroines: Sociétés anciennes, représentations profondes.
ـ[29] Bisilliat, Luttes feministes et développement: Une Perspective historique, p. 20.
ـ[30] المصدر نفسه، ص 21.
ـ[31] شاذلية الماجري، «المنظمة النقابية وإدماج النوع الاجتماعي: دراسة حالة،» (رسالة ماجستير في الدراسات النسوية، المعهد العالي للعلوم الإنسانية، تونس، 2004 ـ 2005)، ص 19.
ـ[32] الفتاة العربية المراهقة: الواقع والآفاق: تقرير تنمية المرأة العربية الثاني ، [أشرف على التقرير مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث بتونس؛ توطئة سكينة بوراوي] (تونس: مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث، 2003)، ص 251.
ـ[33] المصدر نفسه، ص 252.
ـ[34] المصدر نفسه، ص 253.
ـ[35] نادية آية زاي، «التطور القانوني في مجال قانون الأسرة والقانون المدني،» في: قانون الأسرة في البلاد العربية الإسلامية: قراءة للضوابط الدينية والقانونية (ملتقى الآراء كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة في الأديان، كلية الآداب بمنوبة، مؤسسة كونراد أديناور، 2005)، ص 84.
ـ[36] Mustpha Kraim, Etat et société dans la Tunisie Bourguibienne ([s. l.]: Phenomena edition, 2003), tome 2, pp. 47-48.ـ[37] آية زاي، المصدر نفسه، ص 88 ـ 89.
ـ[38] المصدر نفسه، ص 87.
ـ[39] المصدر نفسه، ص 87 ـ 88.
ـ[40] رحاب القدومي، «الأسرة وقانون الأحوال الشخصية الأردني،» في: قانون الأسرة في البلاد العربية الإسلامية: قراءة للضوابط الدينية والقانونية، ص 116 ـ 117.
ـ[41] نهاد أبو القمصان، «المرأة المصرية على طريق لم يكتمل بعد،» في: المصدر نفسه، ص 120 ـ 125.
ـ[42] دعد موسى، «العنف ضد المرأة،» .
ـ[43] المصدر نفسه.
ـ[44] يمنى طريف الخولي، «النسوية وفلسفة العلم،» عالم الفكر ، السنة 34، عدد خاص حول المرأة (تشرين الأول/أكتوبر ـ كانون الأول/ديسمبر 2005)، ص 12.
ـ[45] المصدر نفسه، ص 28 ـ 29.
ـ[46] جين سعيد المقدسي، «الخطاب النسوي العربي ـ السعداوي/المرنيسي،» في: النساء في الخطاب العربي المعاصر ، باحثات؛ ج 9 (بيروت: تجمع الباحثات اللبنانيات، 2004)، ص 324، نقلاً عن: Leila Ahmed, Women and Gender in Islam: Historical Roots of a Modern Debate (New Haven, CT: Yale University Press, 1992).ـ[47] انظر نص مشروع الشرق الأوسط الكبير في: الحياة ، 13/2/2004. لقد انعكس ذلك الاتجاه على مشاريع الإصلاح الناتجة عن التداعيات التي أحدثها مشروع إصلاح الشرق الأوسط الكبير فجاء في ما عرف بالوثيقة التونسية للإصلاح والمقدمة إلى مؤتمر القمة العربي المنعقد في تونس سنة 2004 ما يلي: «مواصلة النهوض بدور المرأة في المجتمع العربي وتدعيم حقوقها تعزيزاً لمساهمتها في دفع التنمية الشاملة من خلال مشاركتها الفعلية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية». انظر أيضاً: جمال الزرن، «مشاريع الإصلاح والإصلاح المضاد ومجتمع المعرفة في الرفض والقبول وإشكالية التلقي،» المجلة العربية للأرشيف والتوثيق والمعلومات (مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، تونس)، العددان 17 ـ 18 (تشرين الثاني/نوفمبر 2005)، ص 95.
ـ[48] فاضل الربيعي، «نساء أبو غريب: بزوغ مجتمع اغتصاب نموذجي في العراق الجديد (إعادة بناء الرواية الناقصة عن فضيحة سجن أبو غريب)،» المستقبل العربي ، السنة 28، العدد 316 (حزيران/يونيو 2005)، ص 25، يشير المقال إلى أن ذلك العدد ورد في حديث صحافي للسيد عزيز جبر شيال، مدير مركز بغداد لحقوق الإنسان، في: آفاق عربية (17 آذار/مارس 2005) كما نشر على موقع البصرة على شبكة الانترنت.
ـ[49] الربيعي، المصدر نفسه، ص 26 ـ 27.
ـ[50] القرآن الكريم ، «سورة النور،» الآية 37.
ـ[51] الربيعي، المصدر نفسه، ص 28.
ـ[52] من أجل المساواة بين الجنسين وإلغاء كل مظاهر التمييز ضد النساء: [أعمال] الندوة التي نظمتها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بتونس في 6 يناير 1990 (تونس: الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، 1991).
ـ[53] المصدر نفسه، ص 7.
ـ[54] المصدر نفسه، ص 7 ـ 8.
ـ[55] Egalite dans l'heritage ([s. l.]: Association des femmes pour la recherche et le développement avec le soutien de la fondation Friedrich Ebert, 2006), p. 5.ـ[56] ليندا هيرشمان، «إني للبيت عائدة،» ترجمة جعفر جميل أبو ناصر، الثقافة العالمية ، العدد 136 (أيار/مايو ـ حزيران/يونيو 2006)، ص 106، والمقالة في الأصل مكتوبة باللغة الإنكليزية تحت عنوان: Linda R. Hirshman, Homeward Bound, American Prospect (December 2005).ـ[57] هيرشمان، المصدر نفسه، ص 113.
ـ[58] فادية حطيط، «النسوية الأمومية ـ ستات البيوت في لبنان ـ أي دور؟ أي خطاب؟،» في: النساء في الخطاب العربي المعاصر ، ص 303.
ـ[59] Education: Les Femmes rattrapent leur retard, Sciences humaines , hors-série spécial no. 4 (novembre-décembre 2005), pp. 50-51.ـ[60] Martine Fournier, La Différence des sexes est-elle culturelle?, Sciences humaines , hors-série spécial no. 4 (novembre-décembre 2005), p. 24.ـ[61] موسى شتيوي، الأدوار الجندرية في الكتب المدرسية للمرحلة الأساسية في الأردن (عمّان: المركز الأردني للبحوث الاجتماعية، 1999)، ص 12.
ـ[62] نقلاً عن: أنتوني غدنز، علم الاجتماع ، ترجمة وتقديم فايز الصياغ (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005)، ص 561.
ـ[63] المصدر نفسه، ص 561.

السبت، 4 أبريل 2009

الأزمات الاجتماعية والسياسية ، إدارتها وآثارها مثال تونس 1957 - 1987 دراسة منشورة في تونس البورقيبية والبلاد العربية مؤسسة التميمي للبحث العلمي 2004

الأزمات الاجتماعية والسياسية
إدارتها و آثارها : مثال تونس 1957 – 1987
د. سالم لبيض

La Tunisie a connu, à l'instar de beaucoup d'autre pays, des crises sociales et politiques, dont les plus importantes semblent être, selon notre vision : la crise youssefiste des années 50 et 60 qui s'est soldé par la tentative du coup d'Etat de 1962, l'opération armée de Gafsa de 1980, les émeutes syndicales de 1978 connues sous le nom de "jeudi noir" et le "soulèvement du pain" relatif aux évènements de janvier 1984.
Ces crises majeures, qui s'étalaient sur une période de 30 ans de 1957 à 1987, et qui ont enregistré des évènements sanglants tels que l'assassinat du leader politique salah Ben Youssef en 1961, l'emprisonnement du leader syndical Habib Achour en 1978 et le jugement des pauvres et des marginaux qui ont participé au "soulèvement du pain" en 1984, reflètent l'importance des mutations et des contradictions sociales qui ont traversé la société tunisienne durant cette période de son histoire ; elles démontrent aussi la vitalité et la dynamique de la société en général et de la société politique, en particulier ; une société qui a produit des forces socio-politiques qui ont pu formuler des mouvements contestataires hostiles aux choix et aux politiques des gouvernements au pouvoir et à la politique générale de l"Etat.
En effet, ces mouvements de contestation, n'étaient rien d'autres, qu'une expression de la volonté du changement et de la détermination à construire une société démocratique fondée sur les principes du pluralisme politique et de la répartition égalitaire des richesses.
En contre partie, l'Etat national -mis en place à partir de 1956 et dont la fondation et la conception de ses options et de ses orientations incombaient principalement à son premier président Habib Bourguiba- a mal évalué ces mouvements socio-politiques dans la mesure où il a évacué toute interprétation qui mettait en cause sa politique et ses choix fondamentaux et qui envisageait une éventuelle discordance avec les orientations de la société.
L'Etat privilégiait une vision plus simpliste qui mystifiait les enjeux réels et contournait les vrais problèmes ; il voyait dans ces crises fondamentales des crises passagères voire des accidents de parcours qui ne nécessitaient pas une redéfinition de sa politique mais juste une gestion plus efficace en éliminant les membres qualifiés d'agitateurs et de fouteurs de troubles dans le discours officiel de l'Etat.
Ainsi, dès lors que la piste policière et judiciaire constituait la seule piste envisageable face aux mouvements politiques qui cherchaient plus d'expression, et du moment où l'Etat ne semblait pas être prêt à faire des concessions significatives, le recours à l'alternative armée dans l'action politique trouvait alors des adeptes dans les groupes nationalistes arabes soutenus par la Libye.
Bref, Bourguiba, principal acteur politique de l'Etat de 1956-1987, qui refusait tout dialogue avec les mouvements de contestation de la société était en train de bâtir un modèle hégémonique et autoritaire qui repose sur une négation de principe de l'autre.

إن تناول الأزمات الاجتماعية والسياسية والحركات الاحتجاجية، يندرج ضمن محاولات الباحث السوسيولوجي والإناسي كسر تابوهات "السياسي"، الذي جعل من هذه الأزمات موضوعات محرمة وغير خاضعة للدرس لارتباطها بسيادة الدولة وأمنها أحيانا وبمؤسساتها وسياساتها أحيانا أخرى. هذه المؤسسات والسياسات التي قلما تقع في هامش الخطإ حسب رؤية أصحابها الذين يصنفون احتجاجات المجتمع والمجتمع السياسي على أنها أعمال تخريبية ضارة بمصلحة الوطن والمواطن، وهذا على عكس هذا الأخير الذي يرى فيها محرارا يمكن أن يعدل السياسة العامة للدولة بما ينسجم مع مصلحة المجتمع ككل.
أولا : في معنى الأزمة وإدارتها :
– مفهوم الأزمة :
يقصد بالأزم في لسان العرب شدة العض بالفم كله، والأزم هي الأنياب والأزم هو الجدب والأزمة الشدة والقحط. وفي الحديث "اشتدي أزمة تنفرجي"، ويقال أزم عليهم العام والدهر يأزم أزما وأزوما اشتد قحطه ([1]). فالأزمة في الفكر العربي ترتبط بالشدة والقحط، أما في الفكر اليوناني القديم يطلق مصطلح الأزمة على نقطة التحول في الأمراض الخطيرة والقاتلة التي تؤدي عادة إلى موت محقق أو الشفاء التام ([2]). لقد تطور المفهوم وتعددت دلالاته وشملت عدة مجالات من ذلك مجال الطب حيث يقصد بالأزمة التغيرات السريعة التي تحول المريض من حالة الهدوء إلى الاضطراب الشديد الناتج عن الآلام الحادة أو النوبات العصبية ([3]). ومن ذلك مجال العلاقات الدولية حيث ينظر إلى الأزمة على أنها ذلك التكثيف الشديد لطاقات الاختلال وعدم الاستقرار داخل النظام الدولي، وتشتمل على قدر من الخطورة والمفاجئة([4]). عموما فإن الأزمة هي بمثابة الحالة العصبية المفزعة والمؤلمة التي تضغط على الأعصاب وتشل الفكر وتحجب الرؤيا، تتضارب فيها عوامل متعارضة وتتداعى فيها الأحداث وتتشابك فيها الأسباب بالنتائج وتتداخل الخيوط ويخشى من فقد السيطرة على الموقف وتداعياته، فهي خلل يؤثر تأثيرا حيويا يعرض المتعرض لها سواء كان فردا أو كيانا أو دولة لحالة من الشتات والضياع تهدد الثوابت التي يقوم عليها ([5]). وتبرز الأزمات عندما يكون النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي مريضا ويستوجب عليه تحت تهديد الموت أن يتقبل تغييرات تسمح له بدورة جديدة من الحياة. وكثيرا ما ترتبط الأزمات بممارسة العنف إذا كانت ذات طابع اجتماعي أو سياسي أو تعلقت بالعلاقات الدولية.
– أصنافها :
- الأزمة الاجتماعية : هي حالة من الفوضى تنتج عن تفكك العلاقات والضوابط الاجتماعية بسبب تفاقم ظواهر الفقر والبطالة والانحراف والبؤس وما ينتج عن ذلك من تدني في مستوى المعيشة وارتفاع للأسعار وانهيار للقيم وانحلال أسري وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية الذي يؤدي تراكمها إلى تهديد النظام الاجتماعي بأكمله.
- الأزمة السياسية : كثيرا ما تساهم الأزمات السياسية في زعزعة الاستقرار في بلد من البلدان بهدف إحداث تغيير معين وتبرز الأزمة السياسية في شكل تمرد أو عصيان مدني أو انتفاضة شعبية أو عمل مسلح وقد تكون هذه الأزمة نتيجة لعوامل سياسية مثل الاستبداد وغياب الديمقراطية كما يمكن أن تكون نتاج لاختلال في النظام الاجتماعي أو في منظومة القيم الاجتماعية.
- الأزمة في العلاقات الدولية : يحدث هذا النوع من الأزمات بسبب التوتر في العلاقات الدولية بين دولتين أو أكثر ومن مظاهر ذلك التوتر في العلاقات ومختلف أشكال الصراع السياسي والدبلوماسي والعسكري، ومن أسباب ذلك وجود بؤر خلاف وتعارض المصالح وتنامي الإشاعات واستعراض القوة بين الدول أو خرق الاتفاقات القائمة بينها ([6]).
- طرق إدارة الأزمات : كثيرا ما تتسم الأزمات بمختلف أصنافها بالتعقيد والتشابك في عناصرها وأسبابها، وتستقطب الاهتمام هذا علاوة على ما تثيره من مخاوف، وهو ما يتطلب بذل جهد كبير في مجابهتها، بل تضع أصحاب النفوذ أمام مسؤولية اتخاذ قرارات سريعة وناجعة للدفاع عن المصالح والمحافظة على الوضع القائم ولإنجاح ذلك لابد من دراسة الأزمة في ضوء عناصرها الموضوعية وأسبابها الحقيقية وتوفر المعلومات الضرورية وعدم الاكتفاء بإلقاء المسؤولية على عاتق الخصم وتنزيه الذات عبر مرونة القرار السياسي ([7]). لقد دأبت دول كثيرة على إحداث هيئة مؤقتة ومصغرة تطلق عليها تسمية "خلية الأزمة" تتولى الإدارة المباشرة والمتابعة المستمرة لأحداث الأزمة، كما اعتادت هذه الدول على التعامل الأمني مع مختلف الأزمات.
ثانيا : الأزمات الاجتماعية :
1 – الأزمة النقابية لسنة 1978 : جذور الأزمة وأسبابها: لا شك أن الأزمة النقابية لسنة 1978، هي نتاج لسياسة اقتصادية – اجتماعية برزت مع مطلع عشرية السبعينات على أنقاض سياسة التعاضد ودولنة الاقتصاد التي ميزت عشرية الستينات من القرن الماضي. لقد ارتكز توجه السبعينات على الحد من تدخل الدولة في المجال الاقتصادي وتشجيع المبادرة الخاصة وفتح المجال أمام الرأسمال المحلي (الوطني) والأجنبي للاستثمار، وذلك في إطار قوانين أفريل 1972 وأوت 1974. ورغم تبني شعار الاشتراكية الدستورية من طرف الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في مؤتمره الثامن المنعقد بمدينة المنستير سنة 1971، والذي جاء في أحد لوائحه "إن الاشتراكية الدستورية تهدف إلى الاستفادة من الرأسمالية في مستوى تطوير الإنتاج والاستفادة من الاشتراكية في مستوى التوزيع العادل للثورة "، فإن مقولتي الاشتراكية والعدالة الاجتماعية لم تكن سوى مقولات للاستهلاك السياسي المرحلي خاصة وأن تجربة الاشتراكية الدستورية انتهت إلى "التفويت في قسم كبير من أراضي الدولة ونزع احتكار التجارة الخارجية والإشراف المباشر على التجارة الداخلية وتوسيع مصادر القرض ومساعدة الرأسمال الخاص واستغلال صفقات الدولة ومراكز النفوذ ونمو أنشطة المضاربة وتوجيه استثمارات أكبر إلى الأنشطة ذات المردود المرتفع إلى جانب إخراج الثروات المجمدة خلال الستينات من أجل استثمارها واللجوء إلى التحايل الجبائي وغيرها من المظاهر التي سمحت بنمو سريع لمدخيل الملكية والمفاوتة ووسعت صنوف رجال الأعمال والباعثين والسماسرة والمضاربين وعمقت الفوارق الاجتماعية" ([8]). وبالتوازي مع هذه السياسات والاختيارات الاقتصادية بدأت تبرز مع انشقاق مجموعة من الدستوريين عن الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم وطردهم من مؤتمره المنعقد سنة 1974 يقودهم أحمد المستيري وإصدار بيانات باسم التحرريين قبل إصدار جريدة الرأي التي ساعد ظهورها على بعث حركة سياسية معارضة أطلقت عليها تسمية "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين". إن بروز مناخ سياسي ليبرالي ولو بصفة جنينية سيدعم العمل النقابي الذي بدأ يتنامى بالتوازي مع تنامي شريحة العمال الأجراء الذين وصل عددهم إلى 500 ألف مع بداية السبعينات بعد كان هذا العدد لا يتجاوز 150 ألف سنة 1956، هذا علاوة على تنامي عدد منخرطي الاتحاد العام التونسي للشغل الذين تجاوز عددهم 550 ألف منخرط سنة 1977، بعد أن كان هذا العدد في حدود 40 ألف سنة 1970 . فقد شهدت البلاد حركة إضرابية عرفت شكلا تصاعديا إذ كانت في حدود 150 إضراب سنة 1972، 301 سنة 1975، 372 سنة 1976، و قد كانت هذه الإضرابات ذات صبغة عفوية ولم تحظ بموافقة المركزية النقابية في كثير من الأحيان([9]). وهي تعبير عن ردود فعل متفاوتة التأثير تجاه الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة التي عرفت ارتفاعا مجحفا للأسعار في شهر رمضان من سنة 1977 بالرغم من الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل من ذلك ما يعرف بالعقد الإطاري المشترك والميثاق الاجتماعي الذي تم توقيعه في شهر جانفي من سنة 1977 والذي ينص على الحفاظ على السلم الاجتماعي وعلى مراجعة الأجور كلما ارتفعت الأسعار بنسبة تزيد عن 5 بالمائة ([10]).
- أحداث الأزمة النقابية :
لقد بدأت أحداث الأزمة في البروز مع مطلع شهر جانفي من سنة 1978، عندما قرر أعوان وزارة الفلاحة الدخول في إضراب بسبب فشل المفاوضات وتلا ذلك إصدار المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل، بيانا يندد فيه بما سماه "الاستفزاز البوليسي المبيت الذي يمس من حصانة دار الاتحاد "ويطالب فيه بإطلاق سراح المعتقلين، ولم يتوان الاتحاد عن التدخل في المسائل السياسية عندما طالب بإلغاء قانون الجمعيات وتحوير المجلة الانتخابية وإجراء انتخابات حرة وديمقراطية وذلك أثناء انعقاد مجلسه الوطني أيام 8 – 9 – 10 جانفي، وهي نفس الفترة التي قرر فيها أمينة العام الاستقالة من الديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، معتبرا أن "وجوده في الديوان السياسي أصبح متناقضا مع مسؤوليته النقابية "، كما أن استقالة أحد أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد وهو "خير الدين الصالحي "من عضوية اللجنة المركزية للحزب الحاكم، كل ذلك يأتي كرد فعل عن محاولة اغتيال الأمين العام للاتحاد من طرف "ميليشيا الحزب الحاكم". وفي مقابل ذلك بدأت ردود فعل السلطة في التصعيد فقد خطب الرئيس بورقيبة يوم 18 جانفي قائلا : "إن المتطرفين يرمون إلى القضاء على الدولة لتنفيذ مراميهم... "، ثم أضاف في خطاب ثان يوم 21 جانفي بمناسبة اختتام أعمال اللجنة المركزية " أنا مستعد أن أقف في وجه المخربين بعد وسائل التفاهم التي توخيناها وبعد المحاولات التي بذلناها بدون طائل... "، وأكد هذا الموقف اللائحة الصادرة عن اللجنة المركزية للحزب التي جاء فيها " إن مناورات قيادة المنظمة تندرج في خطة مبيتة بالتحالف مع عناصر هدفها النيل من أنموذج المجتمع وجر البلاد إلى التبعية... ". لقد شكلت الهيئة الإدارية للاتحاد المنعقدة بتاريخ 22 جانفي 1978 نقطة تحول في مسار الأزمة النقابية، إذ تقرر أثناءها الدخول في إضراب عام أقر المكتب التنفيذي للاتحاد أن يكون يوم 26 جانفي ووجد كل التأييد من الأمين العام للجامعة العالمية للنقابات الحرة السيد "أوتو كريسان"الذي كان يزور تونس أثناء تلك الفترة، وبالمقابل أعلن الرئيس بورقيبة حالة الطوارئ في البلاد ومنع المظاهرات والجولان في تونس العاصمة و ضواحيها، وقد أيد هذا الموقف الديوان السياسي للحزب الذي دعا إلى نبذ الدعوة للإضراب والإقبال عن العمل... وعلى العمال أن يفسدوا هذه الخطة لأن الإضراب العام له مفهوم سياسي([11]) ". يمثل يوم 26 جانفي من سنة 1978 ذروة التحركات أو ما يعرف بالأزمة النقابية وقد تجسد ذلك في إعلان الإضراب العام الذي تحول إلى تجمعات عمالية في المناطق الصناعية بضواحي العاصمة والمدن الكبرى وإلى مظاهرات صاخبة ومصادمات دامية انضم إليها الشباب الطلابي والتلمذي خاصة بعد محاصرة دار الاتحاد العام التونسي للشغل من طرف قوات النظام العام وبعض فرق الجيش التي ساهم انتشارها في شوارع العاصمة في ازدياد حدة المصادمات بين هذه الأخيرة التي استخدمت القنابل المسيلة للدموع والذخيرة الحية والمتظاهرين وقد انتهى يوم 26 جانفي وهو اليوم المعروف بالخميس الأسود باحتلال مقرات الاتحاد ومن ذلك مقره الرئيسي بالعاصمة من طرف قوات النظام العام وفرق الجيش بعد إخلائها من المعتصمين بها من النقابيين.
– نتائج الأزمة النقابية : من أبرز النتائج التي انتهت إليها الأزمة النقابية لسنة 1978 إضافة إلى مئات الشهداء والجرحى الذين غصت بهم المستشفيات، إلقاء القبض على قيادة الاتحاد بما في ذلك أمينة العام السيد "الحبيب عاشور" وإيداعهم السجن بل ومحاكمتهم. ووصل عدد الذين تعرضوا للمحاكمة أمام محاكم الحق العام إلى 700 من النقابيين، أما الذين حوكموا أمام محكمة أمن الدولة فيقدر عددهم ب 130 ووصفت المحاكمات بالصورية وبأنها المسرحية. كما عرفت تلك الفترة سن قانون الخدمة المدنية الذي مكن السلطة من إنشاء المحتشدات الطلابية وإجبار الطلبة على العمل في المشاريع الصحراوية بصفة إجبارية. كما كان من نتائج الخميس الأسود القضاء على استقلالية الحركة النقابية التونسية وجعل الاتحاد مجرد أداة من أدوات الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم عبر تكوين مكتب تنفيذي جديد من طرف بعض النقابيين المنتمين للحزب الحاكم وإضفاء الشرعية على ذلك من خلال انعقاد مؤتمر خارق للعادة للاتحاد افتتحه الوزير الأول نفسه ولكنه كان يفتقد إلى أية مصداقية أو شرعية قاعدية ([12]).
– انتفاضة الخبز لسنة 1984 :
– في معنى الانتفاضة : انتفاضة الخبز لسنة 1984 هي مجموعة من الأحداث التي عاشتها البلاد التونسية في بداية شهر جانفي من سنة 1984. وهي عبارة عن حركة احتجاجية شملت مختلف المناطق كنتيجة مباشرة للقرار الذي اتخذته الحكومة التونسية والمتمثل في رفع الدعم على العجين ومشتقاته ومن ذلك الخبز الذي يمثل مادة غذائية أساسية بالنسبة لقطاعات واسعة من الفئات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة. تجسدت هذه الحركة الاحتجاجية في مجموعة من المظاهرات انطلقت من جنوب البلاد وتحديدا من منطقة نفزاوة (ولاية قبلي) في نهاية شهر ديسمبر من سنة 1983 لتمتد إلى منطقتي الجنوب والوسط الغربيين قبل أن تتوسع لتشمل مختلف جهات البلاد. لقد أسفرت هذه الحركة الاحتجاجية التي استمرت لفترة لا تقل عن العشرة أيام عن سقوط ضحايا من القتلى والجرحى، هذا علاوة عن مئات المعتقلين والسجناء ولم تتوقف هذه الحركة إلا بعد أن اتخذ الرئيس بورقيبة قرارا يتم بموجبه إرجاع الأسعار إلى ما كانت عليه مبررا هذا الموقف بقوله "ليكن في علم الشعب أني لم أوافق إدخال شيء من الترفيع إلا عندما قيل لي أن الخبز أضحى يعطى للبقر ويلقى في المزابل".
– أسباب الانتفاضة : لا شك أن السبب المباشر لهذه الانتفاضة هو القرار الذي اتخذته الحكومة التونسية والمتمثل في رفع الدعم عن العجين ومشتقاته بعد أن تم إلغاء صندوق التعويض وما لذلك من أثر على المستوى الغذائي للشرائح الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة.
إن الحركة الاحتجاجية المعروفة بانتفاضة الخبز هي نتيجة لجملة من الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها البلاد مع نشأة الدولة الحديثة بداية من سنة 1957.
- المستوى السياسي : عرفت تونس نظاما سياسيا قائما على مبدأ الحزب الواحد وعلى الاندماج الكلي بين مؤسسة الدولة والحزب واختزال كل ذلك في شخصية الرئيس بورقيبة الذي هيمن بصفة مطلقة على الحزب ومؤسسات الدولة ورفض أي تعدد فكري أو سياسي حقيقي أو شكلي طيلة الفترة الممتدة من سنة 1963 تاريخ حضر نشاط الحزب الشيوعي إلى سنة 1981 تاريخ السماح بالنشاط المقيد لمجموعة من الأحزاب -(الحزب الشيوعي، حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحزب الوحدة الشعبية)- التي بقي نشاطها محدودا وضعيفا في ظل الخيار الأمني للسلطة تحت تأثير أحداث 26 جانفي 1978 وحركة قفصة المسلحة لسنة 1980 ([13]).
- المستوى الاقتصادي : تجدر الإشارة إلى أن الاقتصاد التونسي وبالرغم من انطلاقته شبه الليبرالية نشأ في أحضان الدولة. تدعم هذا التوجه منذ بداية الستينات عندما أخذت الدولة على عاتقها إنشاء المؤسسات العمومية وتأميم أراضي المعمرين وحل الأحباس. جاء هذا التوجه رغم إقرار الدولة باحترام القطاع الخاص و الإبقاء عليه مع إلزامه بالعمل ضمن السياسة العامة للدولة ودعوته إلى التحول من التجارة والمضاربة العقارية إلى الأنشطة المنتجة وهو ما أطلق عليه البعض تجديد القطاع الخاص([14]). لقد أدى هذا التوجه إلى بروز مركزية دور الدولة وتحولت إلى ما أصبح يعرف فيما بعد برأسمالية الدولة القائمة على مبدأ التخطيط الاقتصادي أو سياسة التعاضد التي ارتبطت باسم "أحمد بن صالح". إلا أن خيار الاقتصاد الموجه لم يدم طويلا فمع بداية عشرية السبعينات أقرت الدولة مبدأ الليبرالية الاقتصادية على أرضية نتائج مؤتمر المنستير للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم الذي أقر ما يلي :
- حل العديد من التعاضديات التجارية
- التفويت في بعض الأراضي المؤممة
- بروز شعار تطهير المؤسسات الصناعية وتحويلها من القطاع العام إلى القطاع الخاص.
أدى كل ذلك إلى إصدار جملة من التشريعات والقوانين، مثلت إطارا قانونيا ساعد على التحول نحو الليبرالية الاقتصادية، من أبرزها قوانين أفريل لسنة 1972 وقوانين أوت لسنة 1974 التي تفسح مجال حرية الاستثمار أمام الرأسمال المحلي والأجنبي. كما تم إصدار قانون ديسمبر لسنة 1973 المتعلق بخلق صندوق للتنمية واللامركزية الصناعية وما تلا ذلك من إحداث وكالة النهوض بالاستثمارات والوكالة العقارية الصناعية ومركز النهوض بالتصدير. ساعدت هذه الإحداثات على إنشاء 800 مؤسسة وفرت 100 ألف موطن شغل([15])، مما دعم مسار التخصيص الاقتصادي الذي سيتحول لاحقا إلى سياسة إصلاح هيكلي يتم بموجبها تفريط الدولة في مؤسستها العمومية لفائدة القطاع الخاص.
- المستوى الاجتماعي : أفضى مجموع الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية إلى تفقير وتهميش العديد من الشرائح الاجتماعية بعد أن تدعم ذلك بسياسة عدم التوازن الجهوي، فقد توزعت الاستثمارات الاقتصادية كما يلي :
- تحوز منطقة تونس 39 % من نسبة الاستثمارات و34% من التشغيل
- تحوز مناطق سوسة، المنستير، نابل وبنزرت على 44 بالمائة من الاستثمارات وعلى 52 بالمائة من نسب التشغيل
- تتوزع نسبة 17 بالمائة من الاستثمارات و14 بالمائة من نسب التشغيل على بقية المناطق. لا شك أن هذه السياسة سيكون لها كبير الأثر على مستويات عديدة من ذلك تنامي ظاهرتي البطالة والنزوح وبروز الأحياء القصديرية والأحزمة الحمراء المحيطة بالعاصمة والمدن الكبرى وهي الفضاءات التي شهدت تراكم ظواهر التهميش والمهمشين الذين سيشكلون وقودا لاشتعال الأزمات الاجتماعية وظواهر الاحتجاج الشعبي من ذلك انتفاضة الخبز لسنة 1984.
– مظاهر الانتفاضة : انطلقت أحداث انتفاضة الخبز لسنة 1984 من مدينة دوز بالجنوب التونسي بمناسبة السوق الأسبوعية في 29 ديسمبر 1983 في شكل مظاهرات أدت إلى المواجهة بين المتظاهرين وقوات النظام العام. انتشرت الظاهرة لتشمل مدينة قبلي المجاورة في اليوم الموالي متخذة طابعا عنيفا بعد أن اتسعت لتشمل مدينة الحامة. ومع دخول مشروع الزيادة في أسعار العجين ومشتقاته حيز التنفيذ يوم 1 جانفي 1984 شملت الحركة الاحتجاجية مناطق الشمال والوسط الغربي في الكاف والقصرين وتالة وبقية مناطق الجنوب في قفصة وقابس ومدنين، مما استدعى دخول الجيش لهذه المناطق بعد أن سجل عجز قوات النظام العام في الحد من توسع الانتفاضة. ومع إعلان وزارة الداخلية يوم 2 جانفي عن سقوط قتلى وجرحى في مناطق قبلي والحامة والقصرين وقفصة، دخلت المنطقة الصناعية بقابس في إضراب شامل ومسيرات كبرى شارك في تنظيمها كل من العمال والطلاب. كما التحق طلبة الجامعات والمدارس الثانوية في مدن تونس وصفاقس بالشوارع معبرين عن رفضهم إلغاء الدعم عن العجين ومشتقاته. في يوم 3 جانفي بلغت الانتفاضة أوج أحداثها وباتت المواجهة مفتوحة بين المتظاهرين من ناحية وقوات النظام العام والجيش من ناحية أخرى، وأصبح العنف سيد الموقف فأحرقت المحلات والسيارات والمؤسسات والحافلات في شوارع العاصمة وضواحيها وفي كثير من المدن في الساحل وفي الدواخل. لقد نجم عن ذلك إطلاق الرصاص وسقوط مزيد من القتلى والجرحى في صفوف المتظاهرين، قبل أن يقرر رئيس الدولة احتلال شوارع العاصمة بواسطة الجيش وإعلان حالة الطوارئ ومنع كل تجمع بالطريق العام والساحات العامة يفوق ثلاثة أشخاص هذا علاوة على منع جولان الأشخاص والعربات من الخامسة مساء إلى السادسة صباحا. ورغم إقرار الوزير الأول السيد "محمد مزالي" بأن تلك الإجراءات نهائية وغير قابلة للتراجع و المراجعة فإن المظاهرات المعادية للحكومة ولاختياراتها قد تواصلت في اليوم التالي أي يوم 4 جانفي 1984 في كثير من مناطق البلاد وفي العاصمة وضواحيها. كما أن العطلة القسرية التي منحت للجامعات ومختلف المؤسسات التربوية أيام 4 – 7 جانفي 1984 وما صاحب ذلك من إعتقالات في صفوف من تطلق عليهم الحكومة صفة "المجرمين والمخربين" لم يحل دون تواصل الحركة الاحتجاجية التي لم تتوقف إلا مع إعلان رئيس الدولة التراجع عن تلك الإجراءات وإعادة النظر في الميزانية الجديدة في فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية المنهارة وعدم تحميل المواطن أعباء هذا التدهور.
- نتائجها :
تشير الأرقام المتوفرة إلى أن عدد ضحايا حركة جانفي الاحتجاجية بلغ 143 قتيل ([16]) و400 جريح و100 حالة إيقاف و100 مليون من الخسائر المادية ([17]). إن الخسائر البشرية والمادية وما صاحبها من حركة احتجاجية تعكس عمق درجة الرفض التي وصل إليها الشارع لخيارات الحكومة وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بإملاءات صناديق التمويل الدولية. إن هذه الخيارات لم تكن وليدة سياسات نابعة من واقع المجتمع وديناميته الاقتصادية والاجتماعية. مما أحدث أزمة في أوساط الحكومة فأقيل وزير الداخلية "إدريس قيقة" ووجهت الاتهامات إلى البعض من أعوانه مثل كاتب الدولة والمسؤول عن ولاية الشرطة نظرا إلى الإخلال بواجباتهما كما عين بورقيبة فريقا أمنيا جديدا سيكون له دور إنهاء الفترة البورقيبية لاحقا .
ثالثا : الأزمات السياسية :
– الأزمة اليوسفية والمحاولة الانقلابية لسنة 1962 :
اليوسفية : ترمز هذه الكلمة إلى ظاهرة سياسية –اجتماعية تبلور ظهورها قبل أن يلتحق بها "صالح بن يوسف" نفسه، إذ يعود ظهورها إلى سنة 1952 تاريخ بروز المجموعات المسلحة التي ترى في العمل المسلح الأسلوب الأسلم لمقاومة الاستعمار الفرنسي. تجسد هذا الموقف في تجربة "جيش التحرير الشعبي" الذي أسسه "الطاهر لسود" والذي تبلور بصورة أوضح مع توقيع اتفاقيات الاستقلال الداخلي سنة 1955. برزت اليوسفية كحركة تحررية أثناء الفترة الاستعمارية مشكلة رد فعل مسلح على وجود الاستعمار في تونس والمغرب العربي، واليوسفيون هم أنصار الزعيم "صالح بن يوسف" الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد. عرفت اليوسفية تأييد تيارات فكرية وأحزاب سياسية ومنظمات نقابية وعناصر وطنية وأخرى ثورية آمنت بالكفاح المسلح([18]). واستطاعت أن تكسب تأييد الغالبية العظمى من الشعب التونسي، ثبت ذلك من خلال إحصاء الشعب الدستورية المنتمية إلى الحركة اليوسفية التي قدر عددها في حدود 747 شعبة([19]). واليوسفية ليست أيديولوجيا وليست نظرية في كيفية التحرر من الاستعمار، وإنما هي حركة سياسية ذات هوية مغاربية وذات عمق عربي إسلامي، وهي نتيجة لعوامل ذاتية وأخرى موضوعية، تجسدت الأولى في قدرة الأستاذ "صالح بن يوسف" على تجديد شخصيته السياسية بصورة جذرية بعد أن برزت الظروف الموضوعية المساعدة على ذلك مجسدة في بروز مصر كقاعدة خلفية للحركات الاستقلالية في الوطن العربي بعد قيام ثورة الضباط الأحرار سنة 1952، هذا علاوة على انعقاد مؤتمر باندونغ بأندونيسيا الذي حضره "بن يوسف" وهو المؤتمر الذي أرسى مبادئ عدم الانحياز([20]). لقد خاضت اليوسفية معركتين متوازيتين، الأولى ضد الدولة الاستعمارية والثانية ضد الجماعة البورقيبية أو ما يسمى بجماعة الديوان السياسي التي حسم الصراع لصالحها بفضل دعم الإدارة الاستعمارية، وما انفك الصراع أن تحول بين حزب الأمانة العامة و الدولة الناشئة التي أصبح بورقيبة رئيسها بعد وضع حد لنظام البايات وإعلان الجمهورية سنة 1957 والتي تمكنت من تصفية المجموعات اليوسفية المعارضة بفضل الدور الذي قامت به "لجان اليقضة " البورقيبية وما تبعه من محاكمات صورية وعمليات إعدام وتصفية كان آخرها اغتيال "صالح بن يوسف " نفسه يوم 11 أوت 1961 بمدينة فرنكفورت الألمانية ([21]).
- المحاولة الانقلابية : توصف بأنها محاولة لتغيير نظام الحكم في تونس، اشترك في القيام بها مجموعة من العسكريين والمدنيين([22]).
- أسباب المحاولة الانقلابية : تنقسم هذه الأسباب إلى قسمين، داخلية وخارجية :
- الأسباب الداخلية : تتعلق باستغلال بورقيبة للشرعية النضالية ليتحول إلى "حاكم مستبد سخر الدولة وأجهزتها لبناء شخصية أسطورية ملهمة مستخفا بالشعب وقدراته وقيمه مشككا في إمكانياته فهو بالنسبة له غبار من البشر"([23]). وهو ما شكل مقدمة للقضاء على مكونات المجتمع المدني جنينية التشكل، وتدجين اتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين والمنظمات الشبابية. كما تم استئصال كل معارضة لعل أبرزها المعارضة اليوسفية وما يعنيه ذلك من تهميش للمقاومين واصفا إياهم بأنهم "... أشخاص بسطاء، فبعد مرحلة الجبال شهدوا كيف أن الجبش الفرنسي ينسحب بين عشية وضحاها وكيف أصبحت الوزارات بين أيدي تونسيين فأصيبوا بنوع من النشوة وصورت لهم عقولهم البسيطة أنهم انتصروا على فرنسا واحتفلوا بذلك، وكان لزاما علينا أن لا نتركهم يفقدون الصواب... "([24])، وهي الأرضية التي تساعد على بلورة دور الحزب الواحد والزعيم الأوحد كطريقة في الحكم. بالتوازي مع ذلك سن بورقيبة مجموعة من القوانين الاستثنائية ما بين 1957 و1959 قدرت ب375 قانونا، لعل أكثرها إثارة قانون الفصل 13 الذي يسحب حق المواطنة على المواطن التونسي وقانون 59 الذي يسمح بانتزاع الممتلكات ([25])، وأحدث محكمة أمن الدولة التي تصدر أحكاما نافذة غير قابلة للاستئناف لتولي المحاكمات السياسية، وخطة المدعي العام. وسمح بورقيبة لنفسه أن يعبث بالمؤسسة الدينية من خلال غلق الجامعة الزيتونية وحل جمعية الأحباس والاستخفاف بالقيم الإسلامية([26]). لقد دعمت هذه العوامل الأزمة الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد نتيجة فشل التوجه الليبرالي لفترة الخمسينات، والشروع في تطبيق سياسة الاقتصاد المخطط، وتدعيم التفاوت الجهوي بين الساحل والشمال الشرقي وبقية مناطق البلاد في الشمال الغربي والجنوب ([27]).
- الأسباب الخارجية : يقصد بذلك أساسا ما يعرف في تاريخ تونس المعاصر بمعركة بنزرت التي يرى فيها منظمو المحاولة الانقلابية عملية فاقدة للمبررات الموضوعية وللحسابات السياسية الدقيقة خاصة وأن الرئيس الفرنسي "ديغول" كان قد وعد بالجلاء عن بنزرت بمجرد الانتهاء من مشكلة الجزائر ([28]). إلا أن بورقيبة اختار الزج بآلاف العسكريين والمتطوعين في معركة غير معدة سلفا وغير متكافئة عسكريا انتهت بسقوط ما بين 5000 و6000 من الشهداء([29]). وبذلك استطاع كسب تعاطف العالم الثالث وبلدان عدم الانحياز وتأييد الزعيم المصري "جمال عبد الناصر" الذي سيزور تونس لاحقا بعد أن كان أكبر خصم ل "بورقيبة" بسبب تأييده واحتضانه ل"صالح بن يوسف". بالتوازي مع ذلك تمكن "بورقيبة" من التخلص من كثير من معارضيه من الثوار اليوسفيين الذين رفضوا تسليم أسلحتهم ولكنهم كانوا ضحية للخدعة البورقيبية.
- أطراف المحاولة الانقلابية : إذا صح القول بوجود أطراف وراء المحاولة الانقلابية لسنة 1962، فيمكن الإشارة إلى طرفين رئيسيين هما العسكريين والمدنيين. أما العسكريون فعددهم سبعة كما يبرزهم الجدول التالي([30]):

الاسم واللقب
الصفة
محمد الحبيب بركية
خريج مدرسة سانسير العسكرية الفرنسية
محمد قيزة
"
المنصف الماطري
"
عمر البنبلي
ضابط سابق بالجيش المصري والجيش السوري
عبد الصادق بن سعيد
ضابط بالجيش الفرنسي أو بحرس الباي أثناء فترة الاستعمار الفرنسي
كبير المحرزي
نقيب مكلف بحراسة القصر الرئاسي
صالح الحشاني
ملازم مشرف على حامية قفصة
أما المجموعة المدنية، فقد قدر عددهم بعشرين شخصا من بينهم عشرة ذوي أهمية كما يبرزهم الجدول التالي([31]):
الاسم واللقب
الصفة
الهادي القفصي
أصيل منزل جميل – قفصة
الحبيب حنيني
المندوب المساعد للحزب الدستوري ببنزرت
لزهر الشرايطي
مقاوم قديم وأصيل مدينة قفصة
عبد العزيز العكرمي
أستاذ عربية، ناشط يوسفي، أصيل قفصة
أحمد الرحموني
خريج الجامع الأعظم، أصيل تالة، أستاذ بالشعبة العصرية بمعهد ابن شرف، يوسفي الانتماء
المسطاردي بن بوبكر بن سعيد
لاجئ بالجزائر، ناشط يوسفي
الساسي بويحي
مقاوم قديم، أصيل قفصة
محمد صالح البراطلي
مقاوم قديم، أصيل بنزرت، ناشط يوسفي
أحمد التيجاني
يشتغل بالقضاء قبل أن يقال ليمتهن الفلاحة بجهة الكاف
عز الدين الشريف
معلم، أصيل قفصة، ناشط يوسفي
يشير أحد المشاركين في المحاولة الانقلابية إلى أن انقسام عملهم إلى قسمين يعكس وجود مرحلتين تولت العناصر المدنية الإعداد لها عبر تمرد مدينة قفصة بقيادة "عبد العزيز العكرمي" و"أحمد الرحموني" و"الزموري" و"الشرايطي"، على أن تدوم فترة التمرد بين يومين وأسبوع حتى تصلهم التعزيزات والدعم من الجزائر التي تولى التنسيق معها "إبراهيم طوبال" و"المسطاردي بن سعيد" كما هو الشأن بالنسبة للتنسيق مع مصر ([32]). وتولت العناصر العسكرية إعداد خطة للقيام بانقلاب عسكري بعد أن تبين استعداد عدد كبير من الضباط للمشاركة في ذلك وقد تولى "عمر البنبلي" عملية التنسيق بين الطرفين العسكري والمدني نظرا لقيامه بنفس الدور في انقلاب عسكري في دمشق. إلا أن المحاولة فشلت بسبب الرغبة التي أبداها العسكريون في الانفراد بالعملية الانقلابية وبالتالي تأجيلها وما صاحب ذلك من وشاية أحد الضباط الصغار([33]).
-نتائج المحاولة الانقلابية : إذا أمكن الحديث عن نتائج هذه المحاولة فلابد من الإشارة إلى الفشل التام في تحقيق هدفها الرئيسي المتمثل في إزاحة "بورقيبة" من هرم السلطة. بل إن نتائجها كانت وخيمة على القائمين بها في مستوى أولى ظروف الاعتقال- التي تصفها إحدى الشهادات بأنها "كانت مرعبة ولا يستطيع أحدا أن يتصور كيف يتواصل بقاء إنسان على قيد الحياة وهو مغلول في سلسلة مشدودة إلى حائط وطولها 80 صم فقط لمدة 7 سنوات كاملة بـ37 درجة في دهليز مظلم، وقد أذاقنا مدير السجن... الأمرين فلم يمكننا من الأحذية رغم قسوة البرد في الدهليز، ثيابنا رثة ممزقة وسخة يرعى فيها القمل ويتغذى من أجسادنا الهزيلة... إلخ"([34])- وفي مستوى الأحكام الصادرة في حق "الانقلابيين" التي تراوحت بين الإعدام والأشغال الشاقة والسجن. فقد "حكمت المحكمة بإعدام "عمر البنبلي" و"كبير المحرزي" و"صالح الحشاني "وعبد الصادق بن سالم" و"المنصف الماطري" و"حمادي قيزة" و"الحبيب بركية"وكلهم من العسكريين و"الحبيب حنيني" و"الهادي القفصي" و"الأزهر الشرايطي" و"عبد العزيز العكرمي" و"أحمد الرحموني" و"المسطاردي بن سعيد" (في حالة فرار) وكلهم من المدنيين، وبالأشغال الشاقة المؤبدة على "محمد الصالح البراطلي" و"الساسي بويحي"، وبعشرين عاما أشغالا شاقة على "العربي العكرمي" و"علي كشك" و"عبد القادر بن يشطر" و"أحمد التيجاني" و"تميم بن كامل التونسي "وعشر سنوات أشغال شاقة على "علي القفصي" و"عز الدين الشريف"، وخمسة أعوام أشغالا شاقة على "علي الكفلي الشواشي"، وعامين سجنا على "محمد العربي المثناني" و"حسن مرزوق"، وعام سجنا على العربي الصامت. وقد نفذت أحكام الإعدام في المحكوم عليهم بتاريخ 24 جانفي 1963، مع استثناء "المنصف الماطري" و"محمد قيزة" الذين أبدل الحكم في شأنهما إلى الأشغال الشاقة المؤبدة([35]).
2 – عملية قفصة المسلحة لسنة 1980 :
- كرونولوجيا الأحداث : عملية قفصة هي عملية مسلحة جرت في الليلة الفاصلة ما بين 26 و27 جانفي 1980، تولت القيام بها مجموعة من الأشخاص قدر عددهم بحوالي 60 مسلح هاجموا مراكز الشرطة والحرس وثكنتين بالمدينة قبل أن يوجهوا دعواتهم إلى الأهالي للانضمام إلى "الثورة المسلحة "والإطاحة "بالنظام البورقيبي" ([36]). وقد وزعت المهام على خمس مجموعات هي على التوالي :
- مجموعة "أحمد المرغني "، تتكون من 23 شخصا وستتولى مهاجمة ثكنة "أحمد التليلي"
- مجموعة "بلقاسم كريمي" و"عبد المجيد الساكري"، مهمتها مهاجمة مركز الشرطة بالمدينة
- مجموعة "حسين نصر العبيدي" و"عبد الرزاق نصيب" تهاجم مركز الحرس
- مجموعتا كل من "العربي الورغمي" و"نور الدين الدريدي" من جهة و"عز الدين الشريف" من جهة ثانية تتوليان مهاجمة ثكنة الجيش داخل المدينة ([37]).
بدأت الأحداث بإطلاق قذيفة بازوكا كإشارة انطلاق، ونجحت بعض المجموعات في الاستيلاء على بعض المراكز الأمنية قبل أن تلتحق بمهاجمي الثكنة العسكرية بالمدينة. وتمكن "أحمد المرغني" من السيطرة على الثكنة العسكرية الخارجية بعد أن أسر من فيها. في مقابل ذلك أبدت الثكنة الداخلية مقاومة حالت دون الاستيلاء عليها([38]). تمكن المهاجمون في صبيحة يوم 27 جانفي من السيطرة على المدينة بعد أن سقطت المراكز الأمنية وثكنة الجيش الخارجية في أيديهم ولم يبق إلا جيب مقاوم بالثكنة الداخلية. لكن ذلك لن يستمر طويلا بسبب عدم استجابة سكان مدينة قفصة للنداءات المتكررة لحمل السلاح والالتحاق بـ"الثورة "، وبسبب غياب التنسيق بين مختلف المجموعات مما أدى إلى فشل قياداتها في تشكيل "حكومة مدنية". تدعم هذا الفشل بدخول قوات الجيش المدينة وإعلان السيطرة عليها. وبالتوازي مع سير العملية المسلحة يمكن الإشارة إلى بعض الأحداث التي من أبرزها :
- قتل رجل شرطة وأسر أعوان آخرين عند الاستيلاء على مركز الشرطة
- تعطيل حافلة جزائرية واستخدامها كحاجز من طرف "الثوار" بعد أن تم إيقاف ركابها في شكل رهائن
- قتل شخصين في سيارة رفضت الامتثال
- قتل عضو لجنة التنسيق الحزبي الذي جاء يستفسر عما يحدث باعتباره مسؤولا حزبيا
- رفع النداءات عبر مضخم الصوت للالتحاق بالثورة و"الإطاحة بحكم بورقيبة الطاغية وحزبه ووزرائه السراق"
- محاولة "الشريف " التنسيق مع بعض الوجوه النقابية والمعارضين لكن بدون جدوى
- أسر ثلاثة أعوان شرطة من طرف مجموعة يقودها متطوع من الداخل
- احتجاز 300 جندي كأسرى بقاعة رياضية بالمعهد الثانوي
- رصاصة طائشة تصيب "محمد صالح المرزوقي" أحد قادة العملية، ينقل على إثرها إلى المستشفى
- المهاجمون ينسحبون وينتهي الأمر بإلقاء القبض على "أحمد المرغني" القائد العسكري للعملية بضواحي حامة قابس يوم 6 فيفري واستسلام "عز الدين الشريف" قائدها السياسي ([39]).
- عوامل اختيار قفصة :
لقد ساعدت عدة عوامل على اختيار مدينة قفصة مكانا وزمانا، ولم يكن ذلك وليد الصدفة. فقفصة التي تبعد عن الحدود الجزائرية حوالي 100 كلم وعن الحدود الليبية قرابة 700 كلم، شكلت مركز استقطاب تاريخي لأغلب الحركات الرافضة للسلطة الحاكمة سواء كان ذلك أثناء الفترة الاستعمارية أو إبان فترة الحكم البورقيبي. فالمعروف لدينا أن قفصة بفضل مناجمها وما نشأ بالتوازي مع ذلك من حركة عمالية كانت من الفضاءات المبجلة للحركة النقابية المعروفة باسم "جامعة عموم العملة التونسيين" التي أسسها الزعيم النقابي "محمد علي الحامي". وهي إحدى ملا ذات الحركة اليوسفية وجيش التحرير الشعبي الذي أسسه "الطاهر لسود" أو ما كان يطلق عليه "بورقيبة" تسمية "الفلاقة" الذين رفضوا تسليم أسلحتهم بعد توقيع اتفاقية الاستقلال الداخلي سنة 1955، وبرتوكول الاستقلال سنة 1956. كما كانت قفصة مركز دعم وتمويل وتسليح للثورة الجزائرية، قبل أن تكون المكان الذي اختارته مجموعة من العسكريين والمدنيين اليوسفيين للتخطيط وانطلاق "حركتهم الانقلابية" لسنة 1962. وهي بالإضافة إلى ذلك موطن "عز الدين الشريف " القائد السياسي لعملية قفصة وأحد أبرز وجوه المحاولة الانقلابية السالفة الذكر. كل هذه العوامل جعلت من قفصة موطنا لعدم الاستقرار السياسي فحضيت باختيار منفذي العملية المسلحة([40]). تدعم ذلك ببعض المعطيات الأخرى لعل أبرزها قرب الحدود الجزائرية مما سهل توفير الأسلحة والقدرة على التسلل والانسحاب، وانتماء "عز الدين الشريف" القائد السياسي للعملية لجهة قفصة ساعد على إعطاء دور للعامل القبلي خاصة وأن عرش "أولاد عبد الكريم" الذي ينتمي إليه "الشريف" عرف عنه تمرده على السلطة المركزية أثناء حكم البايات بل وافتكاك المجبى من المحلة.
بالتوازي مع كل ذلك شكلت قفصة مركزا للتأزم الاجتماعي بعد أن انعكست عليها نتائج الاختيارات التنموية الفاشلة لفترة السبعينات من القرن العشرين ([41]). إن ظاهرة البطالة المتنامية في قفصة ستدفع إلى بروز وعي عمالي ونقابي في الفضاءات المنجمية وإلى تنامي حركة الهجرة إلى ليبيا التي قدرت في حدود 51 بالمائة ([42]).
لقد وجد منفذو العملية في هذه العوامل مجتمعة الأرضية المناسبة للاختيار المكاني والزماني، إن عملية قفصة في رأي منفذيها هي امتداد لرد فعل شعبي ساخط على الاختيارات الاقتصادية التي عمقت الفروق الاجتماعية وكرست الاستبداد السياسي، فهي في نهاية الأمر امتداد للانتفاضة العمالية التي عرفتها البلاد سنة 1978 إذا لم تكن إحياء لذكراها بالطريقة المناسبة.

– من يقف وراء عملية قفصة ؟
- منفذو العملية : بالرغم من انتماء منفذو العملية للجبهة القومية التقدمية ([43]) ذات التوجه العروبي – اليوسفي، فإنه لم يتم التركيز على تلك الخلفية السياسية والاكتفاء بالنظر إلى تلك الأحداث على أنها من فعل "مكتب الاتصال الخارجي" أحد مؤسسات جهاز الاستخبارات الليبي الذي يحتل مكانة مرموقة لدى القيادة الليبية ([44]).
- بعض الخصائص العامة : ينتمي ما يزيد عن 68 % من المشاركين في عملية قفصة إلى الفئة العمرية ما بين 20 و 30 سنة أما النسبة المتبقية فتتراوح أعمارهم ما بين 31 و 60 سنة. وتقدر نسبة العزاب ب65 % وهي النسبة التي يحتلها من لهم سوابق من بينهم 14 % ذوي سوابق سياسية وحوالي 86 % ذوي سوابق مدنية. يشتغل 81 % من منفذي العملية في أشغال يدوية (البناء، الدهن، النجارة، التجارة والعمل الفلاحي) ولا يشتغل بالعمل الفكري سوى شخص واحد هو "الشريف" الذي كان يعمل بالتعليم وله تكوين زيتوني. وتقدر نسبة العاطلين بحـوالي 10 %. فيما يتعلق بالانتماء الجغرافي فغالبية منفذي العملية ينتمون إلى الولايات الداخلية حيث تصل نسبتهم إلى أكثر من 78 % وتتوزع النسبة المتبقية بين الولايات الساحلية ب حوالي 10 % والعاصمة بحوالي 13 % ([45]).
تبين لنا النسب المعتمدة أن أغلبية أفراد الكمندوس المسلح هم من الشباب غير المرتبطين بعلاقات زوجية، وهو ما ساعد على تجنيدهم في حقل "العمل المسلح" في ظروف اتسمت بالهجرة إلى ليبيا بحثا عن شغل يوفر دخلا قارا بعد أن تعذر عليهم الحصول على ذلك في موطنهم الأصلي، هذا الموطن الذي لم ينل حظه بدوره من المشاريع التنموية. إن النسب المعتمدة تشير بوضوح إلى أن الغالبية العظمى من منفذي العملية هم أصيلي الولايات الداخلية التي ينتمي إليها أغلب المهاجرين إلى ليبيا.
- قيادة العملية : تمركزت قيادة عملية قفصة المسلحة في أيدي شخصين اثنين هما "عز الدين الشريف" القائد السياسي و"أحمد المرغني " القائد العسكري ([46]).
- "عز الدين الشريف" : أصيل مدينة قفصة، درس لمدة سنتين بالمدرسة الفرنسية العربية قبل أن يلتحق بفرع جامع الزيتونة بقفصة سنة 1948 أين أحرز على الشهادة الأهلية، ثم واصل دراسته بالجامع الأعظم حيث أحرز على شهادة التحصيل قبل أن ينتمي إلى شعبة الآداب و اللغة العربية. في سنة 1957 عمل في سلك التعليم الابتدائي بعد مشاركته في مناظرة في الغرض. شارك سنة 1962 في المحاولة الانقلابية للإطاحة بنظام الحكم مما أدى إلى سجنه 10 سنوات مع الأشغال. بعد انقضاء العقوبة بما في ذلك الفترة التكميلية عاد "الشريف" إلى سالف نشاطه المعارض فالتحق بليبيا ليجد بعض رفاقه القدامى الذين مهدوا له الطريق عبر ربطه "بمكتب الاتصال العربي"، فتوسعت دائرة نشاطه لتشمل الجزائر والبوليزاريو أين تمرس على ممارسة تهريب الأسلحة. بداية من سنة 1978 بدأ "الشريف" الإعداد لعملية قفصة صحبة رفيقه "أحمد المرغني "عبر تسريب الأسلحة إلى قفصة والإعداد البشري والمادي للعملية التي تحدد تاريخها في يوم 27 جانفي1980 ([47]).
- "أحمد المرغني" : من مواليد جرجيس بالجنوب التونسي سنة 1941، زاول تعليما ابتدائيا متقلبا انتهى به إلى الانقطاع عن الدراسة والدخول في الحياة العامة بصفة مبكرة. بدأ أولى تجاربه في الهجرة سنة 1962 عندما انتقل إلى الجزائر للعمل قبل أن يتحول إلى ليبيا سنة 1971 لنفس الغرض. وقد تغير مسار حياته بعد أن احتك ببعض وجوه المعارضة وبسبب انتمائه "للجبهة القومية للقوى التقدمية التونسية ". كلف "المرغني" في أول اختبار له بتفجير مقر الحزب الحاكم في تونس والمركز الثقافي الأمريكي وذلك في شهر جوان من سنة 1972. وقد ألقي عليه القبض قبل تنفيذ العملية وحكم عليه بخمس سنوات سجنا، قضى منها أربع سنوات فقط بسبب العفو الرآسي بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال سنة 1976. عاد بعد ذلك إلى ليبيا ليمارس نشاطه مجددا في صفوف الجبهة القومية التقدمية. ثم التحق بعد ذلك بجبهة البوليزاريو لقضاء خمسة أشهر في التدرب على الأسلحة الخفيفة، ثم انتقل إلى لبنان لتجنيد بعض التونسيين في صفوف الجبهة القومية التقدمية ([48]).
– الدور الليبي :
لقد نفت السلطات الليبية أي علاقة لها بعملية قفصة عند انطلاقتها حسب تصريح وزير خارجيتها الذي جاء فيه "الجماهيرية الليبية غير متورطة بصفة مباشرة أو غير مباشرة بالأحداث الجارية بمدينة قفصة "([49]). إلا أن ذلك مجرد موقف سياسي فرضته "العلاقات الدولية والقانون الدولي " الذي يمنع التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ثانية وتغيير نظام الحكم فيها بالقوة. إن جذور التوتر بين الجماهيرية والحكومة التونسية تعود إلى سنة 1974 تاريخ إلغاء "بورقيبة" "المعاهدة الوحدوية " بين تونس وليبيا الموقعة في 12 جانفي 1974. فقد تبنت الجماهيرية الليبية خلال تلك الفترة خطا وحدويا يقوم على خيار تحقيق فكرة الوحدة العربية بالقوة مما وضعها في موقع العداء لكثير من الأنظمة العربية التي لابد من الإطاحة بها بواسطة "لجان شعبية ثورية" تتولى مهمة إنجاز "الثورة " وتحقيق الوحدة العربية ([50]).
لا شك أن عملية قفصة لسنة 1980 كانت إحدى مخططات الجماهيرية الليبية التي لا تحتاج إلى إثبات دورها في تنظيمها عن طريق ما يعرف ب"المكتب العربي للاتصال" الذي وفر الدعم المادي والمعنوي واللوجستي والتغطية الإعلامية لعملية قفصة ([51])، التي لم تكن سوى نتيجة لالتقاء مصلحة النظام الليبي ومنفذي العملية الذين ينتمون إلى "الجبهة القومية التقدمية" ذات الانتماء العروبي. وهو التنظيم الذي له حسابات قديمة مع النظام البورقيبي في تونس ترجع إلى فترة تصفية الحركة اليوسفية والقضاء على المحاولة الانقلابية لسنة 1962. وهذه المصلحة ربما تكون محكومة بوحدة الخطاب الأيديولوجي القومي العربي، ذلك أن الجماهيرية الليبية كثيرا ما ادعت أنها وريثة النظام الناصري في مصر الذي يجمع على الانتماء إليه غالبية فصائل الحركة القومية العربية. فهل تحتاج ليبيا إلى تبرير موقفها في تبني هذه العملية وتوفير الدعم الكامل لمنفذيها ؟
- الدور الجزائري :
أصدرت السلطات الجزائرية شأنها في ذلك شأن السلطات الليبية، بيانا أكدت فيه أن حرس مراقبة الحدود لم يسجل أي تسرب لأشخاص أو لحركة مشبوهة. إلا أن "الهادي نويرة" الوزير الأول التونسي شكك في هذا الموقف معتبرا أن الحكومة الجزائرية ضالعة في أحداث قفصة. فقد استند في ذلك إلى اعترافات "عز الدين الشريف " الذي أقر بوجود علاقة تربطه بالسلطات الجزائرية وبجهاز مخابراتها، وهي العلاقة التي نسجت أثناء اشتغال "الشريف " لصالح جبهة البوليزاريو الصحراوية. يرجع هذا الموقف الجزائري المؤيد لعملية قفصة المسلحة إلى وجود جناحين داخل حزب جبهة التحرير الحاكم أحدهما ذو خلفية عروبية – إسلامية تربطه علاقات تحالف مع ليبيا([52]).
- الدور الغربي :
إذا ما استثنينا تصريحات مسؤولي بعض الدول الغربية المؤيدة لموقف الحكومة التونسية والمدينة لما أطلقت عليه "الاعتداء الليبي على تونس "، فإن الدور الحقيقي والحاسم قد تولته فرنسا. لقد صرح الرئيس "بورقيبة " "بأن فرنسا لم تتأخر عندما شعرت بأن تونس ومنطقة المتوسط في خطر بسبب عملية قفصة "([53]). وبناءا على ذلك فإن من واجب فرنسا التدخل عسكريا دون تأخر مستخدمة الطائرات والطائرات المروحية حسب تصريحات أحد مسؤوليها للشؤون الخارجية ([54]). لاشك أن هذا الموقف الفرنسي لا ينبع فقط من اعتبار فرنسا أن تونس هي مجالا حيويا من مجالاتها الاقتصادية، وإنما ينبع بالإضافة إلى ذلك من موقف أخلاقي يفرض على فرنسا حماية مستعمراتها القديمة خاصة وأن الرئيس بورقيبة قد حافظ على ولائه "للأمة الحامية " القديمة التي لاتزال ترى في وريثها أحسن مثال على تطبيق مبادئ "التحررية الغربية"، بل إنجاز ما لم تستطع فرنسا نفسها إنجازه أثناء احتلالها لتونس. إن التدخل الفرنسي الداعم لحكم الرئيس بورقيبة لإحباط عملية قفصة قد وجد معارضة من طرف تشكيلات المجتمع السياسي التي كانت أدانت هذه العملية ومنفذيها واصفة هذا التدخل بالجريمة لأنه يتنافى مع مبادئ القانون الدولي ([55]).
رابعا : إدارة الأزمات، موقف السلطة والمجتمع السياسي :
- الأزمات الاجتماعية والسياسية من منظور السلطة : يلاحظ من خلال التأمل في الأزمات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها تونس ما بين 1955 و1987 أن الذين يقفون وراء أحداثها باعتبارها حركات احتجاجية ينقسمون إلى قسمين : فمن جهة نجد فصائل الحركة القومية العربية التي نشأت مع اليوسفية وتبلورت في عدة تنظيمات (الجبهة القومية التقدمية، حركة الوحدويين الأحرار) عبرت عن معارضتها للنظام السياسي الذي وضع أسسه "الحبيب بورقيبة" في مناسبات مختلفة بدأت بمعارضة اتفاقيات الاستقلال الداخلي وانتهت بالعملية المسلحة بقفصة سنة 1980، هدفها من وراء ذلك إثبات هوية تونس العربية الإسلامية واعتبار ذلك مصدرا لشرعية مختلف أنشطتها. ومن جهة أخرى نجد شرائح الشغالين والعمال الذين أدت حركتهم الإضرابية إلى ما يعرف بـ "الخميس الأسود" في 26 جانفي 1978 بسبب الرفع في الأسعار وعدم الزيادة في الأجور، وانتهى عملهم الاحتجاجي سنة 1984 إلى ما يعرف بثورة الخبز يدعمهم في ذلك طلبة الجامعات والثانويات وشرائح اجتماعية أخرى، ويرجع ذلك إلى قرار الحكومة رفع الدعم على المواد الأساسية وخاصة العجين ومشتقاته.
في مقابل ذلك كانت الحكومة تتعامل مع هذه الحركات الاحتجاجية ومن يقومون بها على أنهم مارقون وخارجون عن القانون([56]) ولابد من التصدي لهم بواسطة الوسائل الأمنية –العسكرية وبالاعتماد على جهاز القضاء بدل من الخيار السياسي.
- الخيار الأمني العسكري : في تصفيتها للحركة اليوسفية والمحاولة الانقلابية لسنة 1962 اعتمد "بورقيبة" على "لجان اليقضة" وعلى الميلشيات التابعة "لجماعة الديوان السياسي" في البداية قبل أن يقوم بتوظيف مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، فكان "صالح بن يوسف" ضحية الأسلوب الأول وكان أنصاره ومن ذلك المجموعة التي توصف بالانقلابية ضحية الأسلوب الثاني. وقد استمرت المعالجة الأمنية للحركات الاحتجاجية المدنية والمسلحة. إذ اعتبرت السلطة السياسية قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء أحداث 26 جانفي 1978 بأنها "أشبه ما تكون بسفينة ظلت طريقها فغدت تتقاذفها أشد النزعات محافظة وتزمتا من ناحية واليسارية الممعنة في المغامرة من ناحية أخرى "و" أن كل تحركاتها وتصريحاتها تمثل أرضية للمؤامرة والتخريب"([57]). ووصف قرار الاتهام العناصر المنفذة لعملية قفصة بأنهم "حثالة الشعب". وجاء في نص التصريح بالحكم بأنهم "رهط من الشبان رسخت لهم أقدام في الشر والفساد وامتدت لهم جذور في المكر والتآمر على أمن تونس ونظام الحكم القائم فيها، وهؤلاء الأشخاص جلهم تطاردهم العدالة ويلاحقهم القانون... باعوا ضمائرهم وشرفهم فاستبدالوا الخير بالشر والرشد بالغي والهداية بالظلال وآثروا الردة القومية على سلامة الوطن الذي حبه من الإيمان "([58]).
ويكاد نفس الموقف يتكرر مع أحداث "انتفاضة الخبز" حيث وصف منفذوها بأنهم "مجرمون في حق الشعب "و"بيادق تحركها عناصر تخاف من الديمقراطية"و"بأنها نفوس مريضة وحقودة. تفتقد إلى الشجاعة والرجولة" وهي "عصابات من السفلة واللصوص عملت على تدمير تونس بأسرها "وقد وصلت الأوصاف التي أطلقت على الشرائح المشاركة في أحداث جانفي 1984 إلى نعتهم بأنهم "أعداء الشعب المجرمين والوندال الجدد وجيوب الإرهاب والسلب والحرق التي أعدت خطة جهنمية للإطاحة بالجمهورية والديمقراطية "([59]). لم تكن هذه النعوت والأوصاف التي تطلقها الحملات الصحفية للحزب الحاكم سوى مقدمات ضرورية لتبرير إعلان حالة الطوارئ وإطلاق النار على المتظاهرين والقيام بحملات اعتقال في صفوفهم مع ممارسة كل أشكال العنف ضدهم قبل تقديمهم لمحاكمات صورية أما إذا تعلق الأمر بتمرد مسلح كما هو الشأن بالنسبة لأحداث قفصة فلا بد من تدخل الجيش ونصب المحاكم الاستثنائية.
- دور القضاء : عرفت المؤسسة القضائية في تونس تحولا عميقا بداية من سنة 1956 تاريخ استلام "بورقيبة" للسلطة الذي اتخذ عدة قرارات في هذا المجال لعل أبرزها وضع حد لازدواجية القضاء وبعث قضاء موحد مشابه للقضاء الفرنسي بعد إعادة تنظيم وزارة العدل وبعث محكمة تعقيب وثلاثة محاكم استئناف وإحدى عشر محكمة ابتدائية وسبع وثلاثون محكمة ناحية([60]). بالتوازي مع تحديث جهاز القضاء العادي الذي يمكن أن يساعد على تدعيم قوة الدولة وتنظيم المجتمع على أساس القانون، أسس "بورقيبة " باعتباره رئيس الجمهورية الذي يرأس كذلك المؤسسة القضائية لظاهرة القضاء الاستثنائي مثل "محكمة القضاء العليا"التي أسندت إليها مهمة تفكيك الحركة اليوسفية والقضاء عليها. والقضاء العسكري الذي أنيطت بعهدته مهمة محاكمة مجموعة المحاولة الانقلابية لسنة 1962 وعناصر الكمندوس المسلح الذي نظم عملية قفصة سنة 1980. وتولت محكمة أمن الدولة محاكمة النقابيين سنة 1978 والمنتمين لانتفاضة الخبز سنة 1984، هذا علاوة على تولي النظر في قضايا مختلف التنظيمات السياسية السرية منها والعلنية. إن المتتبع للأحكام الصادرة عن القضاء الاستثنائي سيدرك أن هذه الأحكام كانت معدة سلفا بما تمليه الحكومة. وهو ما يعكس وجود علاقة غير سوية بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية جعل هذه الأخيرة في موقع التبعية للأولى رغم تبني شعار استقلالية القضاء والفصل بين السلطات. لقد أدى كل ذلك إلى فقدان المؤسسة القضائية أثناء الفترة البورقيبية لمصداقيتها وجعل شرائح اجتماعية واسعة وتنظيمات سياسية عديدة يشعرون بقهر السلطة وظلمها([61])، ويفتقدون إلى مؤسسة قضائية قادرة على حماية المجتمع بصورة عامة والمجتمع السياسي بصورة خاصة باعتباره يسعى إلى إرساء قواعد التعدد والتداول على السلطة واحترام القانون بدل الحكم الكلياني الذي أرساه "بورقيبة" وساهم في إجهاض مقاومته جهاز القضاء.
- موقف المجتمع السياسي : لقد كان موقف المجتمع السياسي في تونس من الأزمات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها البلاد ما بين 1957 و1987 والحركات الاحتجاجية التي وقفت وراءها محكوما بخلفيات أيديولوجية – سياسية. ففي حين عرفت أحداث 26 جانفي 1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984 ما يقرب عن الإجماع حول شرعيتها من طرف المشتغلين بالحقل السياسي خارج دائرة السلطة، فإن الأمر كان مختلفا بالنسبة للمحاولة الانقلابية سنة 1962 وعملية قفصة سنة 1980. وسنكتفي في هذه الدراسة بالتعرض لموقف المجتمع السياسي لنموذجين اثنين هما عملية قفصة وانتفاضة الخبز.
- عملية قفصة : تميز موقف غالبية أطراف المجتمع السياسي التونسي من عملية قفصة بنوع من الازدواجية القائمة على إدانة العملية والقائمين بها والواقفين ورائها، وفي الوقت نفسه مطالبة النظام بإصلاحات ديمقراطية. فقد أرسلت المجموعة الملتفة حول جريدة الرأي وأصبحت تعرف فيما بعد بحركة الديمقراطيين الاشتراكيين برقية إلى رئيس الدولة جاء فيها أن البلاد تجتاز ظرفا خطيرا مستنكرة اللجوء إلى العنف لحل المشاكل الوطنية وداعية إلى إنشاء مجلس وطني يضم رجالا من مختلف الاتجاهات. وحملت هذه المجموعة "العقيد القذافي" مسؤولية تلك الأحداث. كما اعتبر وفد حركة الديمقراطيين الاشتراكيين في مقابلة مع الرئيس "بورقيبة "أن " خير سبيل لصيانة البلاد وتدعيم الدولة هو تجسيم العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي "([62]). وندد "احمد بن صالح" مؤسس "حركة الوحدة الشعبية" بالتدخل الأجنبي في تونس – دون أن يكون ذلك مقتصرا على التدخل الليبي – معتبرا أن "البلاد تعيش أزمة تقارب اليأس نتيجة وضع سياسي واقتصادي واجتماعي... وأن الحل يتمثل في احترام الحريات العامة وإقامة عدالة اجتماعية حقيقية والممارسة الفعلية للسلطة من طرف الشعب "([63]). واستغل الحزب الشيوعي التونسي هذه المناسبة للتنديد بالتدخل الليبي في الشؤون التونسية وبالمغامرة المسلحة التي تنطلق من مفاهيم مبسطة ومخطئة بالنسبة للواقع التونسي، معتبرا أن الظرف الراهن يقتضي العفو العام عن المساجين السياسيين والنقابيين وإطلاق الحريات الديمقراطية([64]). أما منظمة العامل التونسي فقد أصدرت بيانا جاء فيه "أن منظمتنا تدين هذه العملية في شكلها ومضمونها وترى فيها اعتداءا سافرا على استقلالنا وترى أن النظام الليبي هو الذي يتحمل المسؤولية الرئيسية فيها وقد اجتاز بها مرحلة جديدة وخطيرة في سلسلة تدخلاته في شؤون بلادنا الداخلية... ([65])". ولا يختلف الموقف الذي عبرت عنه "حركة الاتجاه الإسلامي " عن ذلك بكثير. فقد نددت هذه الحركة بعملية قفصة وبمن دبر لها ووقف وراءها وساندها وروج لها، وأدانت كل تدخل خارجي معتبرة أنه ليس لليبيا أو فرنسا أو أمريكا أو غيرها أن تتدخل في شؤوننا " مع إدانة كل حركة أو حزب يعتمد على قوى خارجية لتحقيق أغراض سياسية ([66]). إن الطرف الوحيد الذي أيد عملية قفصة المسلحة واعتبرها عملا مشروعا في مواجهة نظام الحكم في تونس هو التيار القومي العربي الناصري مجسدا في "الطلبة القوميون الوحدويون " الذين لم يكتفوا بإبراز مواقفهم المؤيدة لهذه العملية في ملصقاتهم الحائطية التي كانوا يصدرونها بالمنابر الطلابية وإنما عملوا على تنظيم بعض المصاهرات المؤيدة لما أطلقوا عليه تسمية "ثورة قفصة "([67]).
لقد شكلت هذه العملية على اختلاف المواقف المتعلقة بها عاملا حاسما في الصراع السياسي في تونس، ومدخلا لوضع سياسي جديد يتسم بالانفتاح. أبرز خصائصه السماح بنشاط الأحزاب والتنظيمات الوطنية شرط أن تلتزم بالدستور بما في ذلك الإقرار بشرعية حكم "بورقيبة " مدى الحياة، وعدم الولاء للخارج. إطلاق سراح مساجين الرأي والطلبة والنقابيين باستثناء مساجين 1962 وأحداث قفصة. الانفتاح على التيار الإسلامي ومنح التأشيرة لبعض الأحزاب السياسية. وبالرغم من أن هذه الإجراءات تعد محدودة مقارنة بحجم التضحيات التي قدمتها قوى المجتمع السياسي وخاصة في 1978 و1980 وأن المستفيدين منها هم من ندد بعملية قفصة، فإن هذه العملية كان لها كبير الأثر في كل تلك الإجراءات حسب ما اعترفت بذلك "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين " في جريدة المستقبل الناطقة باسمها ([68]).
-انتفاضة الخبز :
تلتقي اغلب أحزاب وتنظيمات المجتمع السياسي في تحميل مسؤولية أحداث انتفاضة الخبز للحكومة، معتبرة أنه رد فعل عفوي وشرعي، لكنها لم تتوان في إدانة عمليات التخريب والنهب. فقد اتفقت القوى السياسية ذات المنشأ الدستوري مثل "حركة الوحدة الشعبية" بشقيها على أن هذه الأحداث هي رد فعل شرعي ومنطقي على الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية المعادية للجماهير مستنكرة الإعتقالات وسياسة العصا الغليضة التي انتهجتها السلطة في مواجهة هذه الأحداث. وأدانت "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين "إطلاق النار على المواطنين وإعلان حالة الطوارئ ولكنها في نفس الوقت أدانت أعمال العنف التي ارتكبها المتظاهرون. وحمل "الحزب الشيوعي " المسؤولية الكاملة للحكومة بسبب قرارها رفع الدعم عن الحبوب وندد بيان اللجنة المركزية للحزب باستعمال القمع والعنف وتدخل الجيش ضد المتظاهرين. كما استنكرت "منظمة العامل التونسي" المحاكمات التي يتعرض لها معتقلي انتفاضة الخبز والمطالبة بوقفها وإلغاء الأحكام الصادرة عنها وخاصة أحكام الإعدام. ورأى "التجمع الاشتراكي التقدمي "- وهو يساري الاتجاه- في الأحداث نتيجة طبيعية لحرمان الشعب من حقه في التعبير المنظم وأدان اللجوء للسلاح في مواجهة الغضب الشعبي مطالبا برفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين. في نفس الاتجاه تقريبا يمكن إدراج موقف "التيار القومي العربي "من أحداث الخبز الذي رأى فيها انتفاضة شعبية جاءت للرد على الاختيارات الفاشلة للنظام الإقليمي. وأدانت "حركة التجمع القومي العربي " المغالطات الرامية إلى محاولة تفسير الأحداث بأنها أعمال شغب وتخريب وحرق وعنف صادرة عن لصوص وقطاع طرق لأنها في واقع الأمر تحركات ذات طابع شعبي قام بها أبناء تونس المضطهدين والمحرومين من العدل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وعبر عن موقف التيار الإسلامي من أحداث الخبز "حركة الاتجاه الإسلامي" التي أبدت استعدادها للوقوف إلى جانب الجماهير المستضعفة وتبني مطالبها العادلة رافضة الترفيع في أسعار الحبوب ومشتقاتها، معتبرة أن أعمال العنف غير مسؤولة وهي نتيجة لسياسة تربوية واجتماعية واقتصادية فاشلة. وتولت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والقيام بإحصاء أعداد القتلى والجرحى وذكر أسمائهم وجهاتهم واعتبار أن السبب الرئيسي للمظاهرات هو الزيادة في أسعار الحبوب ومشتقاتها، وأن القتلى والجرحى هم ضحايا أزمة اجتماعية ومن العدل سن قانون لجبر الأضرار للضحايا وعائلاتهم ([69]).
خاتمة :
خلاصة هذه الدراسة هو أن الأزمات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها تونس تقف ورائها حركات احتجاجية وقوى سياسية واجتماعية، رفضت الدولة الحديثة التعايش معها واحترام حقها في الانتماء للمجتمع وما يمنحه لها ذلك من حقوق المشاركة السياسية والتداول على السلطة والعدل الاجتماعي، فكانت ردود فعلها عنيفة ومتطرفة أحيانا وسلمية أحيانا أخرى. إنها استجابة طبيعية لخطاب يقوم على إقصاء الآخر ورفضه على أرضية ما كان يردده "بورقيبة "من "أن هذا الشعب الذي التف حولي مدة أربعين سنة (الخطاب سنة 1971) وانتصر وكون دولة مازال لم يكتمل إن لم أقل كله فجانبا عظيما منه "ومن" أن هذا الحزب (الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم) يجمع كل الذين يريدون أن يخدموا وطنهم وهو مستعد للمناقشة وتبادل الرأي وقابل للمعارضة ما دامت في دائرة مصلحة الوطن ولهذا فإن كل من ينعزل عن هذا الحزب يكون قد انعزل عن الوطن ([70])".
الهوامش والمراجع:
([1]) ابن منظور، لسان العرب، دار إحياء التراث بيروت 1992 ج 1 ص 135 – 136.
([2]) لكربني، إدريس، "إدارة الأزمات الدولية في عالم متحول" المستقبل العربي، عدد 287 /1/2003، ص 30.
(Encyclopedia universalis, Paris, 1985 pp. 706 - 707. ([3]
([4]) لكريني، إدارة... نفس المرجع، ص 30.
([5]) نقلا عن المرجع السابق ص 31 الشافعي (محمد) إدارة الأزمات مركز المحروسة للبحوث والنشر القاهرة 1995، ص 55.
([6]) لكريني، إدارة الأزمات... مرجع سابق، ص 32.
([7]) نفس المرجع، ص 32 – 33.
([8]) الهرماسي، عبد اللطيف، الدولة والتنمية في المغرب العربي تونس أنموذجا، دار سراس للنشر 1993 ص 89.
([9]Kraiem, Mustafa, "Etat, syndicats et mouvement social lors des évènements du 26 (janvier 1978", in, Les Mouvements sociaux en Tunisie et dans l'immigration, cahiers du C. E. R. E. S série histoire n° 6 Tunis 1996, pp. 213 - 214.
([10]) انظر دراستنا "الحركة النقابية في تونس : أزمة 1978 وموقف السلطة منها"، في، بورقيبة والبورقيبيون وبناء الدولة الوطنية، مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، سبتمبر 2001، ص 152.
([11]) انظر كرونولوجيا الأزمة ضمن مقالنا السالف الذكر، ص 147 – 148.
([12]) نفس المرجع، ص 152 – 153.

([14]) الهرماسي، الدولة والتنمية... مرجع سابق، ص 61.
([15]) Signoles (P), "Industrialisation urbanisation et mutation de l'espace", in, Annuaire de l'Afrique du Nord, CNRS, 1983, pp. 294 – 295.
([16]) في تقرير نشرته جريدة الرأي عدد 27 وصلت نسبة الضحايا من القتلى 84 شخصا يتوزعون كما يلي : تونس 29، صفاقس 11، الكاف 10، المتلوي 6، قابس 6، القصرين 6، مدنين 5، المنستير 4، جندوبة 3، توزر 2، قبلي 2، قفصة 2، القيروان 2، قصيبة المديوني 1، طبرقة 1 وسيدي بوزيد 1.
(Zamiti, khelil, "L'état, l'argent et l'insurrection", le Maghreb n° 88, 4 février 1984. ([17]
([18]) التركي، عروسية، "الحركة اليوسفية في الجنوب التونسي 1955 – 195"، مجلة روافد عدد 3 بتونس 1997 ص 42.
([19]) واردة منجي، "جذور اليوسفية"، في، المجلة التاريخية المغاربية عدد71 – 72 مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ماي 1993، ص 502.
([20]) انظر مقالنا وثيقة عن الحركة الاستقلالية في المغرب العربي "اليوسفية"، في، المجلة التاريخية المغاربية عدد 97 – 98 ماي 2000 ص 312.
([21]) طوبال، إبراهيم، البديل الثوري بتونس، دار الكلمة بيروت 1979 ص 48.
([22]) أصدرت الحكومة التونسية بلاغا رسميا نشر بجريدة الصباح بتاريخ 24 ديسمبر 1962 كشفت فيه عن "مؤامرة ضد رئيس الجمهورية تورط فيها مدنيون وعسكريون ". وجاء في أحد خطابات الرئيس بورقيبة "... اجتمع في صعيد واحد الرجعيون الذين ران على قلوبهم شعور بالخيبة والتأخر عن ركب الزمن، والشيوعيون الذين أعجزهم بث التفرقة وبسطاء المقاومين الذين خاب أملهم من الإمكانيات سوى محاولة التخريب من الخارج وقد فتح رئيس الدولة الجزائرية أبواب بلاده ليتآمروا منها على وطنهم وبعض رجال الجيش الذين خانوا الأمانة ولكنهم قلة... "بورقيبة (الحبيب) حياته تونس 1964 ص 218 نقلا بوقرة (عبد الجليل) مقاربة تاريخية حول "المحاولة الانقلابية " لسنة 1962 وتداعياتها المجلة التاريخية المغاربيةعدد ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍102 -103 مؤسسة التميمي للبحث العلمي و المعلومات ص 69
([23]) الحداد، سالم، خفايا المحاولة الانقلابية لسنة 1962 يكشف عنها مدبروها في مؤسسة التميمي للبحث العلمي جريدة الشعب عدد 682 - 9 نوفمبر 2002، انظر شهادة تميم الحمادي
([24]) نقلا عن بوقرة، نفس المرجع، ص 70، إحدى تصريحات الرئيس بورقيبة.
([25]) الحداد، نفس المرجع، نفس الشهادة
([26]) بوقرة، نفس المرجع، ص 71، الحداد، خفايا المحاولة، نفس المرجع، ص23، انظر كذلك مقالنا "بورقيبة وإشكالية الهوية في تونس"، في، السلطة وآليات الحكم في عصر بورقيبة بتونس والبلاد العربية، مؤسسة التميمي للبحث العلمي فيفري 2003.
([27]) بوقرة، نفس المرجع، ص 71.
([28]) الحداد، خفايا مرجع سابق ص23.
([29]) نفس المرجع والصفحة.
([30]) تمت صياغة هذا الجدول بالاعتماد على المعطيات الواردة في دراسة بوقرة، مرجع سابق ص 67 – 68.
([31]) نفس المرجع ص 68.
([32]) انظر شهادة "تميم الحمادي"، في، المجلة التاريخية المغاربية عدد 114، ص 163-191.
([33]) المرجع نفسه.
([34]) انظر شهادة علي بن سالم، في، المجلة التاريخية المغاربية عدد 114، ص 163-191.
([35]) نقلا عن بوقرة... نفس مرجع ص 72، جريدة الصباح بتاريخ 24 جانفي 1963.
Belaid Sadok, «L'opération de Gafsa de janvier 1980 et ses enseignements" in, ([36]) revue Tunisienne de droit 1979 II p. 13.
([37]) العلوي، نور الدين، عملية قفصة 1980 شهادة الكفاءة في البحث كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس 1989 – 1990 ص36.
([38]) المرجع نفسه، ص 37 – 38.
([39]) المرجع نفسه.
([40])Belaid, l'opération …op. cit, p. 14.
Lagmani, Slim, Aspects internationaux de l'affaire de Gafsa DEA Faculté de ([41]) Droit et des Sciences Politiques et Economiques de Tunis, 1981, p. 13.
Baduel, Pierre-Robert, Gafsa comme enjeu Annuaire de l'Afrique du Nord ([42]) CNRS1980 نقلا عن العلوي... مرجع سابق ص 81
([43]) ظهرت هذه الجبهة كحركة سياسية ذات توجه قومي عربي سنة 1972 وأعلن عن ظهورها بجريدة المساء البيروتية. تعمل الجبهة على تحقيق الوحدة العربية بحد السيف أي عن طريق القوة. حافظت الجبهة على علاقات تعاون مع حركات التحرير والحركات القومية والناصرية والحركات الفلسطينية وحركة تحرير ظفار العمانية وجبهة البوليزاريو. انظر في هذا الشأن سارة (فايز) الأحزاب والحركات السياسية في تونس 1932 – 1984، ب م ط 1984 ص 288 – 291.
(Lagmani, Aspects …op. cit, p. 23. ([44]
([45]) تتكون العينة المدروسة من 32 شخصا تراوحت الأحكام التي تعرضوا لها ما بين الإعدام والأشغال الشاقة والسجن بنسب متفاوتة، أنظر في هذا الشأن العلوي، عملية قفصة... نفس المرجع، ص 51 – 52.
([46]) يشار إلى الدور المركزي الذي تولاه "عمارة ضو النايل " في قيادة العملية دون أن تكون له مشاركة ميدانية، أنظر سارة... نفس المرجع، ص 288-291
([47]) العلوي، عملية قفصة... نفس المرجع، ص 57 – 60.
- يشير نفس المرجع ص 60 – 62 إلى أن "عز الدين الشريف" يحمل في الأوساط الشعبية بقفصة صورة المناضل الصلب والبطل الشعبي الذي رسم لنفسه خطا نضاليا لم يتراجع عنه طيلة حياته حتى انتهى به إلى الشهادة حسب تعبير أحد أصدقائه، ولم يتوان في دعوة رفاقه القدامى وخاصة رفيقه "العربي العكرمي" لإعادة تنظيم الصفوف ومواصلة النضال ضد بورقيبة "عدو العروبة والعرب". وفي المستوى الشخصي كان الشريف طيلة حياته يتحلى بأخلاقه العالية، خجولا، دمثا وغير معاد لأحد فهل يمكن أن يكون الشريف مجرد مجرم عادي ؟
([48]) المرجع نفسه، ص 63 – 64.
([49]) تصريح رسمي لوزير خارجية ليبيا بتاريخ 1/2/1980 نقلا عن Agmani, Aspects op. cit, p. 22'L
([50]) إحدى تصريحات العقيد القذافي نقلا عن Belaid, l'opération... op. cit, pp. 22-23
([51]) البوبكري، مصطفى، نشرات أخبار إذاعتي تونس وليبيا إثر أحداث قفصة، رسالة ختم الدروس الجامعية معهد الصحافة وعلوم الأخبار تونس 1980 ص 55.
- أنشأت السلطات الليبية في تلك الفترة محطة إذاعية تحمل اسم "هنا قفصة صوت الثورة الشعبية لتحرير تونس" وكانت هذه المحطة تبث بيانات فحواها أن ما يجري في قفصة هو "ثورة شعبية" هدفها تحرير تونس من نظام بورقيبة "عميل الاستعمار وأحد أذنابه".
([52]). Lagmani, Aspects op.cit p.20 -21
([53]) انظر جريدة l'action بتاريخ 12/2/1980.
- في تصريح ثان نشرتهle nouvel observateur بتاريخ 11/2/1980 قال بورقيبة "أنا أعتمد على حلفاء حقيقيين وجديين مثل فرنسا، بريطانيا العظمى، الولايات المتحدة والمغرب الذي قدم مساعدة أيضا فالغرب الديمقراطي معنا وهذا هو المهم. إني ألعب باستمرار ورقة الغرب...
(Laghmani, Aspects .. op.cit, p.106. ([54]
([55]) المرجع نفسه، ص 107 – 108.
([56]) يوجد "قاموس" خاص من الأوصاف والنعوت التي كان يصف بها "بورقيبة" معارضيه وكل من يختلف معه في الآراء والأفكار فهم "هدامين"، "يزرعون بذور الحقد والكراهية"، "يشتتون شمل الأمة"، "يقوضون أسس الدولة"، "متآمرون لهم نعرة بني هلال في التخريب"، "رائد المعارضين الجشع والهيمنة"، "ذوي غايات خبيثة وخسيسة"، "المعارضون عملاء للخارج تحركهم أيادي خارجية"، "جراثيم"، "أدمغة وقلوب مريضة بكراهية هذا النظام"، "منافقون"، "خبثاء"، "سمتهم الغدر وسوء النية"، "حيوانات ضارية"، "أخلاقهم متدهورة"، "مفسدين"، "ناقصي تعليم"و"متخاذلون أيام الكفاح"... إلخ وهي عبارات مستخرجة من خطب وتصريحات "بورقيبة "أنظر في هذا الشأن علية الصغير(عميرة) "صورة المعارض في الخطاب البورقيبي"، في، السلطة وآليات الحكم في عصر بورقيبة في تونس والبلاد العربية مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات فيفري 2003 ص 159.
([57]) انظر مقالنا الحركة النقابية في تونس... نفس المرجع، ص 146.
([58]) جريدة العمل لسان الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم بتاريخ 11 و22 مارس 1980.
([59]) انظر افتتاحيات جريدة العمل بداية من‍‍1- 1‍/11984 إلى 14-1 /1984.
Helin, Elise, "La magistrature de marginalisation a la restructuration", in, ([60]) Maghreb Machrek juillet – septembre 1997, p. 42.
([61]) المنصر، عدنان، "رجل السياسة ورجل القضاء، النفوذ الشخصي والقضاء الاستثنائي في تونس ما بعد الاستعمار"، في، المجلة التاريخية المغاربية عدد 91-92 ماي 1998 ص 728 – 729.
([62]) العلوي، عملية قفصة... نفس المرجع، ص 74.
([63]) المرجع نفسه.
([64]) المرجع نفسه.
([65]) انظر بيان هذه المنظمة بمناسبة عملية قفصة ضمن Laghmani, op. cit p. 140 ملحق عدد 7.
([66]) العلوي، نفس المرجع، ص 76.
([67]) ورد هذا الموقف في بيان حائطي للطلبة القوميين الوحدويين بعنوان الانتفاضات في الوطن العربي وأشار إليه العلوي في مذكرته السالفة الذكر.
([68]) جاء في جريدة المستقبل عدد 9 بتاريخ 26 جانفي 1981 ما يلي :" ليس من المبالغة في شيء القول أن أحداث قفصة شكلت انقطاعا في تطور الحياة السياسية خلال العقد الماضي فإذا كان هناك جردة حساب أو تقييم ينبغي وضعه لإحصاء التغييرات التي تعاقبت طوال السنة المنقضية فإن قفصة تكون نقطة الدائرة في كل التطورات اللاحقة لأننا نجدها خلف كل القرارات إن لم تكن مباشرة في التحليل النهائي على الأقل"، "لقد كانت أحداث قفصة بمثابة المنبه الذي ارتفع من داخله صوت المناطق المحرومة التي حكمت عليها المركزية الاقتصادية بالتأخر.
([69]) انظر دراستنا الدولة القطرية... نفس المرجع، ص 74 – 75.
([70]) انظر خطابي بورقيبة في تونس بتاريخ 29 جويلية 1963 ج 15 وفي المنستير في 11 سبتمبر 1971 ج 27.