من أجل أن تبقى شأنا وطنيا محضا
أ.د.سالم لبيض
أستاذ محاضر في علم الاجتماع السياسي
جامعة تونس المنار
labiadhsalem@yahoo.fr
ما من شك في أن الاسم لم يعد يتطابق مع المسمى والوقائع لم تعد تتطابق مع العنوان لأن الأحداث وبكل بساطة انطلقت شرارتها من سيدي بوزيد المدينة ومعتمدياتها المجاورة، ولكنها اليوم عنوان مناطق عديدة مثل القيروان والقصرين ومدنين وصفاقس وتونس العاصمة وسليانة وقفصة والكاف وباجة وبنزرت وحتى سوسة المدينة المحظوظة. ولا نعرف إلى أين ستمتد لاحقا لأن الأسباب التي ولّدتها لا تخلو منها مدينة ولا قرية ولا ريف ولا بادية فأين ما وليت وجهك ستعترضك "فلول" البطالين والمهمشين القابضين على جمر البطالة والفقر والتهميش. نحن نعرف ذلك جيدا لأن طلبتنا وطالباتنا كثيرا ما يستغلون هامش الحوار معهم لإثارة جدوى الدراسة والتعلم في ظل انسداد الآفاق المهنية وتكاثر بل وتضاعف أعداد الخريجين الذين تقذف بهم الجامعات إلى الشوارع دون وجود بصيص أمل في الشغل ولو كان ذلك بعد عدة سنوات، حتى وصل عددهم إلى أكثر من 150 ألف حسب الإحصائيات الرسمية للدولة وحسب الأرقام التي تنشرها بعض الوزارات عند إجراء مناظرة أو فتح خطة لانتداب عون أو مجموعة من الأعوان، ليضاف إليهم 40 ألف خريج حامل للأستاذية أو الإجازة سنويا لا يشتغل منهم إلا النزر القليل ومن بينهم من لا يجد لنفسه مكانا في سلم الشهادات التي تعترف بها المؤسسات العمومية والخاصة ولا يُنتدب أصحابها للعمل إلا بقدرة قادر، وهنا نشير تحديدا إلى خريجي علم الاجتماع الذين تتناثر المواد المشكلة لاختصاصهم في البرامج التربوية دون أن يتولون تدريسها، وفي مختلف المؤسسات دون أن ينتدبون لمعالجتها.
نتساءل من موقعنا بوصفنا من أهل الذكر في شؤون المجتمع وقضاياه هل أن الأمر يتعلق بمجرد حادث معزول قام به شخص لم يمتثل للتراتيب المعمول بها والقوانين المنظمة للحياة العامة فأقدم على حرق نفسه، وآخر اختار الانتحار لأسباب مجهولة، يستغله اليوم من يصطادون في المياه العكرة كما يروج لذلك الإعلام الرسمي؟ إن التحليل والفهم الذي ينشد الموضوعية هو في منأى عمّا يروجه الإعلام الرسمي من خطاب صالح لكل زمان ومكان في تشخيص مثل تلك الأحداث فهو مُنسحب لا محالة على أحداث الخبز لسنة 1984 وما جرى في الرديف سنة 2008 وفي بنقردان سنة 2010 ..، على الرغم من أن ذلك لا يخدم المجتمع ولا مؤسسة الدولة والحكم التي من المفترض أنها تعبيرة من تعبيرات ذلك المجتمع. إن التعريف البسيط لما جرى ويجري في سيدي بوزيد ومدنها وقراها وفي مختلف مناطق البلاد الأخرى هو نوع من الحراك الاجتماعي والسياسي الذي يفرضه المجتمع من فترة إلى أخرى لتعديل أنساقه وأنظمته وجعلها تشتغل بطريقة سليمة ومتوازنة وقد عرفت البلاد الكثير منه بداية بربيع العربان الذي قاده علي بن غذاهم وصولا إلى الاحتجاجات الراهنة، وهو فعل ناتج عما تقوم به الحركات الاجتماعية والسياسية ومختلف مكونات المجتمع المدني والسياسي من دور تعديلي لوظيفة الدولة بوصفها الجهاز الوحيد الذي يمتلك شرعية استخدام العنف والإكراه واحتكاره. وعندما تُفكك قوى الحركة الاجتماعية الجديدة المنبعثة من قفصة والرديف ثم من برقردان وصولا إلى سيدي بوزيد وما تلاها، تقابلنا منذ البداية قوة شبابية لا يُستهان بها تبدو من أول وهلة أنها عفوية وغير منظمة وهذا بدوره أمر خطير لأن تلك القوة تنبعث من خارج التوقعات والبرامج والمؤسسات بالرغم من الاستشارات الشبابية والسنة الدولية للشباب وما صاحبها من دعاية لم تعد تقنع الشباب أنفسهم ومن استثمار سياسي بدا مبالغا فيه. ولكن عفويتها تبدو محدودة فهي تمثل قوة احتجاجية لم يفلح في "تدجينها" الخطاب الأيديولوجي والسياسي الرسمي الذي كثيرا ما وصف نفسه بأنه المؤتمن على البلاد والعباد. وهؤلاء الشبان الذين يشعرون بأنهم تحت الضيم مما دفعهم إلى الشوارع والاحتجاج وحتى "التمرد"، لم يتمكن ذلك الخطاب من الحفاظ على وظيفة الوصاية التي يتولاها تجاههم منذ نصف قرن أو يزيد، وهذا درس مهم من الدروس المستفادة. وهذه القوة الشبابية التي تتظاهر هنا وهناك وإن اختارت التظاهر كأسلوب فهي تعبر بذلك عن الوعي بالخلفية المدنية في المطالبة بالحقوق لأن بعض أترابهم وأصدقائهم وأقرانهم في المدرسة والجامعة اختاروا الانتماء إلى تنظيمات القاعدة والجهاديين وتعج بهم السجون والمحاكم والملاحقات ومنهم من لقي حتفه في إحدى الجبهات العسكرية المفتوحة لفائدة كبار اللاعبين الاقتصاديين الدوليين وهو يعتقد أنه يقاتل دفاعا عن إعلاء كلمة الله في الأرض، والبعض الآخر ألقى بنفسه إلى حيتان البحر لتأكله وهو يحلم بالوصول إلى أروبا الجنة المنشودة. فهذا الشكل أي التظاهر والاحتجاج في الشوارع هو دليل خلفية فكرية ناضجة ومعتدلة، ولنقلب الصورة فما رأيكم أيها السادة لو أن هؤلاء الشباب العاطلين عن العمل لسنوات من خريجي الجامعة ومن غيرهم وبدل من التظاهر في الشوارع قام الآلاف منهم بإحراق أنفسهم أو الانتحار على أعمدة الكهرباء وتوزيع صورهم على وسائل الإعلام العالمية فكيف سيكون موقف الحكومة والقائمين على الدولة والمجتمع؟ إن هؤلاء الشباب يتأثرون بدون شك بما يشيعه الإعلام ولهم من الإمكانيات الذهنية التي تمكنهم من تقمص الأيديولوجيا أو الموقف السياسي الذي يبتغون وأن وصفهم بالعفوية التامة هو نوع من الانتقاص من قدراتهم ومن وعيهم ومن إرادتهم بل هو احتقار فاضح لهم ولمطالبهم المشروعة، وهو بالإضافة لكل ذلك نوع من التعسف ضدهم. إن هؤلاء الشباب يعلمون أن تضحياتهم الكبيرة على مقاعد الدراسة لم تمنحهم ما تمنحه ملاعب كرة القدم أو مسارح الأغنية أو المسلسلات التلقزيونية أو بعض الأنشطة الربحية القائمة على المضاربة، لأصحابها من مال وشهرة ودعاية وسلطة وتأثيرا، لكنهم لم يتوقعوا البتة أن الدراسة والجامعة ستتحول إلى نوع من الرذيلة الاجتماعية لأن خريجها باتوا في أدنى سلم التراتب الاجتماعي أو هو سلم القيم قد انقلب إلى ضده. دوافع كثيرة قادت الشبان إلى هذا الفعل الاحتجاجي من أهمها سوء التوازن الجهوي واستشراء التجاذبات الجهوية التي تحولت إلى نوع من مراكز القوى في أوساط أصحاب القرار فأنتجت مشاريع تنموية مختلة لفائدة بعض المدن الساحلية والعاصمة على حساب بقية المناطق في الشمال والوسط والجنوب، وكثيرا ما كانت نتيجة ذلك تفاقم النزوح والهجرة فأُفرغت مناطق بكاملها وعظُمت أخرى وباتت العاصمة(تونس الكبرى) والمناطق الساحلية وصفاقس، تعدُ أكثر من ثلثي البلاد فتتمركز بها الوزارات والإدارات والمستشفيات والمصانع الكبرى وغالبية النزل والجامعات الهامة، كل ذلك في مثلث أضلاعه محددة، وباتت بقية الجهات مجرد مطمور لخدمة ذلك المثلث وتوفير مستلزماته، فما تنتجه من ثروات طبيعية من نفط وغاز وفسفاط وحديد وملح (لا يُعرف حجمها تحديدا) .. ومن منتجات زراعية وفلاحية -ومنطقة سيدي بوزيد أحسن مثال على ذلك- تعود بالنفع على ذلك المثلث لاسيما العاصمة منه لأنها تحتوي المقرات العامة للشركات المستثمرة العمومية منها والخاصة. إن اللافت للانتباه هو طبيعة القوى التي تقف وراء تلك الحركة الاجتماعية التي انتشرت كالنار في الهشيم، فالأمر لا يتعلق بمجرد فعل عفوي لشاب أو مجموعة من الشباب وإن كان منطلقه كذلك، لأن كافة التحركات بدون استثناء قد احتمت بالاتحاد العام التونسي للشغل، وإن تنصلّت قيادته من تبنيها (انظر تصريح عبد السلام جراد الأمين العام للاتحاد إلى جريدة الصباح بتاريخ 28 -12-2010)، فإن النقابات وإطارات وقواعد المنظمة النقابية هم القوة التي أسندت الفعل الاحتجاجي وحولته من رد فعل "عفوي" إلى فعل منظم ولعل ذلك قد وفر الفرصة أمام كثير من النقابات والاتحادات المحلية والجهوية وحتى المركزية للخروج مما يمكن تسميته بالبطالة النقابية وتغيير اتجاه النقاش العام في الوسط النقابي من الداخل ووجهته الفصل العاشر والتداول المشروع على السلطة والمسؤولية، إلى الخارج ووجهته القضايا الاجتماعية المتعلقة بالتنمية والبطالة والتشغيل. وهذا الأمر يكاد ينسحب على الأحزاب السياسية المعارضة بتوجهاتها المختلفة فكافة قواعدها ومناضليها وحتى قيادتها تبدي التعاطف مع الأحداث أو تشارك فيها أو في قيادتها ميدانيا، ولكن بعضها يجد نفسه تحت الضغط الحكومي الداعي إلى عدم المشاركة والتأييد وفي أحسن الأحوال تجاهلها أو التنديد بمن روج لها إعلاميا وخاصة قناة الجزيرة القطرية وتحويلها إلى كبش فداء (بيان الاجتماعي التحرري والاتحاد الديمقراطي الوحدوي والوحدة الشعبية وحزب الخضر بتاريخ 27-12-2010) في حين أن نفس الدور تتولاه قناة الحرة الأمريكية وفرنسا 24 الفرنسية وكثير من القنوات الأخرى، وقد يعود ذلك إلى غياب الإعلام الرسمي عن مسرح الأحداث وتجاهله لما يجري ليحل محله ما بات يعرف بإعلام المواطن الذي ينطلق من ساحات الفعل اليومي إلى القنوات الدولية مباشرة مستخدما وسائط النت، أما البعض الآخر من الأحزاب فقد وجد في الحركة الاحتجاجية مبتغاه واصفا إياها بالانتفاضة والثورة وكأنها الفرصة المتاحة لتصفية حسابات قديمة عالقة مع الحكومة والحزب الحاكم وسياساته. ولكن هذا الاتجاه تدعمه شريحة مهنية ذات تأثير ومصداقية ونقصد بذلك المحامين الذين نظموا أو شاركوا في العديد من المسيرات والاعتصام واصفين تلك المشاركات بأنها عربون دفاع عن الحق وهم الصف الأول للقيام بهذه المهمة، تشهد على ذلك كثير من المحاكم في مختلف الولايات. إن مشاركة النقابات والأحزاب والمحامين يعطي الدليل على أن الحركة الاحتجاجية ليست مجرد فعل معزول أو غوغائي وهي لا تستهدف الحكومة في ذاتها وإن تبنى البعض ذلك الاتجاه وإنما تهدف إلى تغيير السياسات العامة للدولة. وهذه السياسات لم توضع بعد نقاش عام وحقيقي وشفاف شاركت فيه مختلف الأطراف المذكورة سلفا، كما أنها اختيارات رسمت من قبل المقرضين من أمثال الاتحاد الاروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهم وبصماتهم في التفويت في مؤسسات الدولة لتسديد الديون المتخلدة بادية للعيان ومنشورة على مواقع الوزارات مرجع النظر، ناهيك أن المشرفين على وضع تلك السياسات والمشرفين على تنفيذها لم يتغيروا في أغلبهم منذ أكثر من عشريتين وما يعنيه ذلك من عدم بعث روح جديدة ودم جديد يستند إلى أفكار ورؤى مغايرة في جمهور المشرفين على تسيير الدولة الذين هم في حاجة إلى القيام بعملهم في كنف الشفافية والوضوح والخضوع للرقابة الإعلامية والقضائية. لكن يبدو أم الحكومة قد سلكت مسلكا آخر يعتمد اتجاهات ثلاثة، الأول أمني يلوّح باستخدام العصا الغليظة أو هو يستخدمها وكأن التاريخ متوقف في زمنه الأول، وذلك بالتصدي للتحركات وملاحقة من يصنفون بالخروج على القانون وتقديمهم للمحاكمة أو وضعهم على ذمتها، والثاني يعتمد نوع من "الرشوة" للمناطق التي تشهد تحركات وذلك بضخ مزيد من الأموال لم تكن مبرمجة سابقا ضمن ميزانية تلك الجهات، لتحسين وضع المحتجين وإسكاتهم وثنيهم عن مواصلة حركتهم، وهذا العلاج لا يزيد الوضع إلا تأزما لأن الجهات التي لا تحتج لا يكون لها نصيبا وهذا يدفع بعدوى الاحتجاج في الجهات إلى أقصى درجاته، والثالث هو تجييش الإعلام الرسمي وما كان يعرف سابقا بالمنظمات القومية بوصفها جزء من المجتمع المدني، والهيئات التشريعية وكذلك بعض الأحزاب القريبة من مؤسسة الحكم لإدانة ما يجري ومن يقف وراءه من أعداء حقيقيين أو وهميين يعملون على تشويه صورة البلاد النقية الناصعة والتآمر على النجاحات التي تحققت...إلخ. وهذه المعالجة بمكوناتها الثلاث لم تعد الوصفة الأنجع في مشهد سياسي واقتصادي دولي صعب ومعقد سرعان ما تتمكن قواه النافذة أن تدويل ما كان بالأمس القريب وطنيا صرفا، ولنا في جنوب السودان ودارفور ولبنان ويوغزلافيا السابقة...أمثلة دالة في دعم هذه المجموعة أو تلك، وعندها لن ينفع ندم النادمين من الحكام والمحكومين.



الثاني تاجر يهودي مختلف في ديانته عن القوم ومع ذلك فهو حافظ أسرارهم وخزّان تقاليدهم وموروثاتهم وخادمهم وطبيبهم المداوي عندما تسدُّ مسالكهم المتاحة. تاجر أبى إلا أن يقول أنا هنا، ولدت وترعرعت وكبرت. أنا هنا أبا عن جدّ. أنا هنا جزء لا ينفصل عن ذاكرة المكان. أنا هنا من ساهم في صنع المكان. أنا هنا ولا وجود لي إلا هنا. أنا منكم وانتم مني. أنا أعيش هنا ولا أعيش في أي مكان آخر. أنا من عرفني أجدادكم وآباؤكم وعرفتموني وسيسمع عني أبناؤكم وأحفادكم. أنا لا أعترف بغيركم أهلا لي. أنا منكم ولست منهم كما يعتقد بعضكم. أنا العكاري، أنا الجرجيسي، أنا التونسي، أنا العرْبي، مع أني أنا اليهودي ..أنا هنا أنا هنا. ولعلّ كل تلك الأبعاد يختزلها الاسم الأعجمي للفلم VIVRE ICI، BEING HERE أو العيش هنا، فلا مكان يتسع لك إلا هنا وإن كان الأمر ينسحب على الجميع. فدائرة الاصطياد والتهجير والهجرة واسعة تمتد شرقا وغربا وإن اختلفت الأسباب والوسائل والغايات.
في «زرزيس» تنصهر العلاقات والمصالح والرؤى والمواقف والاتجاهات وتتداخل، لكن اتجاهين اثنين يشقان الفيلم، الأول يدعو إلى البقاء هنا والتمسك بالأرض والعمل على عدم مغادرة الفضاء وهو اختيار التاجر اليهودي الذي بقي وفيا للمكان ولم يغادره بالرغم من حجم الإغراء الذي تقدمه منظمات الهجرة اليهودية والصهيونية العالمية من أجل اللّحاق «بالأرض الموعودة» وأخٍْذ منزل فلسطيني وأرضه بعد طرده إلى أحد مخيمات اللاجئين أو قتله. وقد نجحت تلك المنظمات مع كثيــر من يهود العالـــم بـمــا في ذلك من هم من أصيلـي جرجيـــس نفســــهـــــــــا. وينعكس اختيار التاجر من خلال مورفولوجيا الدكان القديم المنتصب في قلب النواة الأولى للمدينة المغرق في تقليديته المحافظ على زمنه الخاص، زمن لم يتغير منذ أكثر من نصف قرن بالرغم من تغيّر كل شيء من حوله، فهو الوفيُ لزبائنه القدامى والمحدثين، كاتم أسرارهم وملبي احتياجاتهم. وهو اختيار صعب محفوف بالمحاذير والمخاطر في زمن تقلصت فيه المسافات بين الانتماءين الديني والسياسي واختلطت أوراق العدو بأوراق الصديق بعد أن شاعت نظرية المؤامرة فلم تترك شيئا خارجا عن بوصلتها. ولقد التقى في ذلك مع المعلّم الذي يتمسك بدوره بالمكان ولكن بالاستناد إلى خلفية عالمة savante تنطلق من ثنائية اللغة والأرض، فاللغة أم العلوم لديه وبالتالي لا تقدُّم ولا نهضة حقيقية خارج اللغة. وهو موقف ضمني من كل المولعين بالتشبه بالآخر حسب العبارة الخلدونية. أما رؤيته للأرض فتبرز من خلال الدعوة لاستهلاك المحلي إنتاجا اقتصاديا (إذا استهلك كلٌّ إنتاجه فلا بطالة ولا حروب) ورمزيا متمثلا في الثقافة المحلية والوطنية والعربية، ولعل كل ما يقوم به من نقد لظاهرة الهجرة التي حرمته من العيش مع أبنائه وللسياسات العربية المنتهجة من قبل جامعة الدول العربية وحكوماتها في مجالات النفط والدبلوماسية، ولاستيراد المنتوجات الأمريكية والغربية ولنمط الوعي الجديد المنتشر بسبب الفضائيات والسلوك الديني المتأثر بالنزعة الوهابية والتدين الشكلي السهل والانغلاق المنتشر هنا وهناك، في حين يغيب التدين القائم على تصنيفه الخاص المنطلق من الأولوية المطلقة للقراءة ومن منح المرأة حقوقها لاسيما المتعلقة بالميراث، كل ذلك يتمّ على خلفية الانتماء للغة والأرض بالمعنى الضيق المحلي أو بتداعياته في الفضاء الواسع الوطني والعربي.
إن هذه الرؤية الواعية للحداثة يقابلها تصور آخر يمثلها البزناس الذي لا يفهم تلك الحداثة إلا مجسدة في الارتباط بامرأة غربية من المفضّل لديه أن تكون جنسيتها ألمانية أو سويسرية وفي أضعف الأيمان أن تكون فرنسية، لضمان شروط الثراء والهجرة إلى بلد يمكّنه من تكديس الثروة. إذ أن الشغل وفق الحدّ الأدنى لم يعد رهانا فهو متحقق بشكل أو بآخر في البلد الأم. وفي سبيل ذلك يقع التنازل عن التقاليد والثوابت الدينية والعقائدية والدخول في مغامرات الجنس واللذة التي تنهى عنها تلك الثوابت خارج المؤسسات المتعارف عليها. وهذا السلوك «الحداثي» هو سلوك ذكوري بامتياز لأن المرأة العكارية لا تزال محرومة من حقها في الارتباط بالأجنبي الأوروبي غير المسلم خاصة، مهما كان شكل العلاقة أللّهم أن يُشهر إسلامه، ومع ذلك تُلاحقها وصمة المجتمع لها، كما أثارها الفلم في أحد ثناياه. إذن هناك التقاء واضح بين الفنان التشكيلي والبزناس في الرغبة في الهجرة إلى الغرب الشمالي الأوروبي والأمريكي، وهذه الظاهرة استشرت في سلوك الشباب المحلي عامة وباتت قيمة منشودة لمن يقدر عليها ومن لا يقدر، ثم استحالت مأساة من مآسي المجتمع المحلي بجرجيس لأن وسائلها باتت في منتهى الخطورة والمغامرة، برّا وبحرا وجوّا، ولا تزال الذاكرة المحلية تحتفظ «بالغزوات» الكبرى التي قام بها البعض عن طريق مراكب صيد الأسماك أو بالسفر آلاف الأميال إلى الصين أو الأرجنتين أو غيرها ثم الهروب أثناء مرور الطائرة بمطار شارل ديغول بفرنسا، أو التخفي في إحدى السيارات العائدة إلى أوروبا بواسطة البحر وهي الرحلة التي تنتهي بالوفاة اختناقا. فكم من أرواح زُهقت وكم من نفوس انتحرت لأن أصحابها لم يحصلوا على التأشيرة التي تمكنهم من الدخول لهذا البلد أو ذاك ! وكم من أجساد التهمتها حيتان البحر بسبب غرق أصحابها ! ومأساة الهجرة لم تقتصر على ذلك الصنف من الشباب الفاقد لمقومات الحياة الضرورية بسبب البطالة والفقر والتهميش والانقطاع المبكر عن الدراسة والرغبة في الثراء، وإنما شملت شريحة هامة من الطلبة والخريجين من المتفوقين في دراستهم فتحولوا إلى أداة تساهم في نهضة المجتمعات الغربية، وكوادر مفكرة لها ونخبة مؤثرة في صيرورتها ومستقبلها بعد أن وصلوا إلى مراتب عليا في سلّم العلم والمعرفة والمكانة بفضل أموال الضرائب التي أُنفقت عليهم محليا وطنيا.



