بين إعلام المحزن وإعلام السيبة
أ.د.سالم لبيض
أستاذ محاضر في علم الاجتماع
جامعة تونس المنار
labiadhsalem@yahoo.fr
مفهومان نستعيرهما من حقل النظرية التاريخية لفهم ظاهرة اجتماعية كثيرا ما صنفت ضمن ظواهر ما بعد الحداثة بالرغم مما يبدو في ذلك من غرابة ومفارقة. الأول يحيل على مجالات تدخل الدولة وسيطرتها وإخضاعها لرعاياها من القبائل والعروش والمجموعات طوعا أو كرها لتدفع الجباية صاغرة سواء كانت قادرة على ذلك أو عاجزة، والثاني يحيلنا على المناطق التي أفلتت من رقابة تلك الدولة فبات أهلها في حل من أداء المجبى إلا أن تُجيش لهم قوات عسكر المحلّة فيؤدي الضريبة من يقع في براثنها مالا أو سجنا. هذا هو القانون الذي يحكم الظاهرة الإعلامية اليوم، إعلام المخزن هو إعلام الدولة، وإعلام السيبة هو لسان حال الأفراد والمجموعات من جمعيات ونقابات وأحزاب وتنظيمات أو هو إعلام المجتمع برمته ..الخ، وفي حين يسند الإعلام المخزني تدخل الدولة ونشر أيديولوجتها ويساعدها على القيام بوظيفتها بوصفها جهازا يشترك فيه الجميع ويعبر عن إرادتهم في الدول التي تعتمد مبدأ المشاركة والتداول، فإنه يتحول إلى جهاز للدعاية والهيمنة والتزييف في نظيراتها التي يعوزها ذلك. إن إعلام السيبة هو الذي أفلت من رقابة الدولة ومن تدخل أجهزتها وهو المعبر عن تلك المجموعات المكونة للمجتمع المدني والسياسي المذكورة سلفا وهو أداتها في التأثير وفي الدعاية المضادة وفي الحيلولة دون تغوّل جهاز الدولة ووسائلها التنفيذية وبالتالي خروجها عن الرقابة والسيطرة.
لقد احتكرت الدولة المشهد الإعلامي في تونس لمدة تزيد عن النصف القرن وكان التلفزيون هو الجهاز العجيب الذي يستخدمه رجل السياسة أو هو يحتكره لبث الخطاب الذي يمهد الطريق أمام تنفيذ سياساته ومخططاته وبقائه في السلطة وإنه في ذلك لساحر. وهذا السحر شمل كذلك شريحتين أغدقت عنهما الدولة ومؤسسة الحكم من عطاياها الإعلامية والمالية فتمتعت بالمزايا الموهبة لتكتمل الصورة التلفزيونية التونسية ثلاثية الأبعاد حكما وكرة وغناء، ولا يجد المتابع البسيط للمشهد التلفزيوني التونسي عناء في إدراك تلك الثلاثية بوصفها تجسيدا لاحتكار الفضاء الإعلامي وخاصة التلفزيوني منه. وكثيرا ما كنا نسمع في أوساط المثقفين والأكاديميين صرخات الاحتجاج والتذمر من هذا الاختراق الذي جعل من تلفازنا الوطني صوتا واحدا ووحيدا للحكومة و"المزاودية" و"الكوارجية"، وحتى لا يفهم من تعوزه وسائل الفهم أن الأمر يتعلق بالعداء لتلك الشرائح نشير فقط إلى أن ذلك التذمر مأتاه الاحتكار الذي تمارسه مؤسسة ما كان لها لتبقى وتستمر لو لا المجبى القسري المفروض على من يشاهدها، ولا يشاهدها، فأنت تدفع ضريبة التلفزيون أردت ذلك أم أبيت مرة كل شهرين ضمن فاتورة الكهرباء ويمكن أن تدفعها مرتين وثلاث وأربع .. إذا كنت مالكا لأكثر من عداد كهربائي في متجر أو مصنع أو غيره، أليست تلك صفة مخزنية صرفة؟ فليكن ذلك، فهو واجب وطني ! يؤديه القادر والمحروم سواسية، لكن أليس من واجب القائمين على التلفزيون إدراك هذه الحقيقة وبالتالي تعميم صفة المشاركة التلفزيونية ليكون التلفزيون لسان حال المجتمع ونخبه من جامعييه ومفكريه ونقاده وسياسييه خارج دوائر الحكم؟ أليست تلك صفات التلفزيون في كثير من الدول الغربية وحتى غير الغربية التي تعطي للمشاركة معنى؟ أليس رجال الفكر ومختلف النخب أولى من "الكوارجية" و"المزاودية" بالفضاء التلفزيوني والإعلامي عموما ؟ نعتقد أن هامش الحرية الذي منحه السياسي لهؤلاء كان سيفضي إلى نقاش اجتماعي وسياسي متميز لو أن المساحة نفسها خصصت لقضايا الشأن العام التي لا يستطيع الحديث فيها سوى نخبة البلد، ولنأت مؤسسة الحكم بنفسها على تحمل مسؤولية هذه الظاهرة الفريدة التي لم يعرف العالم نظيرا لها وهي الانتحار حرقا كرد فعل على البطالة والتهميش الناتج عن سياسات الحكومة وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية، وهي في واقع الأمر عنوان خواء إعلامي لم يستطع ملأه كل من الإعلام "الكروي" والإعلام "المزاودي" اللذان عُهد لهما بذلك الدور. ولنسمي الأشياء بمسمياتها فنقرّ بأن الهدر المالي والإعلامي والزمني الذي مارسه التلفزيون الوطني وبقية وسائل الإعلام لفائدة الشرائح المحتكرة للتلفزيون التي ذكرناها سابقا لم يق أو يستبق أو حتى يشخص العوامل التي أدت إلى نشوب أحداث سيدي بوزيد والقصرين التي باتت عنوان بلد بكامله ولا ندري إلى ما ستفضي لاحقا. وينسحب الأمر على التلفزيونات والإذاعات التي نشأت في السنوات الأخيرة وأسماؤها كثيرة من حنبعل إلى نسمة إلى موزييك إلى جوهرة إلى شمس إلى الزيتونة إلى الإكسبريس والقائمة مفتوحة، كلها وان ادعت التعبير عن التعدد والتنوع الإعلامي وعن الاختلاف فقد كانت خارج مشهد سيدي بوزيد وتالة والقصرين وتدعياته، بل هي خارج مشهد المجتمع برمته لغة وقيما وهوية ورسالة إعلامية، وهي تدرك وتتابع كل شاردة وواردة في ذلك المشهد ولكنها تخلت عن وظيفتها في الأعلمة لأنها وببساطة نشأت نشأة مخزنية فلم تستطع الخروج عن المقاربة التي اختارتها الدولة لنفسها في المعالجة، مقاربة حجب الحقائق وتظخيم المعطيات والمؤشرات وانتهاج أسلوب التعويم الإعلامي، المفارقة في كل ذلك هو أن هذه الوسائل والتعبيرات الجديدة تصنف نفسها على أنها مستقلة ومحايدة ومعولمة وهي بذلك عنوان ليبرالية إعلامية تحاكي نظيراتها الغربية وخيارات البلاد الاقتصادية والسياسية، ولا يحكمها سوى قانون المنافسة وفق الميثاق الأخلاقي للعمل الإعلامي، فإذا بعضها يتحول إلى أداة إدانة لحركة مجتمع بكامله لم تخل منها قرية ولا مدينة، تطالب ببعض الحقوق المكفولة دستوريا مثل حق الشغل وحق التجمع والتظاهر والتعبير وأخرى في منتهى القانونية مثل التوزيع العادل للثروة والتنمية الجهوية المتوازنة. كما تجد تلك المكونات الإعلامية نفسها في مواجهة قطاعات وشرائح من المجتمع هم المؤتمنون على تربية أبنائهم من مدرسين بأصنافهم، وأخرى مؤتمنة للدفاع عن الحقوق وهنا نحيل على قطاع المحامين الذي انخرط بصفة مكثفة في الحركة الاجتماعية الجديدة. وقد بلغ الأمر أوجه عندما بررت إطلاق الرصاص على العزل من الأفراد وإرداء البعض منهم قتلى رغم أن ما تم حرقه لا يساوي نفسا واحدة مهما بلغ حجمه دون أن يكون ذلك تبريرا للحرق والإضرار بالممتلكات العامة أو الخاصة، ووصفهم بأنهم مجموعات مهاجمة من الإرهابيين والملثمين، وهذه المجموعات كثيرا ما كانت مدينة بأكملها كما بدا ذلك ظاهرا في تالة والقصرين والرقاب وجندوبة. فالأمر يتعلق بحركة اجتماعية تستبطن واقع مجتمع بحاله وتنشد تغييره إلى الأفضل، ذلك ما كشفه الإعلام البديل أو إعلام السيبة كما اخترنا تسميته، فهو إعلام سائب بكل المقاييس، ليس بسبب خروجه عن مجالات الرقابة والتدخل فحسب وإنما بسبب قدرته على أن يكون الإعلام البديل لما تبثه الدولة التي كثيرا ما روجت لحرية الإعلام واستقلاله عنها حتى أنها قامت بحل وزارة الإعلام المتولية لذلك الشأن قبل أن تنشأ بديلا مغلّفا لها هو وزارة الاتصال. وفي ظل الفراغ الإعلامي الناجم عن سياسة التجاهل والتعتيم الرسمية لما تشهده الجهات من أزمة اجتماعية حقيقية وحركة احتجاجية لم يُعرف لها نظير منذ ما يناهز ربع قرن وجد الإعلام السائب الأرضية المناسبة ليملأ ذلك الفراغ ويسدّ ذلك الخواء. ففي سيدي بوزيد وقراها وفي القصرين ومعتمدياتها ومختلف المدن والمناطق المحتجة والمنتفضة من جنوب البلاد إلى شمالها ومن غربها إلى شرقها لم نر مراسلا واحدا لقناة أجنبية أو محلية، لم نر مراسلي رويتر أو فرانس براس أو وكالة تونس إفريقيا للأنباء أو غير ذلك ولم نر مبعوثي الجزيرة أو فرانس 24 أو قناة الحرة أوالبيبسي ولم نشاهد مكاتب وبيانات وتغطيات وصحفيين محترفين وأجهزة كبيوتر وكمراهات وأضواء مثلما شاهدنا ذلك في قمة مجتمع المعلومات وفي افتتاح السنة الدولية للشباب وفي المناسبات الكبرى كالانتخابات. وإلى حد هذا المستوى قد يكون الأمر مقبولا أو مبررا، أما أن لا نرى ولا نسمع عن وجود تونس سبعة ونظيراتها وتغطية تلك الأحداث وتحليلها وفق رؤية وطنية متعددة الأوجه والآراء، فهذا يعني أن التلفزيون الوطني قد أصابه نوع من الموت السريري، أوهو الموت الحقيقي بعد أن صار قتل الفقراء والجوعى قابلا للتبرير، ليفسح المجال أمام الإعلام الجديد والتلفزيون الجديد مرّة واحدة، أمام الشبكة العنكبوتية التي تتسع للجميع، أمام اليوتوب والتويتر والفايسبوك والسكايب وهي الفضاءات القابلة للولوج أمام كل من يرغب في ذلك. هي فضاءات عمومية افتراضية لكنها تمتلك قدرة لا متناهية على تخزين وبث كل ما يدور في الواقع اليومي للناس مهما كانت مراتبهم الاجتماعية والسياسية سواء كان ذلك في شكل بيانات أو صور أو فيدوهات وسواء كان ذلك مباشرة أو بصفة غير مباشرة. وهذا الصنف من المادة الإعلامية لا يحتاج إلى مبان ضخمة هي بمثابة القلاع المحصنة كما هو أمر تلفزيوننا الوطني، ولا يتطلب تكنولوجية دقيقة باهظة الثمن ولا مصورين وصحفيين محترفين قادرين على ترويج ما يرونه صالحا للترويج واستبعاد ما يعتقدون أنه مفسدة للعباد والبلاد. إن هذا الإعلام السائب سلاحه هاتف محمول مرتبط مباشرة بشبكة النت أو هو قابل تقنيا للارتباط بها، صحفييه هم من صناع الأحداث اليومية ينقلونها مادة خاما على سليقتها دون تحسين أو تزويق أو مقص أو رقابة وأحيانا هم ضحاياها، وهذا ما جعله جديرا بأن يحظى بالثقة التي مُنحت له فتحول إلى نوع من الإعلام الشعبي في مقابل إعلام الحكومة أو الدولة، بل هو اليوم مصدر إعلام كثير من الحكومات والتلفزيونات. ولقد بينت أحداث سيدي بوزيد والقصرين وما تلاها في مختلف المناطق وحتى في الجزائر أن هذا النوع من الإعلام لا يصنع الحدث السياسي والدبلوماسي فحسب وإنما هو العين التي لا تنضب في ما تبثه كبرى القنوات التلفزيونية المتربعة على عرش إمبراطورية الإعلام في العالم، وهو قادر لعمري على الإطاحة بحكومات بأكملها إذا لم تقرأ الدرس جيدا، ناهيك أن بعضها فشل فشلا ذريعا في وضعه تحت سلطة الرقيب لأن ذلك يقتضي فك الارتباط مع شبكة النت نهائيا وهذا محال اليوم لأن الشبكة باتت عصب الاقتصاديات الوطنية والعالمية والمؤسسات المالية، وشريان حياتها، وإن الدولة التي تريد أن يشملها الانتحار عليها أن تقوم بذلك.



الثاني تاجر يهودي مختلف في ديانته عن القوم ومع ذلك فهو حافظ أسرارهم وخزّان تقاليدهم وموروثاتهم وخادمهم وطبيبهم المداوي عندما تسدُّ مسالكهم المتاحة. تاجر أبى إلا أن يقول أنا هنا، ولدت وترعرعت وكبرت. أنا هنا أبا عن جدّ. أنا هنا جزء لا ينفصل عن ذاكرة المكان. أنا هنا من ساهم في صنع المكان. أنا هنا ولا وجود لي إلا هنا. أنا منكم وانتم مني. أنا أعيش هنا ولا أعيش في أي مكان آخر. أنا من عرفني أجدادكم وآباؤكم وعرفتموني وسيسمع عني أبناؤكم وأحفادكم. أنا لا أعترف بغيركم أهلا لي. أنا منكم ولست منهم كما يعتقد بعضكم. أنا العكاري، أنا الجرجيسي، أنا التونسي، أنا العرْبي، مع أني أنا اليهودي ..أنا هنا أنا هنا. ولعلّ كل تلك الأبعاد يختزلها الاسم الأعجمي للفلم VIVRE ICI، BEING HERE أو العيش هنا، فلا مكان يتسع لك إلا هنا وإن كان الأمر ينسحب على الجميع. فدائرة الاصطياد والتهجير والهجرة واسعة تمتد شرقا وغربا وإن اختلفت الأسباب والوسائل والغايات.
في «زرزيس» تنصهر العلاقات والمصالح والرؤى والمواقف والاتجاهات وتتداخل، لكن اتجاهين اثنين يشقان الفيلم، الأول يدعو إلى البقاء هنا والتمسك بالأرض والعمل على عدم مغادرة الفضاء وهو اختيار التاجر اليهودي الذي بقي وفيا للمكان ولم يغادره بالرغم من حجم الإغراء الذي تقدمه منظمات الهجرة اليهودية والصهيونية العالمية من أجل اللّحاق «بالأرض الموعودة» وأخٍْذ منزل فلسطيني وأرضه بعد طرده إلى أحد مخيمات اللاجئين أو قتله. وقد نجحت تلك المنظمات مع كثيــر من يهود العالـــم بـمــا في ذلك من هم من أصيلـي جرجيـــس نفســــهـــــــــا. وينعكس اختيار التاجر من خلال مورفولوجيا الدكان القديم المنتصب في قلب النواة الأولى للمدينة المغرق في تقليديته المحافظ على زمنه الخاص، زمن لم يتغير منذ أكثر من نصف قرن بالرغم من تغيّر كل شيء من حوله، فهو الوفيُ لزبائنه القدامى والمحدثين، كاتم أسرارهم وملبي احتياجاتهم. وهو اختيار صعب محفوف بالمحاذير والمخاطر في زمن تقلصت فيه المسافات بين الانتماءين الديني والسياسي واختلطت أوراق العدو بأوراق الصديق بعد أن شاعت نظرية المؤامرة فلم تترك شيئا خارجا عن بوصلتها. ولقد التقى في ذلك مع المعلّم الذي يتمسك بدوره بالمكان ولكن بالاستناد إلى خلفية عالمة savante تنطلق من ثنائية اللغة والأرض، فاللغة أم العلوم لديه وبالتالي لا تقدُّم ولا نهضة حقيقية خارج اللغة. وهو موقف ضمني من كل المولعين بالتشبه بالآخر حسب العبارة الخلدونية. أما رؤيته للأرض فتبرز من خلال الدعوة لاستهلاك المحلي إنتاجا اقتصاديا (إذا استهلك كلٌّ إنتاجه فلا بطالة ولا حروب) ورمزيا متمثلا في الثقافة المحلية والوطنية والعربية، ولعل كل ما يقوم به من نقد لظاهرة الهجرة التي حرمته من العيش مع أبنائه وللسياسات العربية المنتهجة من قبل جامعة الدول العربية وحكوماتها في مجالات النفط والدبلوماسية، ولاستيراد المنتوجات الأمريكية والغربية ولنمط الوعي الجديد المنتشر بسبب الفضائيات والسلوك الديني المتأثر بالنزعة الوهابية والتدين الشكلي السهل والانغلاق المنتشر هنا وهناك، في حين يغيب التدين القائم على تصنيفه الخاص المنطلق من الأولوية المطلقة للقراءة ومن منح المرأة حقوقها لاسيما المتعلقة بالميراث، كل ذلك يتمّ على خلفية الانتماء للغة والأرض بالمعنى الضيق المحلي أو بتداعياته في الفضاء الواسع الوطني والعربي.
إن هذه الرؤية الواعية للحداثة يقابلها تصور آخر يمثلها البزناس الذي لا يفهم تلك الحداثة إلا مجسدة في الارتباط بامرأة غربية من المفضّل لديه أن تكون جنسيتها ألمانية أو سويسرية وفي أضعف الأيمان أن تكون فرنسية، لضمان شروط الثراء والهجرة إلى بلد يمكّنه من تكديس الثروة. إذ أن الشغل وفق الحدّ الأدنى لم يعد رهانا فهو متحقق بشكل أو بآخر في البلد الأم. وفي سبيل ذلك يقع التنازل عن التقاليد والثوابت الدينية والعقائدية والدخول في مغامرات الجنس واللذة التي تنهى عنها تلك الثوابت خارج المؤسسات المتعارف عليها. وهذا السلوك «الحداثي» هو سلوك ذكوري بامتياز لأن المرأة العكارية لا تزال محرومة من حقها في الارتباط بالأجنبي الأوروبي غير المسلم خاصة، مهما كان شكل العلاقة أللّهم أن يُشهر إسلامه، ومع ذلك تُلاحقها وصمة المجتمع لها، كما أثارها الفلم في أحد ثناياه. إذن هناك التقاء واضح بين الفنان التشكيلي والبزناس في الرغبة في الهجرة إلى الغرب الشمالي الأوروبي والأمريكي، وهذه الظاهرة استشرت في سلوك الشباب المحلي عامة وباتت قيمة منشودة لمن يقدر عليها ومن لا يقدر، ثم استحالت مأساة من مآسي المجتمع المحلي بجرجيس لأن وسائلها باتت في منتهى الخطورة والمغامرة، برّا وبحرا وجوّا، ولا تزال الذاكرة المحلية تحتفظ «بالغزوات» الكبرى التي قام بها البعض عن طريق مراكب صيد الأسماك أو بالسفر آلاف الأميال إلى الصين أو الأرجنتين أو غيرها ثم الهروب أثناء مرور الطائرة بمطار شارل ديغول بفرنسا، أو التخفي في إحدى السيارات العائدة إلى أوروبا بواسطة البحر وهي الرحلة التي تنتهي بالوفاة اختناقا. فكم من أرواح زُهقت وكم من نفوس انتحرت لأن أصحابها لم يحصلوا على التأشيرة التي تمكنهم من الدخول لهذا البلد أو ذاك ! وكم من أجساد التهمتها حيتان البحر بسبب غرق أصحابها ! ومأساة الهجرة لم تقتصر على ذلك الصنف من الشباب الفاقد لمقومات الحياة الضرورية بسبب البطالة والفقر والتهميش والانقطاع المبكر عن الدراسة والرغبة في الثراء، وإنما شملت شريحة هامة من الطلبة والخريجين من المتفوقين في دراستهم فتحولوا إلى أداة تساهم في نهضة المجتمعات الغربية، وكوادر مفكرة لها ونخبة مؤثرة في صيرورتها ومستقبلها بعد أن وصلوا إلى مراتب عليا في سلّم العلم والمعرفة والمكانة بفضل أموال الضرائب التي أُنفقت عليهم محليا وطنيا.



